انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 360/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 360/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1940



بعد الاستئذان

استنجللينا!

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- مسكين أخي أصيب بحب ابنة الجيران فهو لا يأكل ولا ينام، وقد حاولت كثيراً أن أجعله يفهم الحب لغواً وطيشاً وخيالاً، ولكني فشلت، وظل يقول إنه يشعر بوجع صحيح في قلبه وإنه لن يبرأ منه حتى ينال ابنة الجيران وهو ما يزال عند أبيه في البيت بين العيال

- عندي دواء أخيك!

- والنبي؟

- لا أقسم بفائدته لأني لم أجربه ولكني أكاد أومن بأنه نافع. . .

- نجربه نحن. . . ما هو؟

- خذي مسماراً، وضعيه في النار حتى يحمر، ثم انخسي به صدر أخيك فوق قلبه. . .

- نخستك النار في أحشائك. . . تريد أن تقتل الولد؟!

- ما كان الكي قاتلاً يوماً. العرب وأهل الصعيد جميعاً يعالجون أدواءهم به، وانظري إليهم تريهم أشد العالمين صحة، وأقواهم أبداناً وأرواحاً. . .

- ولكنهم يكوون أبدانهم عندما يصيب المرض أبدانهم، لا عندما تبرح بهم العواطف، ولا عندما تصيبهن الهموم. كان فيهم من جن بحب ليلى، قيس، لم ينخسوه بمسمار ولم يطعموه الحر

- صحيح أنهم قعدوا عن علاج قيس وأمثاله، وقد أقعدهم عنه وقوفهم بعلمهم عند حد رضوا به هم، ولكن هذا لا يجبرنا على أن نقف نحن أيضاً عند هذا الحد ارتضوه من العلم فلنا أن نمضي فيه ما دام طريقه مفتوحاً. . . لقد أخذ العالم صناعة الورق عن الفراعنة، فهل وقف العالم في صناعة الورق عند ورق الفراعنة، وأبى أن يمضى فيها لأن أهلها الذين أوجدوها قعدوا بها عند حد؟!

- طيب! فإلى أين تريد أن تمضي أنت بخزعبلاتك هذى؟ - لا أعلم. ولكن لك أن تسألي من أين أريد أن أبدأ. . . فهذا وحده ما أستطيع أن أجيبك عنه!

- ابدأ أينما تبدأ، ولكني أرجوك أن تنتهي إلى شيء يقره العقل. . .

- وما العقل؟ أظنه يحسن بنا أن نتفق عليه، وعما يصلح لأن يكون موضوع إقراره، حتى إذا ما وقفنا عند رأي لم نختلف عليه؛ فتقولين: إنه غير معقول؛ وأقول أنا: إنه معقول؟!

- ولكن هذه حكاية جديدة، بل هي حكاية قديمة جداً فيما أظن. . . ألم تعرف إلى الآن العقل ما هو؟

- ومن عرف!

- الناس جميعاً. . . اللهم إلا أولئك الذين لا يزالون يسألون عنه

- كان يخيَّل إلىّ أن هؤلاء الذين يسألون عنه هم الذين عرفوه مرة مرات ويريدون أن يعرفوه دائماً. . .

- ما هذا الكلام؟ الشيء إذا عرف مرة عرف دائماً

- إلا العقل. . . فهو حين يعرف العقل يكون عارفاً ومعروفاً في الوقت نفسه، وهذا يستلزم أن ينشق العقل على نفسه، أو أن يتداخل في نفسه، أو أن ينتفض عن نفسه لمحة، ثم يعود إلى نفسه، فإذا عاد إلى نفسه عاد عقلاً هو الذي كان قبل أن تحدث له حادثة المعرفة هذه، ولم يكن هو قبل هذه الحادثة يعرف شيئاً عن نفسه. . .

- هذا فرض يحتاج إلى إثبات

- إذن، أثبتيه أنت

- وأنا مالي؟ هل أنا الذي فرضته؟. . .

