انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 378/عراك في معترك. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 378/عراك في معترك. . .

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1940



أي معترك!

للأستاذ زكي طليمات

(نحن هنا عند استهلال تطور يستطيع أن يحدث تجديداً في

الحياة الأدبية، أو قل يجلب ثروة إليها، ولا يكون هذا الجلب

وذلك التجديد إلا بعد نضال عنيف).

هكذا ختم الأستاذ المستشرق (بروكلمن) دراسته لمسرحية (مفرق الطريق) للدكتور بشر فارس. وذلك في الجزء الثالث من الكتاب الثالث لتاريخ الآداب العربية، وهو الكتاب الذي وقفه المستشرق السابق الذكر للأدب العربي المستحدث.

وبهذا الحكم نفتتح ردنا على مقال الأستاذ محمد متولي الذي نشرته (الرسالة) في عددها 376، لنسكب في واعيته أن (مفرق الطرق) عمل أدبي إذا جرى النزاع عليه، فإنما هو يجري في معترك. . . أي معترك!

وآية ما نقرره أن الحديث حول هذه المسرحية يمتد من جديد بعد أن طوينا مكرهين صفحة منه مع (ناقد أديب) وأن المسرحية لا تبرح تشغل أذهان الأدباء، إما عن إعجاب وتقدير، وإما عن استغراب وبطء فهم.

الأستاذ متولي في مقاله المذكور يهدف إلى غرضين رئيسيين:

أولهما: أنه يريد أن يزيل الخصومة القائمة بين الدكتور بشر فارس والأستاذ الشاعر علي محمود طه، وهي خصومة أساسها - كما كتب عنها الأستاذ متولي نفسه في مطلع مقاله المذكور - أن بشر فارس نقد شعر الثاني فاتهمه بالإغارة والسلخ من المتقدمين والمتأخرين، فغضب الشاعر وانبرى يكيل له صاعاً بصاع، فاتهمه بأنه أخذ في كتابة مسرحيته (مفرق الطريق) من آراء وردت في قصيدة (القمة الباردة) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، فكان أن نصب الأستاذ متولي نفسه قاضياً بين الخصمين، على ما بين التهمتين من اختلاف في الجوهر وملابسات الأحوال، ليقضي بأن الخصمين شريفان، وأن السرقة لم تقع من جانب واحد منهما، ودعم رأيه هذا بأن الفن ليس (فكرة)، وإنما هو (صورة) أولاً وأخيراً.

والموقف كريم مهما كانت بواعثه، ومهما بعدت أسبابه عن الموضوع الذي نحن في صدده، وهو تحديد قيمة هذه المسرحية من الناحيتين الفلسفية والفنية.

بيد أننا نعبر بالكرم لنقول إن بشر فارس ما كان في حاجة إلى الحكم الذي قضى به الأستاذ متولي فيما له علاقة بالمسرحية، لأن أحداً - حتى ولا (الناقد الأديب) - لم يزعم أن بشراً سرقها من كاتب مسرحي متقدم أو متأخر، وإنما المسألة محصورة فيما إذا كان بشر قد استلهم في كتابة مسرحيته هذه من الفيلسوف (كانت) التي تمت إليه قصيدة الأستاذ العقاد، أو هو استوحى فلسفة (بيرجسون).

وأما ما أورده الأستاذ متولي دعامة لحكمه هذا من أن الفن (صورة) وليس (فكرة) فأمر لم يغلب عن ذهننا فيما سبق أن أجريناه في حديثنا السابق، بل سجلناه في أسلوب أوضح وأدنى إلى الثقافة العربية، إذ قررنا (أن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها جميع الناس، فهي دوارة في نفس الجاهل والسوق، والمتعلم والأديب، وإنما العبرة بطرائق معالجتها، وبالكسي التي تضفي عليها، من حيث حسن التأليف، وجودة التركيب والابتداع والنفس المبتكر الخلاق، وهنا مجال التفاوت بإبراز الشخصية الكاملة المستقلة).

ولم تدل بهذا في معرض الدفاع عن بشر فارس لأنه أغار على قصيدة الأستاذ العقاد فانتحل مذهبها الفلسفي لمسرحيته، ولكننا أوردناه لندفع زعماً آخر لا يدور حول المذاهب الفلسفية المرسومة وإنما يدور حول حقيقة من حقائق النفس البشرية التي هي عامة ومبذولة لكل كاتب، ألا وهي (الصراع بين العقل والشعور).

قررنا هذا المبدأ الذي له أصل عند نقاد العرب والذي عليه نقاد الغرب، محاولين أن نضع له قيوداً خشية أن يصبح الأمر فوضى فتنتحل المعاني وتغتصب الصور.

واقتصار الفن على (الصورة) أو (الشكل) كما يرى الأستاذ متولي، لا يعني أن يكون هناك فن رفيع وفن رخيص، وفن أصيل مبتكر وفن متبع مقلد، وشاعر يسرق وكاتب يستمد، فالتسليم بأن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها الكتاب، وبأن المتقدمين لم يتركوا شيئاً للمتأخرين، كل هذا وما يدخل في معناه، لم يحجز النقد عن أن يقيم الحدود بين الإغارة على المعاني وسلخها ونسخها وبين الاستلهام والتوليد والاستيحاء والتخريج.

