مجلة الرسالة/العدد 334/عقيدة النازي الدينية
مجلة الرسالة/العدد 334/عقيدة النازي الدينية
للدكتور جواد علي
تنص المادة 27 والمادة 28 من منهاج الحزب الوطني الاشتراكي على الحرية الدينية لجميع الألمان وبحماية الديانة المسيحية في داخل المملكة الألمانية، وقد طبقت الحكومة الهتلرية فعلاً هذا النص في جميع أنحاء الريخ فجعلت ضريبة الكنيسة ضريبة إجبارية على كل ألماني وألمانية حضر صلاة الكنيسة أم لم يحضر؛ وقاومت حركة الإلحاد ونكران الديانة المسيحية فطردت كل موظف يجاهر بهذه الفكرة وحكمت على كل رجل ينادي بها أو يربي أولاده عليها بأحكام تناسب ظروفه ومنزلته، وأجبرت الأولاد في المدارس على حضور دروس الديانة بعد أن كانت مسألة اختيارية قبل الحكم الهتلري تتعلق بإرادة الوالد. وقد شددت الحكومة في المراقبة لأن الذين كانوا يجاهرون بهذه الآراء كانوا إما من الحزب الشيوعي أو من الحزب الماركسي أو من الحزب الديمقراطي الاشتراكي؛ وهذه الأحزاب الثلاثة هي من ألد أعداء هتلر، لذلك اختفت الحركة بسرعة طبعاً خشية التعرض لهذه التهمة
وحجة الوطنية الاشتراكية في ذلك هي أنها تقاوم المادية الصرفة البشعة التي تدعو إليها هذه الأحزاب وتدين بالمثل العليا وبالحياة الروحية وبقوة خارقة عليا يدعو هتلر ويشير في معظم خطبه إليها، ولكنه لا يصفها بالصفات أو ينعتها بالنعوت التي ترد في كتب الديانة واللاهوت. بل يراها كقوة مظلمة تشع أشعة مختلفة إلى النفوس حسب كفاية الأبدان التي يتمتع بها ذلك الشخص يظهر أثرها في الإرادة والعزم. والزعماء في نظره هم الذين يتمتعون بها أكثر من غيرهم ويمتازون على الأفراد بالعزم والإرادة. ويدعو ممثله ووكيله إلى هذه الفكرة في كتبه ومؤلفاته ويتوسع في نشر الديانة المسيحية الحقيقية لا الديانة المسيحية الحالية التي هي من مبتكرات اليهود على رأيه. وحاول كذلك دعاة النازي من رجال الكنيسة وعلى رأسهم رئيس أساقفة الريخ ملر توسيع دعوة هتلر ووكيله وتنقيح العقيدة المسيحية حسب التعاليم النازية؛ ولكنهم اصطدموا بمعارضة واسعة من البروتستانت بقيادة الباستور نيملر أسقف دالم في برلين الذي لا زال حتى الآن في السجن، ومن الكاثوليك بقيادة أسقف في إيبرك وكاردينال الر والنازية نفسها عقيدة دينية تحاول تنظيم حياة الأمة والفرد على أساس العنصرية والزعامة، وتتدخل حتى في الأحوال الشخصية للفرد لتكيف حياته وفق التعاليم الجديدة، وهذا ما يصطدم طبعاً والعقيدة المسيحية التي تراها الوطنية الاشتراكية عقلية يهودية رومية من مبتكرات سكان البحر الأبيض المتوسط، لا تلتئم أبداً مع العقلية الجرمانية الشمالية. وهذا النقد اللاذع للديانة المسيحية يرجع في الحقيقة إلى أدوار تسبق هتلر والنازية بكثير، يكفي أن نتذكر هجمات الفيلسوف فويرباخ الألماني عليها (1804 - 1872)، وكذلك الفيلسوف نيتشه (1844 - 1900) والفيلسوف هوستن جامبرليني (1855 - 1927) مؤسس الفلسفة الوطنية الاشتراكية والمؤثر القوي على هتلر، والذي كانت بينه وبين هتلر صلات
