انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 355/الأمومة عند العرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 355/الأمومة عند العرب

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1940



للأستاذ رفعة الحنبلي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

هناك نوع آخر من أنواع النكاح اشتهر به العرب، كما اشتهرت بالنكاح الوقتي، أعني به: نكاح الذواق الذي كان يعقد دون شريطة ما، ويحل من نفسه إذا أراد ذلك أحد الطرفين متى لم يجد فيه اللذاذة والتنعم، ومتى فقد منه الميل والعطف

على أن هنالك بعض أنواع من النكاح كان شائعاً بين العرب في أيام الجاهلية شيوع الناكحين السابقين. جاء عن عائشة زوج النبي العربي: أن (النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها، نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها؛ ونكاح آخر كان الرجل يقول لأمرته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضِعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة منه في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع؛ ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت وضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها؛ تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان: تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل؛ ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك

لم تكن تلك الأنواع من الزواج إلا عادات تأصلت في أخلاق القوم، وتمكنت من نفوسهم، فبقيت ظاهرة مدة طويلة بين العرب حتى بعد الإسلام، وبعد أن هدم صاحب الشريعة الإسلامية نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم، ذلك أن العرب لم تثنهم الأوامر الإلهية، ولا الشرائع السماوية عن هذه العادات التي ورثوها عن آبائهم الأولين، جيلاً بعد جيل، ولم تحملهم دفعة واحدة على التمسك بالزواج الشرعي تبين لنا مما تقدم شيوع تعدد الأزواج ونكاح المشاركة وغيرها بين العرب، إذ لا سبيل إلى معرفة الأب بل ولا حاجة إلى معرفته أبداً، إذ لم يكن الزواج معروفاً، وإذ كان الولد يتبع أمه ويتعلق بها في جميع أموره، على أن الرجل أخذ يشعر بالميل نحو طفله، وبالعطف على ولده الذي كان هو سبب وجوده في هذا العالم، واشتد ميله إلى الاعتناء به وضمه إليه، وإلحاقه به، فنشأ عن هذه الظاهرة الجديدة، عادة تعين أباً اختيارياً للولد، معتمدين في ذلك على الظواهر خارجية وعلامات خاصة، وقد يكون تعين هذا الأب أندر في زواج المشاركة منه في تعدد الأزواج الذي كان يملك فيه بعض الأقارب - أو بالأحرى بعض الأخوة - امرأة واحدة. ففي هذه الحالة كان الأخ الأكبر أو من تنتخبه المرأة، أو من تعينه القافة، يأخذ على عاتقه تربية وليدها ويتبناه، كما أنه يعد - غالباً - أباً له، وإن لم يكن في الحقيقة أباه. ولم يأخذ العرب بهذه الظاهرة الجديدة، إلا بعد شيوع تعدد الأزواج ونكاح المشاركة، وظهور أول مبادئ الزواج الفردي في المجتمع الإنساني، إذ أنه لو كان دائماً للولد أب حقيقي أو كان يعين له والد ولو بتلك الطريقة الاختيارية، لصعب على كل باحث أن يدرك الأسباب التي دعت إلى حصر القرابة في الأم. فكثيراً ما نجد أن الولد في الجاهلية، ليس له أب حقيقي بل لم يكن أحد يتبناه وهذا ما أدى إلى شيوع الأمومة في العرب أو التمسك بقرابة الأم.

ومن الأدلة الواضحة على شيوع الأمومة عند العرب، قبل قيام نظام الأبوة عندهم، لفظة (بطن) التي تستعملها العرب حتى اليوم بمعنى العائلة أو القبيلة، ولا ريب، أن هذه الكلمة بمعناها الحقيقي تدل - في زمن مضى - على أن المرأة كانت مصدر العائلة ومحورها.

ومن آثار الأمومة أيضاً، اعتقاد العرب بانتقال الصفات الطبيعية من الرجل إلى ابن أخته، وإن لم يكن بينهما في الحقيقة صلة رحم تجمعهما، وهم إلى ذلك يؤمنون أن الولد ينشأ على غرار خاله، في أخلاقه وميوله وعاداته، دون أبيه، لأنهم وثقوا بصلة داخلية جد قوية بين الخال وابن أخته، يوم كان الولد يتبع نسب أمه وينتسب إليها؛ فكم من أمير من أمراء الجاهلية خلفه ابن أخته في زعامته، وورث عنه ألقابه وأمواله، دون أولاده؛ لذا كان العرب يفخرون بالخؤولة فخرهم بالأمومة.