أما الغرض الثاني من مقال الأستاذ متولي، فنقد مسرحية (مفرق الطريق)، وفي هذا المجال وثب الأستاذ متولي وثبة نقول إن التوفيق لم يحالفه فيها كما سنبين:

أراد الأستاذ متولي أن يحدد (الناحية الفنية) للمسرحية، فإذا به يتحدث في غير ذلك، ذلك أن المعنى المباشر (للناحية الفنية) لمسرحية ما، هو خضوعها لشرائط الفن المقطوع بها، من حيث مراعاة بلاغة العرض لحوادثها وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار ولطفه، وعمق التفكير وانسيابه إلى أعماق النفس يكشف عن خفاياها. . . الخ، ولكننا لم نطالع شيئاً من هذا في مقال الأستاذ متولي، بل طالعنا آراء تتطوح بين علم النفس وعلم الجمال، والعلمان من صميم الفلسفة، وإذا بالأستاذ متولي الذي نعت حديثنا عن الفيلسوفين (كانت) و (بيرجسون) (بالتفلسف) يكتب فصلاً في الفلسفة - ونأبى أن نقول على غراره: في (التفلسف) - وإذا بأسماء (ريبو) و (بيكون) وغيرهما تجري مجنحة مطلقة العنان، مما يدل على أن الأستاذ متولي أراد (بفنية المسرحية) أمراً غير ما يدل عليه المعنى المتداول للمصطلح عليه لدى رجال المسرح، إذ هو يريد بها، ولا شك، (الناحية الرمزية الفنية) للرواية، يأتي بهذا الملبس في فصل من القول يجب أن يكون قائماً على الدقة والإحكام.

والنقد الذي أراده الأستاذ متولي لمسرحية (مفرق الطريق)، هو للمقدمة أكثر منه للمسرحية، هذا في حين أن (المقدمة) أمر عارض، لأنه غير المسرحية التي هي مناط القول في الجدل، وما احسب أن بشراً كان يتجشم كتابتها متبسطاً لولا حرصه على أن يقرب المسرحية إلى أذهان القراء وييسر لهم أمر استيعابها وهي حدث جديد في التأليف المسرحي المصري.

وعلى اعتبار أن (المقدمة) هي العنصر الأول، كما يتعمد أن يراها متولي، لينتقصها ثم ينفذ من هذا إلى انتقاص قدر المسرحية نفسها، فأين الأخطاء التي وقع فيها كاتبها، وما هي مزالق الكلام فيها؟

لا أخطاء ولا مزالق كلام؛ وإنما هو تعسف وعنت من جانب الأستاذ متولي، ومرد هذا كله أن فكرته عن الرمزية محدودة ضيقة، إذ هو يريد أن يخضع كل ما يؤلف في الرمزية لما وجده عند (ريبو فقط، و (ريبو) هو واحد ممن كتبوا في الرمزية وعلم النفس، وواحد ممن أسقطت الآراء الفلسفية الحديثة أكثر ما ذهب إليه فيهما، كما سنشرح هذا.

ويؤسفنا أن نقرر، لو أن الأستاذ متولي، وهو الذي يحمل شهادة ماجستير للفلسفة، تعقب المراحل الحديثة التي مر بها علم النفس بعد العهد الذي ألف فيه (ريبو) كتابه (المخيلة الخلاقة الذي هو عمدته في النقد، أي بعد عام 1900، لعرف أن علم النفس الذي أفدت منه الرمزية كثيراً قد دخل في طور جديد تبدلت على أثره أوضاع في الأدب عامة، وفي الرمزية خاصة، كما تشهد بذلك مسرحيات (بيراندللو)، (جيرودو)، (جانتيوم)، وأن الرمزية المستحدثة أصبح مدارها خفايا النفس وبواطن الأشياء، وهو ما عبر عنه بشر فارس في مقدمته: (استنباط ما وراء الحس من المحسوس. . . الخ).

وقبل أن ننتقل من هذا نود أن يقف القارئ على آراء علماء اليوم فيما كتبه (ريبو) خاصاً بالمخيلة التي هي أساس في كتابه المذكور، وذلك كما وردت في مؤلف كبير يدرس اليوم في جامعة السربون بباريس، وضعه جمهرة من علماء فرنسا:

(يلوح لنا أن علم النفس عند (ريبو) في مسائل المخيلة والاختراع لا يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة)، ومن ذلك نرى أن حديث (ريبو) عن المخيلة في جميع العناصر المختلفة، قد أصبح موضع نظر، بعد أن بين الفيلسوف الأمريكي المعاصر (وليم جيمس) وغيره، أن مجرى الضمير متصل متلاحق من حيث إنه حقيقة متحركة، ومن حيث إن الفكر في تطور دائم، وكذلك قرر (بيرجسون) الفيلسوف الفرنسي المعاصر، أن الحياة النفسانية اندفاع وابتداع في زمن متصل الحركات.

(البقية في العدد القادم)

زكي طليمات