انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 334/السراكينوي هم السرويون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 334/السراكينوي هم السرويون

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1939



للأب أنستاس ماري الكرملي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

7 - ما يحصل مما سبق الكلام عليه:

يحصل مما سبق الكلام عليه أن السراكين هم أهل السروات، وهم قبائل تقيم في داخل بلاد العرب من اليمن إلى ديار الأنباط، أو جنوبي اليهودية، بل إلى الشام

وأما (السكينتس) فليس اسم عرب، لا عند السلف ولا عند الرومان أو اليونان. وكيف يكونون كذلك والاسم يوناني معناه (أهل الأخبية) فقد يكونون من أبناءِ يعرب، كما قد يكونون من أبناءِ الغرب. فأهل الأخبية أو سكان الأخبية معناهُ: الرُحَّل، أو أهل البادية، الذين يثوون إلى الأخبية. فإذا علمتَ هذا، عرفت الحقيقة على ما هي بلا تناقض، ولا إشكال، ولا غموض.

وقال الأستاذ العمودي - وهو ينقل دائماً ما جاء في معلمة الإسلام، وإن لم يذكرها -: (أما (السراكينوي) فلم يُرْوَ لهم ذكر يذكر في هذه الأسفار السريانية ما خلا رسالة وصفها برداسانيس (؟ كذا) السرياني في بداية القرن الثالث للميلاد بعنوان: ' ذكر فيها الطائيين و (السراكينوس) بقوله: إنهما قبيلتان تمثلان أهم القبائل العربية الرَّحالة.) انتهى

ففي هذا القول نظر، لأن ابن دَيْصان لم يذكر السراكينوس في تأليفه - بل ألـ (سَرْقابي) أي العرب السروبين، وذكرها بأحرف إرَميَّة بالصورة التي ذكرناها في العربية. وأنت خبير أن اليونان والرومان ومن نقل عنهم ذكروا أبناء عدنان وقحطان مرة باسم العرب، وأخرى بالسروبين (أو الساراكين أو السرازين أو السراكينوي)، وطوراً باسم سكان جزيرة العرب، أو نحو ذلك ولم يسموهم باسم واحد

أما أن المسلمين عُرفوا بعد ذلك عند الغربيين بالسرازين، فلأن الإسلام نشأ وترعرع واكتهل في الحجاز، سُرَّة السروات وقلبها، ومنهُ امتد إلى ديار العالم. فمن الحق أن يسمى الغربيون المسلمين بالسروبين أو بأهل السرَوَات، وهي تسمية مأخوذة من مسكنهم، أو وطنهم، أو منشئهم الأول، كما أن المسيحيين سموا نصارى، جمع نصراني، وأص ناصراني، نسبةً إلى الناصرة وهي المدينة التي طوى المسيح بساط أيامه أو معظمها فيها

إذن لا وَهْم ولا ضير في تسمية المسلمين: (سرويين) أما أن أبناء الغرب خصوا هذا اللفظ بالمسلمين الذين افتتحوا ديارهم، فلأنهم كانوا قد قدموا إليها عن طريق مصر وأفريقيا الشمالية

وأما أن الفرنسيين سموا العرب (سرازين)، أي الذرة السمراء، فهذا من رأي الأستاذ العمودي الخاص به، ونحن لا نوافقه عليه، ولم يقل به أحد. وذلك لأسباب منها: أن السرازين عند الفرنسيين، ضرب من القمح أو الحنطة أسمر اللون أو سوداؤه، وليس بذرة، واسمه بلغة علماء النبات ولم يعرف اللفظ (سرازين) في اللغة المذكورة إلا في المائة السادسة عشرة. أما (السرازين) بمعنى العرب، أو السرويين، أو المسلمين، فكان معروفاً عندهم منذ عهد الرومان واليونان

على أن الفرنسيين يسمون أيضاً سرازين ضرباً من الجاورس، يعرف عندهم أيضاً باسم أو وبلسان العلم فاسم النبات مأخوذ من اسم العرب لا العكس، كما ذهب إليه حضرة الأستاذ الفاضل

8 - تفنيد آراء المخالفين لرأينا

ذهب بعضهم إلى أن (سراكينوي أو سرازين) مأخوذ من اسم قبيلة بعينهِ، وكان يطلق عليهِ؛ إلا أنهُ ليس في التاريخ ما يثبت هذا الرأي، فهو زائف لا محالة

