انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 378/رسالة الشعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 378/رسالة الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1940



في رياض نيسابور

أسطورة الخيام

للأستاذ إبراهيم العريض

- 1 -

في أرضِ إيرانَ حَيثُ الْهُضْبُ لابسةٌ

زنارها

من الثُّلوجْ

كالْحُورْ

تستقبلُ الشمسَ. . . والأنهارُ هامسةٌ

أسرارَهَا

بينَ المرُوجْ

للنُّورْ

جلا الربيعُ بنَيْسَابُورَ موكبهَ ... فزادَ عيداً إلى أعيادِها الأُخرِ

يا ناعماً في رُبوعِ الخلْدِ ليلتَه ... مستْ خُطاكَ ثرَى الوادي معَ السحر

فلم تزلْ خُفراءُ الطْيرِ تهتفُ في ... أفْنانِها لجنُوم الأرضِ بالخبر

حتى تلأْلأْنَ في ضوءِ النهارِ ثنًى ... وفُزْنَ منكَ فُرادى بالشذى العطِر

فالزهرُ في قاعِها يفترُّ مبْسَمُه ... يا ليلُ! هل صبغَتْ فاهُ يدُ القمر

والعشبُ مِنْ حولهِا يزهو بخُضْرِته ... يا أفقُ! هل هو مَيْدَانٌ إلى النظر

والطيرُ من فوقِها في ظلِّ وارفةٍ ... يا غصنُ! هل أخذتْهُ رشةُ المطر

والنهرُ من تحتهِا في موجهِ ألقٌ ... يا شمسُ! هل هو مِرآةٌ إلى الشجر

إني لأسمعُ في أرجائها ضَحِكاً ... كنغْمَةٍ بعثنْها هزَّةُ الوتر

يا مَنْ يُؤَمِّلُ في الفِرْدَوْسِ بُغْيَتَهُ ... قررْتَ عْيناً بها في هذهِ الصُّور