وعند تسلم الوطنية الاشتراكية زمام الحكم أصبحت هنالك مشكلة الديانة المسيحية مشكلة خطيرة جداً إذ أنها تصطدم مع أصول العقائد النازية، لذلك ظهرت هنالك عدة محاولات لحل المشكلة حلاً يتفق مع المبدأ النازي، وظهرت جماعة من بين صفوف الحزب أطلق على مؤسستها اسم (المسيحيون الألمان) لم تر إلغاء المسيحية ولا مقاومتها، ولكنها رأت تجريد الديانة المسيحية من كل أصل أو عقيدة يهودية أو أية فكرة تراها النازية غير جرمانية، إلا أنها سرعان ما اصطدمت بمشاكل ذات خطورة عظيمة وهي تعيين الحدود بين اليهودية وبين المسيحية والى أي حد يجب أن يبلغه الحذف والإخراج من هذه الديانة، وعلى أي أساس يكون ذلك، أعلى أساس أقوال هتلر وروزنبرك أم على أساس التاريخ. وهذا ما يتعارض مع عقيدة النازي التي لا تؤمن إلا بأقوالها فقط. (أنظر كتاب ? وكان في نفس الوقت هنالك حركة أخرى أوسع من هذه أطلق عليها اسم الإيمان الألماني انضم إليها بعض رجال الحزب مثلت نزعات مختلفة، فمنيت بالتفرقة كذلك؛ فهنالك من اعتقد بوجوب الاعتقاد فقط بقوة عظيمة هي وراء الطبيعة وفوقها يطلق عليها اسم الإله كما هو في المسيحية، ولا يتوسع بعد ذلك ولا توضع قواعد ومواد لاهوتية أخرى؛ مثل هذه الحركة كراف ريونتلو المشهور بآرائه الفلسفية والدينية، وبكتبه في بادئ الحركة النازية وإن لم يظهر اليوم اسمه عالياً في صفوف النازي. ومنهم من أراد الاعتقاد بالمسيح ولكن بمسيح جرماني تكون حياته حياة جرمانية وأوصافه جرمانية كذلك، ذي شعر أشقر يميل إلى البياض، وعينين زرقاوين، طويل الجسم نحيف الوجه لم يخضع لإرادة أحد. وهذه هي آراء البروفسور مندل من جامعة كيل بألمانيا - وتطرف آخرون فقالوا بوجوب إلغاء الديانة المسيحية تماماً والاستعاضة عنها بالديانة الجرمانية القديمة، وإنشاء كنيسة ألمانية بحتة تمارس فيها الطقوس الألمانية؛ وقام بهذه الحركة -
وأخيراً اجتمع ممثلو هذه الحركة في شهر يولي من سنة 1933 في مدينة وار تبرك برآسة البروفسور هور ثم في سنة 1934 في تيبنكن حيث توصلوا إلى وضع الأسس التالية:
1 - يجب أن يكون الإيمان الألماني مستمداً من الروحية الألمانية
2 - إن النوع أو العنصر الألماني مستمد من الأزلية الإلهية، لذلك يجب إطاعة هذه الأزلية
3 - على حسب هذه العقيدة يجب أن تنصرف أعمالنا وأقوالنا
وقد ظهر بعض الكتاب يحاولون إثبات أن المسيح لم يكن يهودياً بل كان يونانياً أي آري الجنس، ومنهم من أثبته رومانياً، ومنهم من حاول البرهنة على أنه يهودي وأن القديس بولس اليهودي الأصل هو الذي اخترع تلك القصص، أو أنه أدخلها من اليهودية وساقها إلى روما فأوربا حيث حاربت الديانة الجرمانية والأخلاق الجرمانية العتيدة وقضت على العنصرية الجرمانية التي كان يدين بها كل جرماني حتى القرون الوسطى
غير أن أقوى حركة في صفوف النازي هي حركة ألفريد روزنبرك الذي يحاول إرجاع الديانة الجرمانية القديمة عن طريق التصوف الألماني فهو يحمل على المسيحية بنوعيها الكاثوليكية والبروتستانتية، لأن الكثلكة ليست في نظره سوى الفكرة الإمبراطورية الرومية القديمة تتمثل في محاولة البابوات تكوين سيادة عالمية. أضف إلى ذلك أن الكنيسة قد جردت الجرمان في نظره من عناصر الحرية والاستقلال والعزة الوطنية الذاتية باستسلامها إلى الآراء العالمية اليهودية، وسقوط آلاف صرعى في سبيل الإمبراطورية الرومانية التي ورثها البابوات. ويرى في الكنيسة البروتستانتية كذلك تدخلاً في السياسة وفي الشؤون العامة للشعب وفي المبادئ النازية كما حدث في مجمع الأساقفة البروتستانت في عام 1937 في مدينة أكسفورد حيث حمل حملة شعواء على النازية ومبادئها