- ولكن، ألا ترينه معقولاً؟

- ومن كلام المجانين ما هو معقول

- فليسوا مجانين، أو هم ساعة ما يقولون الكلام المعقول لا يكونون مجانين. . . وما داموا يكونون مجانين أحياناً، وغير مجانين أحياناً فهم إذن كبقية الناس، فما من إنسان إلا ويحيد عن العقل وحكمه في كثير. . . فإما أن يكون الناس على هذا مجانين جميعاً، وإما يكونوا عقلاء جميعاً، وإما أن يكونوا جميعاً في حالة ثالثة يصيبون فيها الحكمة حيناً ويخطئونها حيناً، وهذا ما قدمته لك من أن العقل شيء إذا اهتدى إليه مرة لم يكن معنى ذلك أنه قد ربط وأنه لن يشرد ويتيه في وديان النسيان

- وقد قبلت أنا هذا الرأي وسأدعك تقول ما تشاء على أساس أنه لا عقل ولا جنون

- وأنا لا أرضى بهذا، فالعقل شيء موجود بلا ريب، وكل رأى لا يوافق العقل لن يكون إلا خبلاً، وأنا لا أحب ابنة الجيران مثل أخيك حتى اسمح لنفسي أن أسايرك فيما تريدين أن تعربدي فيه من الحديث وأنت مترنحة الفكر. . .

فماذا تريد مني أن أصنع؟

- أريد منك شيئاً لا بد أن أطلبه من نفسي كذلك حتى نكون نحن الاثنين عاقلين فنستطيع أن نتفاهم. خذي هذا الخيط وهذه الإبرة وهذا الثوب وخيطيه، وأما أنا فسأرسم في هذه الورقة دائرة، سأجعل نصف قطرها عشرة سنتيمترات، وسأقسم محيطها إلى عشرة أقسام وسأجعل في كل قسم منها وتراً، وسأجعل كل وتر من هذه الأوتار قاعدة لمثلث رأسه مركز الدائرة، ثم سأرسم في كل مثلث دائرة يمس محيطها أضلاعه الثلاث ثم سأجعل كل نقطة من نقط التماس هذه رأساً لزاوية من زوايا مثلث آخر سأرسمه داخل كل دائرة من هذه الدوائر الصغار. . . خذي. . . إبدائي. . . وهأنذا سأبدأ معك ولنتحدث. . .

- ما شاء الله! ولن أكون عاقلة حتى أخيط لك الثوب، ولن تكون أنت عاقلاً حتى ترسم بيت جحا هذا الذي وصفته. . .

- نعم. . . مثلما كان يفعل الكردينال دي ريشلييه. . .

- رحمه الله. . . هو أيضاً كان يخيط الأثواب ويرسم المثلثات والدوائر. . .

- بل كان يجمع على مكتبه جيشاً من القطط لا يفتأ يحادثهن في المشكلات التي تعرض له ويسألهن حلها ويتملقهن استجداء لحلول معضلات ومشكلاته من عندهن، فهو يمسح هذه ويداهن تلك، ويهز بأصابعه شوارب ذاك، ويهرش بأظافره رأس هذا. . . ولا يزال هكذا حتى ينفلق عقله أو ينبلج، فينكشف له عقله ويرى الحكمة. . . إنه يشغل نفسه بعملتين عقليتين: أولاهما المعضلة التي يروم حلها، والثانية مناوشة القطط، وهو لم يكن يفعل هذا إلا لكي ينتفض عقله على نفسه ثم ينطبق مرة أخرى فإذا به في هذه الانتفاضة قد ومضت فيه شرارة من نوره هو، هي ما كان يبحث عنه ليسير على هدية. . . ألم ترى مطلقاً أناساً يتشاغلون في أشد مواقف التفكير حرجاً برسم الخطوط، أو بضرب الأرض، أو بفك الأزرار وإعادتها ثم فكها وإعادتها أو بحك جباههم أو بأي مشغلة يتشاغلون بها أثناء ما هم يفكرون فيما يحرجهم؟. . . كل هؤلاء مثل الكردينال دي ريشلييه، فهلا تحبين أنت أن تكوني مثله؟. . .

- ولكن الكردينال كان رجلاً هرماً لا أظنني كنت أحبه إذا رأيته. . . أفلا تعرف مثلاً آخر أرشق من الكردينال دي ريشلييه. . .

- فلتكوني مثل جاري كوبر. . . ألم تشاهديه في (مستر ديدز الشاذ)؟

- شاهدته. واتهموه بأنه (استنجللينا)

- فأثبت لهم أن كل الناس (استنجللينا) خذي الثوب خيطيه لعل جاري كوبر يراك فيعجب بك فيكون يوم سعدك. . .

- وأين أنا منه، وهو في هوليود وأنا في القاهرة. . . هات الثوب هات وأمري لله، وابدأ أنت في الرسم كما تشاء، وقل ما تريد. . .

