مجلة الرسالة/العدد 355/النقابات الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 355/النقابات الإسلامية
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري
أكثر الكتاب والمؤرخون في سرد الوقائع، ووصف أبهة
القصور وعظمة السلطان، وجعلوا التاريخ سلسلة حوادث
متفرقة، متباينة، وأغفلوا التيارات الاجتماعية التي كان لها
أكبر الأثر في سير التاريخ، يظهر هذا خاصة في التاريخ
الإسلامي. ثم تنبه بعض المستشرقين لذلك، وحاول أن يسد
بعض هذا النقص. ولدينا في هذه الرسالة (النقابات الإسلامية)
عرض عام لنتيجة البحوث عن أهل الصناعات والحرف في
الإسلام
وقد ترجمت هذه الرسالة لأنها تعطي القارئ العربي فكرة عن نظر بعض المستشرقين إلى بعض مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية في التاريخ الإسلامي. وقد نشرت هذه الرسالة في مجلة
, , 1973
ولكن النص العربي يحوي إضافات ومعلومات لم تنشر هناك، وهي النتائج الأخيرة لأبحاث المؤلف عن موضوع؛ إذ تفضل بإضافتها أخيراً
(ع. د)
إن طوائف أهل الصناعات والحرف هي من أهم ظواهر الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى.
يندر أن يجد الإنسان أثراً لما نسميه روحا مدنية (نسبة إلى مدينة)، أو تنظيماً بلدياً ( إلى بلدية) في البلاد الإسلامية فقد كانت المدن الإسلامية في القرون الوسطى وقتية الظهور على الأغلب، تتمتع بازدهار تجاري أو ثقافي لمدة قرن أو نحو قرن، ثم تتضاءل أو تختفي. وبهذا ندر وجود طوائف بلدية معينة، أو حدات متحضرة دائمة. إذ أن روح التكتل والتنظيم المحلى التي كان لها أهمية كبرى في أوربا في القرون الوسطى، منعت من الظهور في الحقل السياسي بتأثير الأوضاع السياسية المضطربة في البلاد الإسلامية، وسيقت تلك الروح لأن تجد لها منفذاً في الحياة الاقتصادية. وهكذا نجد في أصناف الحرف في الإسلام ما يساوي تلك الحياة المحلية القومية التي هي من أبرز مظاهر تاريخ أوربا في القرون الوسطى.
كانت النقابة مهمة في الحياة الإسلامية لدرجة أنَّ تخطيط المدينة - التي كانت تبنى على أساس سوق تجارية - كان يقرر في كثير من الأحيان حسب حاجات أصحاب الحرف. فنرى أن المدن الإسلامية من مراكش إلى جاوة ظهرت بتماثل عجيب متمركزة حول ثلاث أو أربع نقاط أساسية
فأول نقطة ثابتة هي سوق الصرافين، وهو مركز هام دائماً في النظام الاقتصادي الثنائي الأساس في العملة، كما كانت الحال في البلاد الإسلامية في القرون الوسطى
ونجد حواليه جامعي المكوس، ثم دار الضرب (إن وجدت هنالك واحدة)، ثم سوق المزايدة، ثم المحتسب وهو ملاحظ الأسواق. وهنا نجد الحمالين أيضاً
والمركز الثاني هو القيصرية - وهي بناية محكمة تخزن فيها البضائع والنفائس الأجنبية ويحتمل أن يكون الاسم بيزنطي الأصل. والمركز الثالث هو سوق العزل - حيث يأتي النساء لبيع إنتاجهن اليدوي. وهنا نرى المتعاملين بالحاجات التي يشتريها النساء كالقصابين والخبازين وبائعي الخضر الخ. . .
والمركز الرابع هو الجامعة أو المدرسة. وهي ملحقة عادة بمسجد، وفيها يكوِّن الطلبة والأساتذة نظام نقابة حقيقة.
ويشتغل أهل الحرف حول هذه المراكز الأربعة، كل صنف في سوقه الخاص. يلاحظ من هذا أن توزيع النقابات يتبع هذا النظام في المدن المختلفة حيث توجد هذه المراكز الأربعة.