والطريقة الوحيدة التي يراها هي الرجوع إلى الروحية الألمانية القديمة التي نادى بها المتصوف الألماني الشهير مايستر إيكهارت 1260 - 1327 أحد أساتذة الطريقة الدومينيكانية المسيحية وتلميذ اللاهوتي الألماني الشهير ألبرت فون بولشتيد ? 1206 - 1280 أحد رؤساء هذه الطريقة كذلك، وأحسن رجل اطلع على الفلسفة العربية اليهودية في زمانه، فقد درس اللغة العربية واللغة العبرية، وترجم كتب الفلسفة والطب والتصوف إلى اللاتينية، لغة العلم والدين إذ ذاك، وكان من أعظم المختصين بفلسفة ابن سينا. واليهودي ابن ميمون وقد تأثر به تلميذه هذا مايستر إيكهارت فمال إلى التصوف وصار الألمان يعتبرونه المؤسس لما يسمى بالتصوف الألماني
وقد أثرت آراء مايستر إيكهارت في عصره تأثيراً عظيماً ولاسيما في مقاطعات الراين حتى اضطرت الكنيسة إلى محاكمته بتهمة الهرطقة والخروج على الدين؛ وظل تأثيره مدة طويلة حتى عصر النهضة الأوربية. كان يرى أن المعرفة لا تكون بممارسة الطقوس الظاهرية؛ إنما تتم بالتفكير العميق، وخرق الحجب بالتأمل والتدقيق، بعبارته المشهورة (إن أردت اللب فعليك بكسر القشرة) , وكذلك بعبارته المشهورة: (تعميق البئر ينتج ماء أكثر) والمعرفة هي الوجود ذاته وبواسطة هذه المعرفة نتوصل إلى إدراك علة الوجود ولكن هذا الإله هو في كل مكان لم يكن شيئاً، فخلق نفسه بنفسه؛ خلق النفس وجعلها مساوية لنفسه تماماً فلا يستطيع أن يؤثر عليها أبداً إذ هي حرة طليقة؛ ومن هذه الروح وبواسطة الانهماك في معرفة الحقائق نستطيع الوصول إلى درجة الوحدة أو الاتحاد مع الله حيث تكون الروح كالمرآة بالنسبة لله تماماً، ويقول في ذلك:
(أحمل فيّ صورة الله: متى أراد رؤية نفسه نظر فيّ ولو أني مثله) والصلة بيني وبين الله هي المحبة وهي كذلك في جميع أجزاء العالم، والله نفسه يحب ذاته في مخلوقاته وأعماله، ولولا مخلوقاته هذه لما كان الله خالقاً بل ولم يكن الله موجوداً، فلولاي لم يكن الله، ويتصل شعاع الله بالقوى النفسية العلوية ? فيحصل من جراء ذلك إدراك الحقيقة والمعرفة
ويرى روزنبرك أن مايستر إيكهارت قد تكلم وعبر عن عقلية آرية جرمانية ومعتقد قديم، لذلك يريد إحياء تعاليمه هذه وبعثها على يد الوطنية الاشتراكية إذ لا طقوس ولا كنيسة كاثوليكية أو بروتستانتية، بل مبادئ صوفية يجب أن يخضع لها الجميع. وهذا هو خلاصة الديانة المسيحية في نظره والدين الذي يجب أن ينتشر في كل ألمانيا. ولعل ما في نفسية هتلر من اعتكاف وغموض وانزواء في وكره، وكذلك ما في نفسية روزنبرك من اعتزال عن العالم وحب الانزواء، هما اللذان جرَّا هذين الرجلين إلى التصوف مع ما بين التصوف والوطنية الاشتراكية من تباين في النظر إلى الحياة والكفاح
والواقع أن هذا التصوف ولو حاول روزنبرك وغيره إسناده إلى الجرمانية القديمة فإن من الصعب إثبات ذلك لعدم وجود نصوص تاريخية تثبت ذلك ولأن هذا الرجل كان هو نفسه تلميذ المتصوف (البرت فون بولشتيد) الشهير المترجم للكتب العربية والمتأثر بذلك، ولأن أفكار (مايستر ايكهارت) واصطلاحاته عبارة عن نسخة طبق الأصل للفلسفة الإسلامية واصطلاحاتها. ولو كان روزنبرك من المستشرقين لغير رأيه تماماً. وروزنبرك نفسه ليس من الاختصاصيين في هذه الموضوعات بل هو كاتب عاطفي ساعدته الظروف على ذلك
ويظهر من هذه التعاليم أن التصوف وهو (التسليم) والتعمق في البحث بإعطاء النفس في العرف الألماني، ونظرية الإشعاع الإلهي واختلافه باختلاف الناس، ثم في سهولة توجيه الرأي العام الذي أخذ يميل بعد الحرب العظمى إلى درس المسائل الروحية هي التي دفعت بالوطنية الاشتراكية إلى إحياء فكرة التصوف والبحث عن دين جديد يتفق مع مبادئ الوطنية أو يكيّف على حسب آراء هتلر ومبادئه.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا