مجلة الرسالة/العدد 349/ لقب السفاح
مجلة الرسالة/العدد 349/ لقب السفاح
3 - لقب السفاح
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وعدت في مقالي الثاني أن أبين للأستاذ العبادي كيف اختلفت الروايات في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله ابن علي، وقد سلك الأستاذ العبادي في اختلاف هذه الروايات مسلكاً ليس من الإنصاف العلمي في شيء، فجعل تلقيب أبي العباس بالسفاح من رواية المؤرخين الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة والأصفهاني ولهذا لا يوثق بها عنده، وإنما يوثق بالرواية التاريخية القديمة التي سكتت عن تلقيب أبي العباس بهذا اللقب، كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم وغيرهما. ويؤخذ بما رواه غير أولئك المؤرخين الأدباء من تلقيب عبد الله بن علي بالسفاح، وإنما كان هذا ليس من الإنصاف العلمي في شيء، لأن سكوت أولئك المؤرخين عن تلقيب أبي العباس بالسفاح لا يصح أن يطعن به في رواية من لقبه به، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وهذه قاعدة مشهورة عندنا معشر الأزهريين، ولا يمكن أن يجادل فيها الأستاذ العبادي، وإنما يصح الطعن برواية أولئك المؤرخين إذا وردت بنفي ذلك اللقب عن أبي العباس، وحينئذ يكون معنا ناف ومثبت، وقد اختلف علماء الأصول في تقديم أحدهما على الآخر. على أن الأستاذ العبادي لا يمكن أن يدعي أنه استوعب الرواية التاريخية القديمة كلها في ذلك، وقد فاته من هذه الرواية رواية أبي الحسن المسعودي المتوفى سنة 346هـ، فقد جاء في كتابه (مروج الذهب) تلقيب أبي العباس بالسفاح، والمسعودي مؤرخ مشهور، وقد كان معاصراً للطبري المتوفى سنة 310هـ وهو ممن عده الأستاذ العبادي في أصحاب الرواية التاريخية القديمة فيكون المسعودي من أصحابها أيضاً، وسيجد الأستاذ العبادي بعد هذا كله إنه لا تعارض بين هذه الروايات، وأنَّا لسنا في حاجة إلى إنكار بعضها أو ترجيحه على الآخر
وقد أراد الأستاذ محمود شاكر أن يسلك هذا الطريق في الجمع بين هذه الروايات المختلفة، فذكر أن قول اليعقوبي (عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح) منقول من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد علي (عبد الله بن علي الأكبر وعبد الله بن علي الأصغر السفاح الذي خرج بالشام)، ولا يريد ابن سعد بذلك التلقيب كما يرى من اليعقوبي، وإنما ذلك صفة كالسفاك والقتال، وبهذا لا يكون السفاح لقباً لعبد الله بن علي، وإنما يكون لقباً لابن أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي، وقد كان يسمى عبد الله الأصغر أيضاً، كما كان أخوه أبو جعفر يسمى عبد الله الأكبر. ثم ذكر الأستاذ محمود أن أبا جعفر قد لقبه أبوه بالمنصور فيما يعلم، فلا غرو أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه بالسفاح كما لقب أخاه بالمنصور
ولما قرأت هذا للأستاذ محمود سألته عما يعتمد عليه في إسناد تلقيب أبي جعفر وأبي العباس بالمنصور والسفاح إلى أبيهما محمد ابن علي، فلم أجد عنده ما يعتمد عليه في ذلك. وقد بحثت بنفسي لعلي أجد ما يؤيده فيه، فلم أجد إلا ما ذكره صاحب العقد الفريد، من أن محمد بن علي ولد له من امرأته الحارثية ولدان سمى كل واحد منهما عبد الله، وكنّى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر ولم يذكر أنه لقبهما بذينك اللقبين، بل الظاهر مما سننقله فيما يأتي عن صبح الأعشى أن أبا جعفر تلقب بالمنصور بعد انتقال الأمر إليه من أخيه أبي العباس
