انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 349/ذكرى أخي الهراوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 349/ذكرى أخي الهراوي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1940



للأستاذ علي الجندي

قبل وفاة صديقي المرحوم الهراوي بشهر، أرسل إلي بطاقة لطيفة حملها (ألف قبلة وتحية) ورجاني فيها أن أزوره بمقر وظيفته ليحادثني في شأن من الشؤون الأدبية. وقد عدتني عواد عن تلبية هذه الدعوة في حينها، ثم ذهبت بعد ذلك إلى دار الكتب فسألت عنه، فقال لي البواب: (تعيش) لقد توفي أمس إلى رحمة الله!

كانت الصدمة عنيفة أذهلتني عن كل شيء حتى عن واجب العزاء لأسرته، وحاولت أن أرثيه فلم أستطع، فقد غال الحزن بياني وغشى على مشاعري، وكان أنكى علي من ذلك ما تهامس به بعض الناس: من أني أخللت بواجب الإخاء! كأنهم لا يدرون - عفا الله عنهم - أن من الألم ما يحمي صاحبه الكلام كما يحميه الطعام!

والآن وقد انكسر الحزن ورسب سعيره في الأعماق، أهدي إلى روح صديقي في مسراه العلوي هذه الطاقة الشعرية مستنزلاً عليه الرحمة والرضوان العميم:

جهلَ العاذلونَ فيكَ مُصابي ... فأطالوا مَلامتي وعتابي

وأذاعوا: أني بخلتُ بدمعي ... ورثائي على أبرِّ الصِّحابِ

وعزائي عِلْمي بأنّك تدري ... ما أُعاني من حُرقة واكتئاب

رُبَّ باك يذري دموع التماسي ... ح من الموجعات خالي الوطاب

وجليدٍ يفترُّ عن سنِّ جذلا ... ن طوَى كشحه على الأوصاب

وخليّ الفؤاد من لاعج الحبّ ... (م) يُرى صابياً وليس بصابي

أعذَرُ الناس من دهتْه الرزايا ... ونَهَتْ دمعَه عن التَّسكاب

فهنيئاً لهم بكوْا فاستراحوا ... وكتمت الجوى، فطال عذابي

أيها اللائمون عَدُّوا عن اللو ... م وقُيتمْ - على الإساءة - ما بي

لو بكم ما بنا، وبان عليكم ... لَلبِستمْ به سوادَ الغراب

لا يُحسّ الآلام من دينه الله ... وولا يدْرَكُ الصبى بالتصابي

كثرت بيننا الجِياد ولكن ... قصبُ السبق للمذَاكي العِراب

وحمامُ الرياض يبكي فنشجَى ... حين تبكي مطوّقاتُ الرِّقاب كيف ينسى الوداد مثر من المج ... د رفيع الذُّرا كريم النِّصاب

مُعْرقٌ في الوفاء يجري على العر ... ق ويسري في بُلجة الأحساب

لا وربي لم أنقض العهد يوماً ... لا ولا بتّ سالياً أحبابي

أنا أكسوهم المدائح أحيا ... ءً، وأُروي صداهمو في التراب

وأصوغ الرثاء فيهم رياحي ... ن تمجّ الشّذا على الأحقاب

يا أخي في الوداد، والودُّ أبقي ... أثراً من علائق الأنساب

ومُعيني على نوائب دهر ... أنا منها ما بين ظفر وناب

ومَناري إذا دجا الشك حولي ... وتنكبت عن طريق الصواب

وصفيي، وجُلُّ من أصطفيهم ... صُورُ الإنس في طباع الذئاب

كنت أخشى طوارق السوء إلا ... طارق الموت لم يقع في حسابي

أين أيامنا نواعم كالغي ... د تخايلْنَ في رقيق الثياب

بين صبح مُفضّض، وأصيل ... شرِق الأفق بالنُّضار المذاب

نسجتها يد الزمان من البه ... جة والأنس والأماني العِذاب

فهي من عمره الربيعُ المُوشّى ... وهي من عمرنا لُباب الّلباب

وليال كأنها من سَناها ... ومضات الأحداق خلف النقاب

نَتساقَى بها الودادَ سُلافاً ... أين منها سلافة الأعناب

كيف مرّت بنا عِجالاً فكانت ... كحباب طفا على الأكواب

أو كطيف الحبيب يدنو به الغم ... ض وتُقْصيه رقصةُ الأهداب

خُلَسٌ من بشاشة العيش ولّتْ ... تستحث الخطا لغير إياب

آه لو سامني زمانيَ فيها ... بشبابي، شريْتها بشبابي

فجعتنا المنون بالشاعر المل ... هم آي البيان والإعراب

بالأديب المِفنّ من يسكب المع ... نى رحيقاً في المنطق الخلاّب

بِمُحيل الطروس روضَ مجان ... مُونِقاً للعيون والألباب

بسجيج الطبع الرقيق الحوا ... شي وسريّ الخُلْق النقيّ الثياب

بمؤدّ حق الأخلاّء في النا ... دي وحق الإله في المحراب جامع الخَلّتين: ظرف الألبّا ... ء، ونُسْك المُطهّر الأواب

يا لذكرى هاجت بلابل صدري ... وأعارتْ قلبي جناحيْ عُقاب

قَلِقٌ تَحتيَ الوسادُ كأني ... أتَنزَّى على رؤوس الحراب

بين ليليْن: من دجى وهموم ... ناهضات إليَّ من كل باب

مَثَّلا لي الخضمَّ يغشاه موجٌ ... تحت موج مجلل بسحاب

كلما طار في السماء شهاب ... طار قلبي وَثَبْاً وراء الشهاب

أو ذكا كالبرق في الدُّجنّة ناراً ... شب نار الأحزان ملء إِهابي

تُسعد الذكرياتُ أهلها، وأُلَقي ... ذكرياتي محطّم الأعصاب

يا صديقي لبيت دعوة (رضوا ... ن) وخلّفتني لحَرِّ المصاب

لم تزوّد أخاك بالنظرة العجْ ... لى على وَشْك نيةٍ واغتراب

ووداع الأحباب فن من السل ... وى وعون على احتمال الغياب

ليت آذنتَ بالفراق، فكنّا ... ننثر الدمع في طريق الركاب

كذَب الشعر ما لمن حان عِلمٌ ... بالذي سجلتْه (أمُّ الكتاب)

إن من مِنة الإله علينا ... أن توارتْ أسرارنا بالحجاب

لو درى الناس ما تستّر عنهم ... قعدوا عن تناول الأسباب

لمع الغيب للظماء سراباً ... ضلّ صاد يجري وراء السراب

روّض الغيث قبر من كان روضاً ... حالياً بالعلوم والآداب

بان عنا، فبان كلُّ جميل ... فعزاءً للآل والأصحاب

علي الجندي