أما أنه مأخوذ من (الشرقيين)، فقد ذهب إليه جمهور علماء الغرب، أو يكاد، إلا أن العرب لم يسموا أنفسهم بشرقيين حتى ينقل عنهم. فالحقيقة تمزق هذا البرقع المهلهل

أما أنه من (سرَّاقين) وأنه منقول عن العرب المتحضَّرين نابزين بهذا اللفظ الأعراب الرُحَّل، احتقاراً لهم فهو محتمل، لكن الأقدمين من الرومان واليونان يذكرون بلادهم، وأنها من أقصى اليمن إلى اليهودية أو إلى الشام، فليس الاسم من أسماء البادية المتنقلة، بل اسم عرب يسكنون دياراً معينة، ليس إلاّ

وأما أن الاسم منحوت من (صحراء ساكن)، فهذا من أسخف الآراء، ولا يقول به إلا جَهلة اللغة العربية، إذ لا يُقدَّم في هذه اللفظة المضاف إليه على المضاف، بخلاف اللغات اليافثية، أو الآرية وأما أن الأنباط أطلقوا اسم (الشرقيين) على القبائل التي تناوحهم من جهة الشرق، فالتسمية سابقة لدولة النبط، كما لا يخفى على المطلع، وقد ذكرها اليونان والرومان في تواريخهم

بقي علينا أن نبيّن للقارئ معنى قول مؤرخي الكنيسة في القرن الرابع (إن (السارازين) انضموا إلى (الإسماعيليين) الذين كانوا يقيمون في صحراء قدش (لا قادش كما قال الأستاذ) في مقاطعة فاران) اه. فهذا معناه أن السرويين، وهم أهل الجبال، انضموا إلى الإسماعيليين، سكان السهول والصحارى ليكونوا كتلةً واحدة. وليس ثَمَّ غير هذا المعنى. ولم يعرف الهاجريون باسم السرازين، إلا لأنهم كانوا منضمين إلى أهل السراة العليا، أو سراة الأزد

وقد أحسن الأستاذ العمودي في تزييف من قال إن السراكينوي لا تزال سلائلهم ممثلة إلى اليوم في قبيلة (السواركة) تلك القبيلة البدوية الصغيرة التي تعيش إلى هذا اليوم على شواطئ البحر بين العريش وغزة، إذْ هذا حديث خرافة

فلم يبقَ لنا إلا القول بأن (الساراكينوي) أو (السارازين) أو (السرازين) هم (السرويون) أو أهل السراة أو السرَوات. وكانوا معروفين في صدر الإسلام بهذا الاسم. قال في التاج في مادة (س ر ى): (وكثيراً ما يذكر الدينوري في كتاب النبات عن السروبين أي من أهل السراة) اه

وفي الكامل للمبرَّد (2: 287 من طبعة مصر):

(. . . ومن اليمن من غيرهم، عبد الّله بن الطُفيل الأزدي ثم الدّوْسِيّ، ذو النُور، أعطاهُ رسول الله نوراً في جبينه، ليدعو به قومهُ، فقال: يا رسول الله، هذه مُثلة، فجعلهُ رسول الله في سوْطهِ، فلما ورد على قومه بالسراة، جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة) هـ

فهذه شهادة بَينة على أن أهل السراة عرفوا الإسلام منذ عهد الرسول. فلا عجب بعد ذلك إذا عرف المسلمون بلفظ (السرويين)

وأخذ السرويون ينافحون عن دينهم، ويفتحون الفتوحات مع كبار القادة منذ نأنأة الإسلام. ففي تاريخ الطبري في أخبار سنة 14 للهجرة (1: 2217 من طبعة الإفرنج): فخرج سعد ابن أبي وقّاص من المدينة قاصداً العراق في أربعة آلاف: ثلاثة ممن قدم عليه من اليمن السَّرَاة، وعلى أهل السروات حُمَيضة ابن النعمان بن حُميَضة البارعي، وهم بارق، وألمع، وغامد، وسائر اخوتهم في سبع مائة من أهل السراة وأهل اليمن ألفان وثلث مائة، منهم النخع بن عمرو، وجميعهم يومئذ أربعة آلاف، مقاتلتهم، وذراريهم، ونساؤهم)