وكذلك الرق، فإنه أثر من آثار الأمومة، انتقل إلى الإسلام من الجاهلية، ومن صفاته أن الولد يتبع أمه، وحالته تتوقف على حالتها، وهذا ما يعرف عند العلماء بأن (الولد يتبع الرحم)، بمعنى أنه إذا كانت الأم حرة، فولدها حر، وإن تزوجت عبداً؛ وإن كانت أَمة، فولدها عبد، وإن كان زوجها حراً. وفي كلتا الحالتين، يتبع الولد أمه في حالتي الحرية والرق.

ذكر مؤرخو الأدب، أن عنترة العبسي، الشاعر الجاهلي الكبير، كانت أمه حبشية، وأبوه من سادات بني عبس؛ أنف أبوه أن يلحقه بنسبه فجعله في عداد العبيد، وكان عنترة عند أبيه منبوذاً بين عبدانه يرعى له أبله وخيله، فربأ بنفسه عن خصال العبيد، ومارس الفروسية ومهر فيها، فشب فارساً شجاعاً هماماً، وكان يكره من أبيه استعباده له وعدم إلحاقه به، حتى أغار بعض العرب على عبس واستاقوا إبلهم، ولحقتهم بنو عبس وفيهم عنترة لاستنقاذ الإبل. قال له أبوه كر، يا عنترة؛ قال: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر؛ قال له: كر فأنت حر، فقاتل قتالاً شديداً حتى هزم القوم واستنقذ الإبل.

لا ريب إذن في أن الأب الحر، لا يقدر أن يجعل من أبنه ولداً حراً، إذا كانت زوجة أَمة، ولو كان زواجهما شرعياً؛ والأم الحرة تستطيع أن تجعل من أبنها ولداً حراً، ولو كان زوجها عبداً رقيقاً. إن هذا التفاوت بين حقوق الأرقاء، إن هو إلا بقية من بقايا الأمومة التي نشأت عنها طبقة الأعيان عند العرب يوم كانت تؤثر نسب المرأة على نسب الرجل، في حفظ شرف أسرتها.

يقول المستشرق سميث إن العرب كانت، في عصر الجاهلية، على الزواج الخارجي واستشهد على ذلك بما قاله الذي رد هذا الزواج إلى العادة التي كانت شائعة بين العرب عن وأد الفتاة أو قتلها مما أدى إلى قلة النساء وزيادة عدد الرجال زيادة بينة، فاضطر الرجال إلى طلبهن في غير قبائلهم.

لا نكران أن بعض القبائل العربية كانت تمارس هذه العادة، وكانت تئد بناتها بعيد ظهورهن؛ قيل (كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له لإبل والغنم في البادية؛ وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية - أي لها من العمر ستة أعوام - فيقول لأمها طيبيها حتى أذهب بها إلى أعمامها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيه ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض) وقيل (كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة؛ فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته)

وورد في أمثال العرب ما يفهم منه أنهم كانوا يرتاحون إلى وأد البنات؛ من ذلك قولهم: (تقديم الحرم من النعم)، و (دفن البنات من المكرمات). أما السبب في وأد البنات، فهو إما خوفهم من لحوق العار بهم من أجلهن أو للتخلص من مؤونة تربيتهن أو مخافة السبي والفقر والإملاق؛ بل كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهن. ولما ظهر صاحب الشريعة الإسلامية، النبي العربي الكريم، نهى الله عن هذه العادة وحرمها فقال: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً).

ويقال إن العرب، قبيل الإسلام، عدلت عن هذه العادة أو كادت؛ فقد عرف صعصعة بن ناجية أنه كان يقاوم وأد البنات، ويفدى كل موءودة بناقتين وجمل؛ فلقب بمحي الموءودات وبه افتخر الفرزدق إذ يقول:

