انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 343/من هنا وهناك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 343/من هنا وهناك

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 01 - 1940



الخلق الذي سيكسب الحرب

(عن مجلة (باريد))

للحرب الحاضرة نواح كثيرة يجب أن ينظر إليها قبل أن ينظر إلى

تقدير قوى الجيوش المحاربة، وعدد طائرات العدو وحجمها والسرعة

التي تسير بها. ومما لا شك فيه أن الجانب الذي سيكون له الفوز

النهائي في هذه الحرب، هو الجانب الذي يمتاز العنصر الإنساني فيه

بقواه الأخلاقية، ومزاياه العقلية. ولا جرم أن البريطانيين والفرنسيين

يمتازون من هذه الناحية عن الألمان.

وقد كتب المؤلف الأمريكي المشهور (فنسنت شيان) في مجلة (رديوك) التي تصدر في كندا مقالاً قيماً تناول فيه أخلاق هذه الأمم بالبحث والتحليل. فقال: إن في الرجل الألماني لا بأس به على وجه العموم، فهو شجاع، صلد، جلد على احتمال الشدائد، ذو مقدرة على الاضطلاع بسائر الأعمال الجسدية، يعمل بيديه وقدميه فيها كما يعمل برأسه.

إلا أن هذا الخلق الألماني بما فيه من العناصر الطيبة، لم يخل من ناحية ضعف لها أثرها السيئ على سائر النواحي القوية فيه. فالشعب الألماني ينقصه الإدراك السياسي الرشيد. فسياسته لا ترتفع عن سياسة العامة، وأخلاقه السياسية لا ترتفع عن الجهالة والسخف

والألماني لا يعرف التشكك في أموره السياسية. وقد عرف النازيون كيف يستغلون هذه الصفات، فاستحوذوا على نفوس الشعب بطرق لا تخلو من المهارة والحذق. فإذا كان الشعب الألماني وعدده ثمانون مليوناً من الأنفس قد اعد لتصديق كل شيء يلقي عليه بغير تردد، فلماذا يكلف النازي أنفسهم إخباره بالحقائق المريرة المتعسفة. والأكاذيب المتقنة والوعود الخلابة أسهل وأجدى

إلا أن هذه الظاهرة المعهودة في الخلق الألماني منذ قرون، لا تلبث أن تثير غضب الرأي العام حينما يصل خداع الشعب إلى أقصى حدوده وتفتضح الحقائق التي كانت في طي الكتمان، وفي هذه الحالة يكون اليهود وغير اليهود سواء في التألب على هتلر وعصابته وإقصائهم عن الحكم، كما أقصى القيصر وحكومته عام 1918. أمام الشعب يقف الشعبان الإيطالي والفرنسي وهما يستمتعان بالحرية السياسية منذ مائة وخمسين سنة، ويعرف كل فرد من أفرادهما المبادئ التي يدافع عنها

فالإنجليزي لا يسير بالطريقة الآلية التي يسير بها الألماني، وهو يحاسب رجاله على كل صغيرة وكبيرة. طبع على ذلك منذ قرون، وهو يرى الحرية خيراً من الكفاية. وإذا كان الإنجليزي يضيع كثيراً من الوقت قبل أن يدخل مع خصومه في حرب طويلة المدى فهو في الحق من النوع الذي يميل بطبعه إلى الدقة والنظام، ويسير على خير التقاليد دون أن يثير ضجة أو لجباً

والإنجليزي لا ينطق كثيراً بألفاظ البطولة أو التضحية، ولكنه يعرف دائماً كيف يحافظ على الروح المعنوية فيه، ويحتفظ بروح الفكاهة ولو كان على فراش الموت

هذا هو الرجل الذي سيقف على قدميه إلى نهاية الحرب. فأعصاب الإنجليزي من النوع الذي لا يعرف السطحيات وإن كانت في الحقيقة أقوى وأشد من الصلب.