دعنا الآن ننظر في منشأ هذه النقابات، وهو بحث يلاحظ فيه أنه لم يتقدم بالقدر الكافي هناك رأي يقول بأن هذه النقابات هي متممة للنقابات البيزنطية التي سبقتها، إذ كانت توجد نقابات متعددة في المقاطعات البيزنطية كسوريا ومصر حتى القرن السابع الميلادي. وليس من المحتمل أنه قضى عليها من قبل الفاتحين العرب الذين كانت سياستهم كما نعلم ترك الهيئات الإدارية والاقتصادية التي خلقها البيزنطيون كما كانت عليه تقريباً. ومع ذلك لا نرى أية إشارة إلى وجود نقابات إسلامية قبل القرن العاشر الميلادي؛ أي بعد ثلاثة قرون (مع بدء الفتح)، كما أن هذه النقابات كانت من نوع يختلف تماماً عن النقابات الموجودة قبل الفتح الإسلامي. وليس لدينا إلا ملاحظات قصيرة متقطعة (عن النقابات) خلال هذه الفترة وأولها جملة في تاريخ ابن عذارى المراكشي إذ يقول عن والي أفريقية والغرب سنة 770م (155هـ): (وكان يزيد (بن حاتم) هذا حسن السيرة فقدم أفريقية وأصلحها ورتب أسواق القيروان وجعل كل صناعة في مكانها)
ومع أن الكتاب الذي يحتوي هذا النص قد كتب في القرن العاشر فلا مانع من قبول صحة هذا الخبر وهو خبر طريف في ذاته، إذ أنه يظهر أن الأمير العربي وضع العمال والأسواق في القيروان، وهي مدينة جديدة بناها العرب الفاتحون، تحت نفس الإدارة والمراقبة كما كان يفعل الحاكم البيزنطي في المدن المجاورة. ولكن يظهر لي أن استنتاج وجود نقابات عربية في القيروان من هذه العبارة، كما فعل (فون كريمر و (آتجر غير مؤيد بالبيانات الموجودة
وفي نهاية القرن التاسع الميلادي نجد عدداً لا بأس به من المصادر يشير إلى وجود شئ من نظام التكتل بين التجار وأصحاب الحرف. ولكن هذه الأصناف لم تصل بعد إلى درجة يصح اعتبارها كنموذج للأصناف الإسلامية. وإنما هي مجرد تنظيم عام وضبط للأسواق والحرف من النوع الموصوف في المصادر البيزنطية المعاصرة يمكن أن نستنتج من هذه الإشارات أن الأمراء المسلمين احتفظوا بأشكال السيطرة العامة التي كانت للإدارة البيزنطية على الحرف - على الأقل في معاملاتهم مع الصناع من غير العرب وغير المسلمين - وربما امتد ذلك حتى إلى المسلمين أنفسهم. وعلى كل حال فإننا نجد في القرن التالي تطوراً ظاهراً فيما يسمي بالأصناف الإسلامية، وحينئذ نجدها من نوع لا يصح تعليله بالتأثير أو التراث البيزنطي. وتوجد نظرية أخرى بجانب هذه النظرية يتطلب فحصها الانتقال إلى موضوع قد يجهله غير المستشرقين
بدأ المستشرقون في السنوات الأخيرة يتأكدون أكثر فأكثر أن المذهب السني في العصر الأول للخلافة لم يكن أبداً مذهب الطبقات العامة، وكلما ازدادت دراسة الباحث في الأدب الإسلامي في القرون الوسطى ازداد الاتضاح من المذهب السني كان ينظر إليه في كل محل كدين طبقة مسيطرة، دين الدولة وميزة الأرستقراطية العربية الحاكمة وقد كانت هذه نظرية الفاتحين أنفسهم في الأدوار الإسلامية الأولى، ولقد كانت الأكثرية الساحقة بين رعايا الخليفة - لقرون عديدة بعد الفتح الإسلامي - غير سنية تكره المذهب السني كرمز لسطوة طبقة أجنبية حاكمة تتمتع بامتيازات خاصة
ومع ذلك كان الشعور الديني قوياً بين الطبقات العامة، وقد تجلى هذا الشعور بظهور سلسلة فرق متزندقة منشقة منذ القرن الثامن الميلادي حتى الفتح المغولي، وتتصف جميع هذه الفرق تقريباً بفلسفة خاصة تحتوي عناصر مقتبسة من فرق سبقت العصر الإسلامي كالأفلاطونية الحديثة والمانوية والمزدكية وبفلسفة اجتماعية ثورية فيها عامل المساواة بين الأفراد وبتنظيم سري يشبه النظام الماسوني، وهي عادة من أفراد من مختلف الطوائف مع درجات من التنشيئ والتهذيب، ونجد مثلاً عصرياً لنجاح هذه الفرق وفشل المذهب السني في حالة الهولنديين في الهند الصينية (إندونيسيا) والفرنسيين في أفريقيا الغربية، حيث على الرغم من قواها المتفوقة نجد البعثات المسيحية تتقدم بين السكان الوطنيين بنجاح اقل من نجاح الدعوة الإسلامية. فهنا أيضاً يرى الزنجي أو الإندنوسي أن المسيحية متصلة بحكم أجنبي، فيفضل أن يكون مسلماً من الدرجة الأولى على أن يكون مسيحياً من الدرجة الثانية