وفي الأغاني (19: 54 من طبعة بولاق الأولى): (وذكر جرير بن عبد الله خبر إسلامه (إسلام أسد بن كرز)، حدث بذلك عنه خالد بن يزيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله، قال: أسلم أسد بن كرز ومعه رجل من ثقيف، فأهدى إلى النبي، ، قوساً فقال له: يا أسد، من أين لك هذه النبعة؟ - فقال: يا رسول الله، تنبتُ بجبلنا بالسراة. فقال الثقفي: يا رسول الله، الجبل لنا أم لهم؟ - فقال: بل الجبل جبل قسر، به سمى إبراهيم قسر عبقر. فقال أسد: يا رسول الله، ادعُ لي. - فقال: اللهم اجعل نصرَك ونصر دينك في عقب أسد بن كرز) اه

فهذه الأدلة وغيرها، وهي لا تعد، تبين أن السرويين دانوا بالإسلام منذ عهد الرسول، وسعوا في نشره. ولا جرم إذا سمى العرب جميعهم باسمهم أو سمى الإسلام باسمهم، وجرى عليه الأعاجم جميعهم

لكن لما كانت السراة أو السرَوَات ممتدة بامتداد جزيرة العرب من أقصى الجنوب إلى الشام، كان فيها قبائل عديدة مختلفة الأسماء، أطلق الأدباء من عرب وغير عرب اسم السرويين على كل عربي. أما أن هناك سروات مختلفة القبائل، فيشهد عليها من كان فيها، فمنها سراة الأزد، وسراة أَلْهان، وسراة بجيلة، وسراة بلد وادعة، وسراة بني علي، وسراة جُبلان، وسراة جنب، وسراة الحِجْر، وسراة خولان، وسراة دوس، وسراة الطائف، وسراة عُذَر وهِنْوَم، وسراة عنز، وسراة غامد، وسراة فهم وعدوان، وسراة قُدم، وسراة مذحج، وسراة المصانع، إلى غيرها. وبهذا القدر كفاية في هذا الموضوع

9 - ملاحظاتنا

الملاحظة الأولى: رأينا بين مقال الأستاذ العمودي وما جاء في ترجمة من معلمة الإسلام مشابهة، وكان يحسن بحضرته أن يقول: إنه اقتبس أغلب كلامه من المعلمة المذكورة، حتى لا تبخس الناس حقوقهم، ولا تذهب أتعابهم سدى

الثانية: كنّا نود أن تكتب الأعلام على ما يرويها العرب لا الإفرنج، حتى لا يظهر للغير أننا نقتبس شرقياتنا من أبناء الغرب. فكان يجب أن يقال ذيوسقوريذس العَيْن زربي، لا أن يكتب بحروف إفرنجية، وفي كتابتها ثلاثة أوهام، إذا ما قابلناها برواية معلمة الإسلام. وكذلك يقال عن كتابة سائر الكلم التي دونت بحروف إفرنجية فإن الغالب عليها الخطأ

وقال (ص 1940) برداسانيس. والمشهور ابن دَيْصان أو برَدْيصان، وقال (في الصفحة المذكورة): البيزانطيون. والسلف لم يقولوا إلا (البوزنطيون) وبوزنطية أي بالواو لا بالياء، لأن اليونانيين كانوا ينطقون بها هكذا كما ينطقون بها اليوم. وهذه شهادة تاريخية على كيفية النطق بالحرف اليوناني في أيام العرب الأول

الثالثة: كنا نود أن يتحرى أفصح الألفاظ في الكلام. فالعرب لم تسمّ ملوك الروم: المصفرة، بل بنو الأصفر. أما المصفرَّة فهم الذين علامتهم الصفرة. وملوك الروم ما كان هذا اللون شعاراً لها

وقال الجبال السوداء. والعرب تقول: الجبال السوُد، كما تقول الرجال السود والنساء السود، ولم يقل أحد منهم الرجال السوداء، ولا النساء السوداء. وقال: من جنوب وشمال إيطاليا. ونظن أن الصواب هو: جنوبي وشمالي إيطالية. لأن الجنوب يدل على الجهة لا على قسم الأرض. وكذلك الشمال

وذكر الأديرة. والفصحاء قالوا ديارات أو دِيَرة أو أديار أو غيرها، لكنهم لم يقولوا أديرة.

هذا ما بدا لنا في أثناء المطالعة، ونحن مهتمون بأمور خارجة عن هذا البحث. ولعل خطأنا أكثر من صوابنا.

(بغداد)

الأب أنستاس ماري الكرملي