لبِّ الحياةَ فقد عمَّتْ بدعوتِه وما الربيعُ سوَى تجْدِيدِ ذِكراها

- 2 -

أَتَى الربيعُ إلى الدُّنْيا كعادتِه

بما اجتناهُ

منَ الْجِنانْ

مِلءَ اليَدِ

فكادَ يُشْغلُ عنها في عبادتِه

بما رآهُ

مِنَ الْحِسَانْ

في المعْبَدِ

وأَقْبَلَتْ تتَهادَى في غلائِلِها ... بنْتُ الْجِنان تُحيِّيها كَحَوَّاءِ

لو حاول الليل أن يغْزُو غدائِرَها ... لماجَ يسألُ أَيْنَ الكوكبُ النائي

تضاحَكَ الورْدُ لما قِبلَ وَجْنَتُها! ... أكنتَ (يا وردُ) مَشْغُوفاً بإطراءِ

فأسفرتْ عن مُحيّاً في بشاشَتِهِ ... يكادُ يَقْطُر مِنْهُ الحسْنُ كالماء

شفَّ الحريرُ الذي وارَى ترائِبَها ... عن فاتِنَيْنِ. . . فهل هَمَّا بأشْيَاء

لم تسْحَبِ الذيل فوقَ الزْهرِ سائرةً ... إلا ومالَ يُزَكِّيها بإيماء

حتى أتَتْ مَحْفِلاً في الروضِ مُنزوِياً ... قد لاذَ في السُّكرِ أَهْلوهُ بأفياء

هذا أخُو شْيبَةٍ ألْقَى اليَرَاعَ عَلَى ... ما خطَّه وانْثَنى في شبهِ إغفاء

فهيَّأتْ كأسَه حتى إذا نظرَتْ ... ما في الصحِيفةِ غنَّتْ للأحِبَّاء

والشَّوْقُ في دمِها والعُودُ في يدِها ... يُعيدُ نغمتَها الأُولَى بأصْدَاء

يا نائماً في ظِلاِل الكرْمِ وابنْتُه

في الْحُلْمِ تُؤْنِسهُ قُمْ وَارْتشِفْ فاها

- 3 -

هَذا الجمالُ الذي كَمْ وَدَّ ناظِرُه في مَيْعةٍ

من صِباهْ

لوْ نَالهْ

يا وردُ! مِثْلَكَ إن حَيَّاهُ شاعرُه

بنَغْمَةٍ

من هواهْ

أصْغَي لهْ

شِيرينُ غنَّيتِ صوتاً كانَ يُطْرِبُني ... ليتَ الأحِبَّاَء عادوا لي مع النغَمِ

ناموا وهدْهدَتِ الأزهارَ بعدَهُمُ ... يدُ الربيعِ على عَيْني فلمْ تنم

ذكَّرْتِني بشبابي إذ تطوفُ بهِ ... في باحةِ الْخُلْدِ آمالٌ مَدى الْحُلم

إذ كنتُ أُطُلق نفسي في سجِيَّتِها ... فلا تني السْبقَ من جرىٍ على قدم

أشكو مواقعَ عينَيْ كلِّ فاتنةٍ ... مفتونةٍ بالذي أجلُو من الشَّمم

باحتْ بسر شكاةِ القلْبِ رائعةٌ ... تلوحُ كالبرْقِ في داجٍ من الظُّلم

ما للبياضِ أحالَ الله جِدَّتَه ... يُفْضي إلي الهمِّ لا يفضي إلى الهمم

نُعِدُّ للصَّبْرِ أنفاساً محرَّقةً ... حتى تحولَ رماداً فَحْمَةُ اللِّمم

لأقْطعنَّ نِياطَ القلبِ إن وَجدَتْ ... نفْسِي سبيلاً إلى غرْسِ المُنى بدمي

فلو سَفرْتُ عن الآمالِ كانَ بها ... ما بي من الزمنِ الموفىِ على الهرم

فَجَدِّدِي لَيِ باللَّحْنِ الجميلِ رُؤىً

لا زلتُ تحتَ ظِلالِ الكرْمِ أرْعاها

- 4 -

يا طرْفَها! إنَّهُ قضَّى الحياةَ إلى

مَشيبِهِ

في اكْتِنَاهِ

الشُّهْبْ

وظلَّ مُجِمَرُه في الأرضِ مُشتِعلا بطيبِه

لإِلهِ

الْحُبْ

شِيرينُ حُسْنُكِ أَعْطَى الأرْضَ زِينتَها ... حتى ولو لم يَزِنْها كفُّ نَيْسانه

فكيفَ والطيرُ قد بلَّ الندى فمهُ ... فطارَ يَمْلأُ مَغناها بألحانه

هذا الربيعُ قد استلقى بحاشيةٍ ... من الزهورِ على الوادي وشطآنه

يُصيخُ للبُلبل العِربيدِ وَهْوَ على ... أُرجوحةٍ من نسيمِ الرَّوْضِ أو بانِه

يَهُزُّ أرجاَءها هَزّاً بنغْمتهِ ... ولا يُفيقُ كأنّ السُّكرَ من شانه

فلقِّنيهِ من الألحانِ أطربَها ... إلى النفوسِ وجازِيه بإحسانه

وبادِلي الرَّوْضَ أنفاساً مُعطرة ... فما أرقَّ الصَّبا في ظلِّ أفنانه

وضاحِكي الوردَ في إِباَّنِ حُمْرَتِهِ ... فَرُبَّما عادَ مطوِيّاً لأشجانه

ودونَكِ النهرَ فأنْسَيْ في تدفُّقِهِ ... هذا القميصَ الذي يُزْري بإِنسانه

أما كَفى الْحُسْنَ أنَّ الَموْتَ يَرْصُدُهُ ... فماله في الصِّبا يسعَى بأكفانه

وقَبِّليِ الكاسَ ما دامتْ مُشَعْشَعَةً

ولا تشِحِّي على ثَغري ببُقياها

- 5 -

يا رَّبةَ الْحُسْنِ! إنَّ السُّكْرَ مَبْعَثُهُ

عَيْنَاكِ

وحْدَهُمَا

لا الكاسْ

وَأَيْنَ من شفَتَيْكِ السِّحْرُ ينْفثُهُ

صرْعَاكِ

باسمِهِمَا

في الناسْ

طافتْ عليهمْ بها كالشَّمْسِ ساطِعَةً ... يُري عَلَى الخدِّ من لأْلأَئها شفَقُ فعبَّ فيها ثلاثاً وَهيَ تسْنِدُهُ ... حتى تماسَكَ فيِ أَحْشائِهِ الرمق

وعاوَدَ العُودَ شْيءٌ مِنْ تملْمُلِهِ ... لما غَدَا العُودُ بيْنَ الجمرِ يحتْرِق

فظلَّ يبعثُ فِي الأَسْمَاعِ أَنَّتَهُ ... مَوْصُولَةً دُونَ أن ينتابَها قلق

ثم استمرَّتْ تغُنِّيهم - بما حملتْ ... يدُ الربيع لهم - والعُودُ يصْطفِق

(يا عَاشِقَ الوَرْدِ! ما جاَء الربيعُ لكيْ ... يحْيا حبيبُكَ مَحْفُوفاً به الودق)