ومنا الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم توأد

لم تكن هذه العادة من الأسباب التي دعت الرجال إلى طلب النساء في غير قبائلهم، ولم تكن أيضاً سبباً من أسباب شيوع الزواج الخارجي عند العرب كما زعم , إن ظاهرة طبيعية غفل عنها العالمان ولم يتنبها إليها، هذه الظاهرة حرية بالتفكير والتأمل، ذلك أن إحدى المفكرات ذهبت إلى أن الإناث في المخلوقات جميعها تفوق الذكور منها عدداً، وإذا تمشينا على هذه القاعدة نجد أن عدد البنات كان ولا يزال أكثر من عدد الصبيان، فضلاً عن أن الرجل يتعرض دائماً لأخطار الحروب والأمراض أكثر مما تتعرض لها المرأة، ومهمة الرجل كانت تقوم على محاربة العدو لحفظ كيان قبيلته من الفناء، وعلى قتال وحوش الغابات والأحراش للحصول على أهم ما يحتاجه من مأكل وملبس وإذا ما سلمنا جدلاً مع هذين العالمين، أن وأد البنات كان من أسباب شيوع الزواج الخارجي، فكيف سمحا لنفسيهما أن يتجاهلا نتيجة هذا الوأد في القبائل الأخرى؟ فإن قل عدد النساء في قبيلة واحدة، وجب أن تقل في قبيلة أخرى، وهذا ما يجعل الزواج الخارجي عسيراً إن لم يكن مستحيلاً. . .

فليس السبب الحقيقي إذن في شيوع الزواج الخارجي بين العرب وأد البنات، بل هو شدة كراهة العرب لزواج القرابة. قال المستشرق إن من جملة الأقوال الحكيمة التي أبقاها عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الشهيرة وصيته لأولاده: (لا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض) ثم أتى بمثل يشتم منه كراهة العرب للزواج داخل الحي، أي الزواج وهو: الغرائب ولا القرائب

فالعرب إذن كانت في الأزمنة الغابرة على النكاح الخارجي وإن أخذت بالزواج الداخلي حيناً من الزمن، إذا أصبح رجال القبيلة الواحدة يتزوجون من نساء قبيلتهم، وليس في قبيلة أخرى؛ إلا أن هذا الزواج لم يكن شائعاً شيوع الزواج الخارجي.

ولقد رافقت الزواج الخارجي ظاهرة جديدة أخذ العرب بها، هذه الظاهرة هي التحاق الزوج بزوجه وبالتالي بأسرتها وبقبيلتها فبقاء المرأة، بعد زواجها، في قبيلتها، وحملها زوجها على الإقامة حيث تقيم بين أهلها، تعد هذه الظاهرة صفة من صفات الأمومة، وكان من أمر هذا أن تبع الولد أمه والتحق بنسبها

فطن العرب إلى أهمية الزواج الخارجي من الناحية الوراثية، إذ يكون النسل قوياً عقلاً وجسماً، فأخذوا به، بينما أهملوا الزواج الداخلي لاعتقادهم أن الزواج من القرابة يولد الفقر في العقول، والضعف في الأجسام فنأوا عنه؛ وهذه النظرية التي أخذوا بها تطابق - ولو إلى حد ما - النظريات الوراثية الحديثة

إلا أن هذا الاعتقاد يخالف ظاهراً ما أشتهر به العرب قديماً من أنهم كانوا يفضلون نكاح بنات العم على غيرهن، لكن في الواقع، لا نجد أي تناقض في هذه المسالة. ذلك لأن كل عربي يلقب محبوبته وخطيبته ببنت عمه، وحماه بعمه، وإن لم يكن بين الطرفين وشيجة رحم أو صلة قرابة، وليس بوسع الباحث أن يرد سبب إطلاق كلمة العم على الحم، وبنت العم على محبوبته، إلا لتمسك العرب، منذ القدم، بالأمومة والزواج الخارجي الذي نتج عنهما الزواج بين أولاد الأعمام، أي أنهم كانوا يسمحون لأولاد الاخوة الذين أمهاتهم من قبائل مختلفة أن يتزوج بعضهم من بعض، لفقدان صلة القرابة بينهم باعتبار أن الأمومة تتطلب من الولد أن ينتسب إلى أمه، وأن يتبع خاله بعدها دون أبيه

فالزوج لم يكن إذاً في ذلك العهد بين أولاد الأعمام وبنات العم زواجاً فيه قرابة، بل فيه بعد، في حين أن الرجل كان يحجم عن التزوج بابنة خاله لاعتقاده أن الخؤولة أكثر قرابة من العمومة، ولربما كان هذا الاعتقاد من الأسباب التي دعت إلى إطلاق كلمة بنت العم على المرأة عامة

(بيروت)

رفعة الحنبلي