والرأي عندي أن أبا العباس لم يلقبه أبوه بهذا اللقب قبل أن تقوم دولتهم، ولم يلقب هو نفسه به بعد أن صار إليه الأمر، لأن مثل هذا اللقب لا يتفق مع الألقاب الإسلامية التي عرف بها الأمراء قبل أبي العباس وبعده، وإنما هو لقب لصق به لصوقاً، وأطلقه عليه الناس وكثير من المؤرخين، لوصفه نفسه به في خطبته عندما بايعه الناس، فقد ذكر الطبري أنه لما بويع صعد المنبر فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام تكرمة، وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، إلى أن قال مخاطباً أهل الكوفة: وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير
وقديماً لقب العرب كثيراً من الشعراء بمثل ما لقب به أبو العباس، فلقبوا عائد بن محْصَن بن ثعلبة العبدي بالمُثَقِّب لقوله:
رَدَدْنَ تحية وكنَنَّ أخرى ... وثَقَّبنَ الوَصاوص للعيون
ولقبوا عمرو بن سعد بالمرَقَّش الأكبر لقوله:
الدار قَفْرٌ والرسومُ كما ... رقَّشَ في ظهر الأديم قَلَمْ
وكذلك كثير من الشعراء غيرهما
وإذن يكون لقب السفاح في أصله وصفاً بالنسبة إلى أبي العباس، كما كان في أصله وصفاً إلى عمه عبد الله ابن علي، ثم اشتهر به أبو العباس عند بعض المؤرخين، كما اشتهر به عبد الله بن علي عند بعض آخر منهم، ولكل منهم في ذلك رأيه واختياره، وليس فيه شيء من الغلط والاشتباه الذي يدعيه الأستاذ العبادي
وعلى هذا لا يكون لقب السفاح هو اللقب الحقيقي الذي اختاره لنفسه أبو العباس، وإنما هو لقب غلب عليه عند المؤرخين بذلك السبب السابق، حتى أنسى الناس لقبه الحقيقي الذي اختاره لنفسه بعد أن صار إليه الأمر، بل دعا هذا إلى عدم الاهتداء إلى لقبه الحقيقي بيقين، وإلى ذلك الخلاف الذي سنذكره فيه، ولكنه مع هذا هو اللقب الذي يصح أن يضعه لنفسه مثل أبي العباس، ويتلاءم مع ألقاب من أتى بعده من العباسيين.
قال الخطيب البغدادي: عبد الله أمير المؤمنين السفاح بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، يكنى أبا العباس، ويقال له أيضاً المرتضى والقائم، ثم قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال: أبو العباس المرتضى والقائم عبد الله بن محمد الإمام بن علي السجاد ابن عبد الله الحبر ابن عباس ذي الرأي ابن عبد المطلب شيبة الحمد.
وذكر القلقشندي أن خلفاء بني أمية لم يتلقب أحد منهم بألقاب الخلافة، وأن ذلك ابتدئ بابتداء الدولة العباسية، فتلقب إبراهيم بن محمد حين أخذت البيعة له بالإمام، وأن الخلف وقع في لقب السفاح فقيل القائم، وقيل المهتدى، وقيل المرتضى، ثم تلقب أخوه بعده بالمنصور، واستقرت الألقاب جارية على خلفائهم كذلك إلى أن ولي الخلافة أبو إسحاق إبراهيم بن الرشيد بعد أخيه المأمون، فتلقب بالمعتصم بالله، فكان أول من أضيف في لقبه من الخلفاء اسم الله، وجرى الأمر على ذلك فيما بعده من الخلفاء
وفي هاتين الروايتين وخصوصاً الأخيرة من العناية بتحقيق تلك الألقاب ما يجعلنا نثق بهما، ونطمئن إليهما، وفيهما لا يدخل لقب السفاح فيما قيل إنه لقب أبي العباس، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه فيه، وقد جاء بعد أبي العباس من تلقب بالقائم بأمر الله، ومن تلقب بالمهتدي بالله، ولم يتلقب أحد بالمرتضى بعده، فلعله كان اللقب الذي اختاره لنفسه، على أن ظاهر رواية الخطيب البغدادي أنه كان يقال له المرتضى والقائم معاً
هذا ولا يفوتنا في ختام كلامنا أن نبين حقيقة ما جاء في تاريخ ابن العبري عن السفاح، من أنه كان رجلاً طويلاً أبيض اللون، حسن الوجه، يكره الدماء، ويحامي على أهل البيت، فإن هذا لا يراد منه إلا كراهته لدماء أهل البيت وحدهم، بدليل ما قدمنا من أمره في دماء غيرهم؛ على أن العبري يقيس في ذلك أمره بأمر من جاء بعده من العباسيين.
عبد المتعال الصعيدي