وصوْتُها ماجَ بحراً لاَ هُدُوَء لهُ ... من كلّ نجْمٍ عَلَى أَمْوَاجِهِ الق

يعْلو، فتحْسبُه شقَّ القلوبَ إلى ... حبّاتِها، وَطوى آلامَها الغرق

حتى إذا خفَّ - مغْموراً بمْوجَتِه - ... شيئاً فشيئاً، تراَءى حولَها الأفُق

فمالَ كلُّ ندِيمٍ في ترنُّحِهِ ... على سِوَاهُ من الصوْتِ الذي عَشِقوا

فاقْطِفْهُ في زَهْوِهِ. . . وانْظُرْ إلى دَمِهِ

هل مَازَجَ الكاسَ إِذْ تُسْقِي وَتُسْقاَهَا

- 6 -

باتَ الهزارُ بقرْبِ الوردِ يَعْبُدُهُ

يا طَلُّ

كُنْ كالْخَمْرِ

رقْراقا

وقُلْ إلى النَّجْمِ إِنَّ الفَجْرَ مَوْعِدُهُ

يَظَلُّ

حتَّى الفجرِ

برَّاقا

وتمَّ للشَّمْسِ في الأفلاكِ جولتُها ... فجاوَزَتْ بخُطاها الغرْبَ في خفَرِ

وظلَّ من بعدِها ما أحمرَّ من شفَق ... يسائِلُ الأرضَ هل غابت عن النظر

فانفضَّ في الرَّوْضِ حفْلٌ كان مُنشِدُه ... من الطيورِ وساقيهِ من الزَهر

وأقبلَ الليلُ يحْدُوه تطلّعُهُ ... إلى الذي خَلَّفَ النُّدمانُ من أثر

يا ليلُ أنفرطَ العِقدُ الذي امتلأَتْ ... به يداكَ ففاض الكوْنُ بالدُّرر لولا سناها لما عاينْتَ شاعرَهم ... وقد توسَّد كفّيْهِ على النهر

بجنبِ شيرينَ مأخوذاً برَوْعةِ ما ... تُدليهِ في مائه الجاري من الشَّعر

ووجهُها باسمٌ يُغني بطَلعتِه ... عن الشُّمُوعِ ويُمناها على الوتر

قال: انظُري كيفَ يبدُو في الظلام لنا ... سرُّ الجمالِ الذي يخفَى مَعَ السحَر

شِيرينُ! لو كانَ لي بْعدَ البِلى أملٌ ... لما تَمنَّيْتُ إِلاّ ثانِياً عُمُرِي

فعشتُ في هذهِ الدنيا كعهْدِكِ بي

للحُسْنِ. . . يُشعِلُ لي ناراً فأغْشاَها

- 7 -

لِلحُسْنِ فينا - كما فيهِ لنا - وطَرٌ

مَنْ لمْ يَحُمْ

بَينَ يَدَيْ

نُورِهْ؟

عاشَ الندامَى. . . وحَلّى كأسَهُمْ قَمرٌ

على النغَمْ

مِنْ عَرْشِ دَيْجُورِهْ!

عادَ الربيعُ لنيْسَابورَ ثانِيةً ... وقدْ تبدلَ زاهي أمْسِها بغدِ

فكانَ في الموكبِ التالي كسابِقِه ... يَمْشي معَ الْحُسنِ مُخْتالاً يداً بِيد

كم ذابَ قلبُ هزارٍ في ترنمِهِ ... حتى تضوعَ هذا الزْهرُ وهْوَ ندِ

عادَ الربيع وقد حف الْحِسانُ به ... إلا الذي كانَ يهْوى الْحُسْنَ لم يعْد

سلِ الوُرودَ وقد وارتْ بكلَّتِها ... ضريحَهُ لَمِ لمْ تُكْثِرْ من العَدد

هُناكَ حيثُ قديماً طابَ مَحْلُفِهُمْ ... حلَّ الندامَى على أنماطِها الْجُدد

عادَ الربيعُ. . . فلا ردُّوا تحّيتّه ... إلا بأحْسَنَ منها - دائِمَ الأبد

بِشُعْلَةٍ في يدَيْهاَ رُوح شاعِرِهِمْ ... مثْلَ الفراشِ حوالَيْها معَ الحشد

حتى إذا تمَّ دوْرُ الكاسِ بْينَهُمُ ... مالتْ إلى القْبرِ بالباقِي ولم تكد

فرددتْ قولَه - والعودُ في قَلقٍ ... تهْتزُّ أوتارُهُ من صَوتِهاَ الغرِد - (واضَيْعَةَ الكاسِ يوْماً إن عثَرْتِ بها

على رُفاتي. . . فلَمْ أَنْعَمْ بِرُؤْياها)

(البحرين)

إبراهيم العريض