والفرنسيون كذلك لهم مقدرة على احتمال الشدائد، وقد برهنوا على ذلك مراراً عديدة في تاريخهم الماضي، وعلى الأخص في حرب 1914 - 1918.

ولعل أهم الميزات التي خص بها رجل الشارع في بريطانيا وفرنسا، هي انه على علم تام بأحواله السياسية. فالصحافة تمد الشعب بكل ما يحتاج إلى علم، والحكومة لا تكتم عنه شيئاً لتظهره فيما بعد، ولا يفكر أحد في خديعته عن الموقف الجوهري الذي يدافع عنه.

ولا يمكننا أن نقول ذلك عن الشعب الألماني، فقد قطع ما بينه وبين الحقائق منذ ست سنوات، إلا أنه إذا عرفها عاجلاً أو آجلاً وتبين له أنه كان مخدوعاً، فسوف لا يوجه غضبته إلى الأجانب، ولكن سيوجهها إلى الذين خدعوه، وهم قادة النازي

لابد من التعاون لتوطيد دعائم السلام

(عن (دان آند أول))

ليس كل أنواع السلام مما يستحق السعي إليه. فالسلام القائم على التعاون بين الأمم كبيراتها وصغيراتها، يختلف ولا شك في جوهره عن السلام الذي يقوم على الغلبة وإخضاع النفوس، فالأول وحده هو الذي يستحق الاهتمام، ولكنا إذا سعينا إليه فلا بد أن نحتاج - عاجلاً أو آجلاً - إلى شيء من التعاون مع الشعبين الروسي والألماني، حتى تكون دعائم هذا السلام موطدة الأركان. وما دام هذان الشعبان يعيشان تحت سلطان الدكتاتورية، التي تنفذ مشيئتها في خصومها السياسيين بالقتل أو السجن، فهما حريان بألا يسعيا وراء هذه المبادئ، لتكون أساساً لعلاقتهما بالأمم الأخرى، وقد نبذوها أنفسهم في حدود بلادهم

على أننا جديرون - على كل حال - بأن نعرف كل العرفان أننا لا نملك الحق في إلزام الأمم الأخرى بتغيير نوع الحكومة التي ترتضيها. فإذا كان الألمان يفضلون أسلوب هتلر في الحكم، أو كانوا على الأقل، لا يستطيعون تغييره من تلقاء أنفسهم، فأي حكومة تقوم في ألمانيا تحت تأثير القوات المسلحة التي لبريطانيا العظمى وفرنسا لا يقدر لها البقاء

فحكومة هتلر هي ثمرة من ثمرات العقلية الألمانية. وقد جاء هتلر نتيجة لانهزام ألمانيا في حرب 1914 - 1918، وليس بمستبعد أن تكون للحرب الحاضرة نتيجة شر من تلك النتيجة، إذا هزمت ألمانيا مرة ثانية. وقد يتعلم الشعب الألماني هذه المرة كيف يؤسس حكومة أقل سذاجة ونقصاً من حكومته الحاضرة. وعلى أي حال من الأحوال فسوف يكون من شانهم وحدهم - لا من شأننا - اختيار الأسلوب الذي به يحكمون

بهذا المبدأ نطلب أن يعامل البولنديون والتشك والاستونيون واللتوان، وإن يكن هذا المبدأ لم يساعدنا على إنقاذ السلم العام. هو ضد إخضاع أمة لأمة أخرى. ولكنه لا يعترض مبدأ آخر أكثر أهمية، وهو مبدأ التعاون بين الدول. وقد حُووِلت محاولة طيبة في معاهدة عام 1919 للمناداة بهذين المبدأين، فنالت بعض الأمم المستعبدة حريتها، وتخلصت من تبعيتها لأمم أخرى تحت تأثير من تقرير المصير؛ وتم التعاون من ناحية أخرى بين جميع الدول بقيام عصبة الأمم. إلا أن هذا المبدأ مبدأ التعاون الدولي قد سار بخطى وئيدة إلى الغاية التي ينشدها الجميع

بل إن التعاون بين الأمم التي تنتمي للعصبة كان من الناحية العملية محدوداً وغير محقق للرجاء. فكل حكومة كانت تعمل مستقلة لصلاح حالتها الاقتصادية والمالية، وتستغل الظروف لإصلاح سياستها الحربية. فالتعاون بمعناه الصحيح لم يكن معروفاً في علاقات بعض الدول بالدول الأخرى. وما زالت بعض الحكومات إلى اليوم تعد نفسها غير مسئولة إلا عن مصالح الأهالي الذين ينتمون إليها.