بلغت هذه الحركات الدينية أوجهها في القرنين العاشر والحادي عشر. فقد كانا مرحلتي تطور صناعي وتكتل حضري. فظهور نظام راق للبنوك مركزها بغداد، تغطي فروعها الإمبراطورية، ساعد على تجهيز الدولة بالنقود وعلى حفظ النقود بصورة عامة أساساً للاقتصاد. وقد أثر هذا على النمو الصناعي، فأنتج تمركزاً في رأس المال والعمل كما ولد النمو السريع في رأس المال حسب المنتظر مشاكل اجتماعية خطيرة. إذ نقرأ عن سلسلة اضطرابات خطيرة في بغداد، وعن ثورة الزنج في أسفل العراق في القرن التاسع، ثم عن ظهور فرق دينية باستمرار. وفي هذا العصر زلزل العالم الإسلامي بحركة ثورية سياسية اقتصادية ثقافية في نفس الوقت أنتجت الخلافة الفاطمية في القاهرة. فالحركة الإسماعيلية (أو القرمطية) - ما تسمى هذه الحركة تبعاً لأسم أهم شعبها وأكثرها أهمية - تميزت بآراء حرة عجيبة. إذ وجهت دعوتها إلى مختلف الفرق الإسلامية - من سنة وشيعة - ومختلف الأديان من يهود ونصارى،، وزرادشتية على السواء باسم الحركة الثقافية والعدالة الاجتماعية، ويصعب البت في فلسفتها الحقيقة لأن مصادرنا إما سنية فتكون شديدة العداء متحيزة، أو إسماعيلية تنتمي إلى عصر متأخر عند ما طرأ على المبادئ الأولى تعديل واسع. فمثلاً نرى أن فخر الدين الرازي وصم الغزالي والشهرستاني والبغدادي بالتعصب وقلة فهمهم لأراء خصومهم. إذ روى عن حديث له عن المسعودي عن الكتب قال: (فقد ذكر المسعودي كثيراً منها إلى أن ذكر كتاب الملل والنحل للشهرستاني. فقلت: نعم، إنه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العلم بزعمه إلا أنه غير معتمد عليه، لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بالفرق بين الفرق، من تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، فلا يكاد ينقل مذهبهم على وجه الصحيح، وقد أدرك الغزالي الخاصة الاجتماعية للمذاهب المنشقة، وقال في الكلام عن الباطنية: (فاستبان أن ما ذكروه تلبيس بعيد عن التحقيق وأن العامي المنخدع به في غاية العمى، لأنهم يلبسون على العوام) ثم قال أيضاً عنهم: (فما هولوا من خطر الخطأ مستحقر في نفسه عند المحصلين من أهل الدين، وإنما يعظم به الأمر على العوام الغافلين عن أسرار الشرع). وعند الكلام على الدعاة الباطنيين قال: (وهؤلاء الدعاة تواطئوا على هذا الاختراع ليتوصلوا به إلى استتباع العوام واستباحة أموالهم فيتوصلون به إلى آمالهم)
ومن الواضح على كل حال أن الحركة الإسماعيلية كانت مبنية على نوع من التفكير الحر تعترف بقرابة الأديان جميعاً وتنبذ الشريعة الإسلامية، وتستند إلى مبدأ من العدل والتسامح والمساواة التامة؛ وبطريقة حاذقة من التفسير تعرف بالتأويل أسندت هذه المبادئ بنصوص من القرآن والكتب الدينية الإسلامية وكذا عوملت كتب اليهود والنصارى المقدسة بنفس الطريقة. . .
وقد ذكر عبد الله الإسماعيلي في عرضه للأسس الاجتماعية للإسلام أنه (ما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات وخوفهم بغائب لا ينقل وهو الإله الذي يزعمونه وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدأ من العبث من القبور والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولا، واستباح بذلك أموالهم بقوله: لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى (الشورى 23) فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون. وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج).
روى هذا النص مؤلف سني توفي سنة 1037، كمثل من زيغ القرامطة وشك بعض الباحثين في صحته. لكن النص وإن كان ركيك التعبير، فأنه لا يوجد فيه غير الحط من شخصية الرسول، لا يمكن تأييده بنصوص من الكتب الإسماعيلية القديمة القليلة أو المتأخرة التي لدينا.
(يتبع)
عبد العزيز الدوري