- وهو كذلك. . . ولكن في أي شيء كنا نريد أن نتحدث. . . لقد نسيت. . .

- أظنك كنت تريد أن تعالج حب أخي لابنة الجيران بأن تكويه فوق قلبه بمسمار محمي في النار. . .

- صحيح، وكنت أنت تنكرين هذا، وكان إنكارك يعتمد على اعتراض قوي هو أن الحب عاطفة وليس مرضاً بدنياً حتى يعالج بدنياً صرفاً. . . أليس كذلك؟

- بلى. . .

- أما كنت تستطيعين أن تقولي شيئاً غير (بلى) هذه فإني لا أحبها. . . على أي حال هي مسألة ذوق، وعلاجها هي أيضاً مسمار محمي في النار تنخسين به لسانك فلا تعودين إلى النطق بها وبأمثالها

- ما أحد لسانه في حاجة إلى الكي غيرك. . .

- إذن فقد آمنت بالنظرية؟!

- لا يا سيدي. . . سحبتها. . .

- حسن. . . اسمي. . . ألا ترينه معقولاً أن تكون كل علة بدنية ظاهرة لعلة نفسية. . .

ثم ألا ترين أنه إذا كان الأمر كذلك فإنه يكون فيه توكيد لصلة البدن بالنفس

- ليس لي شأن بهذا التوكيد، وإنما أريد منك ولو بعض الأمثلة التي تستطيع أن تتخذها عوناً لك على إثبات ما تقول. . .

- لا بأس. . . من تظنينه تصيبه التخمة إلا من أصابه الجشع والدناءة؟ ومن تظنينه يصاب بالمرض الخبيث إلا الذي خبثت نفسه وانقاد لخبثها؟ ومن تظنينه يصاب بالعرج إلا المشاء في الظلال وفي الظلمة؟ لست أريد أن أمضي معك إلى أكثر من هذا إلا أن أقول لك إن هذا الحكم يسمح لكثير من الأفراد والحوادث أن يشذوا عنه. ولكن هذا لا يعنينا، فشذوذ الحوادث والأفراد يحتاج إلى تأمل خاص في كل فرد وفي كل حادثة على أن يكون هذا الدرس بعد اليأس من انطباق القاعدة العامة. . .

- طيب، وبعد هذا؟

- ما دمنا قد اتفقنا على هذا فقد سهل الأمر. والعرب، وأهل الصعيد - وهم منهم - عرفوا لكل داء دواء مكمنه في أعصاب الإنسان أين هو، وهم يكوون هذا المكمن بالنار فتطهر الأعصاب من رذيلتها وضعفها، ويزول المرض، وهم بهذا قد فتحوا لنا الطريق كما قلت لك، وعلى علماء النفس وأطباء هذه الأيام أن يتابعوا السير في هذا الطريق، وعلى الخصوص بعد أن قال قائل منهم إن مخ الإنسان ينقسم إلى مراكز عقلية، لكل مركز منها عمل خاص، فهذا للتذكر، وهذا للحساب، وهذا للاستنباط، وهكذا، ولست أدري لماذا لا يفكرون حين يصيب المرض مركزاً من هذه المراكز في أن يكووه ليطهروه وينقذوه، وليس ضرورياً في أن يكون الكي بالنار، فعندهم من وسائل الكي ما هو أشفق من النار وأرحم، وإن كانت النار أبلغ منه وأفعل، ثم مالنا نفرض أن كل مراكز العقل مجتمعة في المخ، ولماذا لا يكون بعضها في أعصاب أخرى غير المخ تلتف فيها الروح بالجسم أو تلامسها كما يلامس محيط هذه الدائرة زوايا هذا المثلث في هذه النقط الثلاث. . فإذا جاز أن يكون هذا، فلماذا لا يكون في القلب مركز الحب وهاهو ذا أخوك يقول لك إن قلبه يوجعه وجعاً مادياً حقاً. . . انخسيه بمسمار، أو إذا شئت أن تترأفي به فأحمي له (دبوساً). . .

- يا شيطان أخاف عليه أن يموت. . .

- لن يموت، فعمر الشقي بقي، وإنما سيحدث بإذن الله أن يخرج أذى الحب من ثقب المسمار أو الدبوس، آهات، وشعراً، أو غناء ندباً وبكاء، ثم ينتهي الأمر ويبرأ أخوك من الحب، ولي بعد ذلك الحلاوة. . .

- هي هذه الحلاوة التي راح عقلك فيها. . .

عزيز أحمد فهمي