وما زالت هذه الحكومات تقف موقف الصمت بازاء المصالح العامة، وليست هذه هي السياسة التي تؤدي إلى توطيد أسس السلام. إن مبدأ التعاون الذي ننشده لتدعيم قواعد السلام لا بد أن يدخل في سياقه التعاون التجاري والصناعي بين مختلف الأمم؛ ولا بد أن يقضي على فكرة الحرب الأهلية أو حرب الطبقات. وأي حكومة تبيح تلك الحروب الأهلية في بلادها لا تستطيع ولا شك أن تتعاون تعاوناً شريفاً لتوطيد طرق السلام.

النشر والحرب

(عن (ذي سبكتاتور))

قليل من الذين كانوا يشتغلون بالنشر في الحرب الماضية، يعيشون إلى اليوم ويزاولون أعمال النشر بيننا. ومما يدعو إلى العجب أنك لا تجد عند هؤلاء إلا النزر القليل مما يروون عن مثل الحالة التي نواجهها اليوم. فإذا كانت هذه الحالة تماثل ما عرف من قبل فيما بين عام 1914 و1918، فإن عالم النشر سيشاهد بعد المرحلة الأولى من الحرب تجارب لم تتح له منذ عدة سنين

إن الحرب تشجع على القراءة، فهي تؤثر في نفوس المحاربين وغير المحاربين من الأهالي بما يضجر ويقلق مما لا يخفف وطأته شيء كقراءة الكتب. فهي تثير الحماسة الوجدانية وتعد الأذهان لتلقي ما ينتجه العقل، وتجعل النفوس أشد رغبة في أن يفكروا ويحسوا، وتضعها في الوقت ذاته في موقف يكون فيه أشد حاجة إلى الراحة والتسلية من أي وقت آخر. ولا يضيرنا هنا أن نقول إن هذه العوامل لا تقل قوة وتأثيراً اليوم عما كانت عام 1914، بل قد يكون الأمر على النقيض، فالقيود التي تحيط بنا وحالة الشعب العامة قد تساعد على تقوية هذه العوامل

إلا أن عالم النشر تعترضه صعوبات كثيرة إلى جانب الصعوبات المتعلقة بالطبع والتوزيع، مما قد يخفي على الجمهور. وسوف تعاني بيوت النشر والطباعة الكثير من هذه الصعاب، فعمل الناشر في الحقيقة أكثر دقة مما يتصور الكثير من الناس

وهناك صعوبة قد لا تخطر على البال، وقد يكون علاجها من المستحيلات، فما قيمة الورق والطبع وما قيمة الناشرين إذا لم تؤلف الكتب؟ وقد لوحظ هذا العام هبوط محسوس في عدد الكتب التي قدمت للمطابع وكذلك في نوعها. والسبب في ذلك واضح، فقد أصبح العالم الأوربي منذ اجتماع ميونخ قليل الاهتمام بالأعمال الأدبية، فتلك الأزمات المتوالية، التي تعقبها فترات من القلق والتفكير في مصير المدنية المزعج، كل ذلك من شأنه أن يجفف ينابيع التفكير.

ولكن ما دمنا قد وطدنا العزم على إزالة هذه الهمجية من أوربا، فمن الواجب أن يزول ذلك الشبح المخيف من أذهان الكتاب. فنحن في حرب يشترك فيها العالم كل بما أهل له، وكل ما يطلب من الكاتب - إذا ترك وشانه في هذه الحرب - هو أن يؤلف ويغذي الأفكار