انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 331/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 331/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 331 المؤلف زكي مبارك
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 21 -

رأينا في المقال السالف سرقتين من سرقات الأستاذ أحمد (الأمين) كما كان يسميه أستاذنا الشيخ المراغي قبل أن تنكشف تلك السرقات

والكشف عن سرقات هذا الرجل المفضال لا يعد من الإيذاء حتى نقبل دعوة بعض الأصدقاء إلى مهادنته مراعاةً لأدب الصيام. فاحمد أمين نفسه يحكم منصبه في كلية الآداب يعرف أن الكشف عن سرقات الشعراء والخطباء والكتاب نوع من المرانة الذهنية، وفن من فنون الأدب الرفيع

وأعترف بأن اهتمامي بكشف سرقات أحمد أمين لا يخلو من شيطنة، ولعله ضرب من المنافسة للدكتور طه حسين، فالدكتور طه قد زعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهداه إليها، وأنا أيضاً أزعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه وسأهديه إليها، مع الفرق بين الهدايتين

وأصرح بأن تشجيع القراء وحرصهم على أن تجمع هذه المقالات في كتاب يرجع إليه من تهمهم معاودة النظر فيما شرحناه من الحقائق الأدبية، ذلك التشجيع لا يهمني كثيراً وإن كان يدلني على يقظة القراء ورغبتهم في محاسبة الكتاب والباحثين.

وإنما أنتظر أن أتلقى كلمة ثناء من الأستاذ أحمد أمين لأعرف أن الجميل في هذا البلد لا يضيع، فهو يعرف جيداً أني قدمت إليه خدمة عظيمة حين دللته على أن مصر لا تزال بخير ففيها رجال يحاسبون من كان في مثل منزلته من المتصدرين لتدريس الأدب بكلية الآداب، وهل يظن أصدقاؤنا بتلك الكلية أن حديقة الأورمان منطقة من مناطق المريخ، وأنهم بمنجاة من أسنة الأقلام؟ هيهات ثم هيهات؟!

ونرجع إلى السرقات فنقول:

شغل الأستاذ أحمد أمين نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان، وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخ وقد ناقشنا هذا الرأي بمقال مفصل نكره تلخيصه اليوم لئلا نقع في الحديث المعاد، فهل يعرف القراء من أين أخذ الأستاذ أحمد أمين هذا الرأي؟ أخذه من قول الدكتور أحمد ضيف:

(وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم الساميّة ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها، وإن هذا يدل على ضيق الخيال لديهم: لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال، ونتيجة الحيرة والبحث وحب الاطلاع. . . وكل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر، كما هي الحال عند الأمم الآرية كاليونان وغيرهم من الأمم الأوربية، وقالوا سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه، وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة، لأن أساطير اليونان كان منشأها البحث عن الخالق وتصوره فلم ترشدهم عقولهم إلا إلى ضرب من الخرافات كتبوا عنها وألفوا فيها الأسفار ونصبوا لها التماثيل، فاستدل الباحثون بذلك على قوة الذكاء وسعة الخيال وحب الجمال والافتتان فيه، وربما كان هذا من الأسباب التي حملتهم على طول الكلام والميل إلى القَصص في النثر والشعر، لأن هذا النوع من البلاغة ليس إلا ضرباً من سعة الخيال في التصور والفكر والتعبير. ومن هنا يكون تعدد الأنواع في ضروب البلاغة نظماً ونثراً)

ذلك كلام الدكتور أحمد ضيف في محاضرات ألقاها بالجامعة المصرية سنة 1918 ونشرها سنة 1921

فهل عرفتم من أين سرق الأستاذ أحمد أمين كلامه عن الفرق بين وثنية العرب ووثنية اليونان؟ هل عرفتم من أين سرق القول بأن الوثنية العربية لم تخلق التماثيل كما صنعت وثنية اليونان؟ هل عرفتم من أين أنتهب القول بأن المجاز والتشبيه لا يدلان على سعة الخيال؟ هل عرفتم من أين اغتصب القول بأن الجاهليين لم تتعدد عندهم ضروب البلاغة فلم يعرفوا الأقاصيص الشعرية والنثرية؟

إن الدكتور أحمد ضيف لم يبتكر هذا الكلام، ولكنه راعي الأمانة العلمية فذكر مصدره من كلام المستشرقين، أما الأستاذ أحمد أمين فقد انتهب ما نقله الدكتور أحمد ضيف عن المستشرقين ثم ادعى أنه من مبتكراته ودعا الناس إلى مناقشته في تلك (المبتكرات)!! فهل عرف أنه جازف أقبح مجازفة حين دعا الباحثين إلى مناقشته وهو يظن أن لن يسمع منهم غير الحمد والثناء؟

وفُتِنَ القراء بقول الأستاذ أحمد أمين إن العربي الجاهلي وصف ما رآه، وهي فكرة بسيطة لا تحتاج إلى مقال مطول في مجلة اسبوعية، ولكنها مع ذلك مسروقة من قول الدكتور أحمد ضيف:

(كان العربي يصف في شعره ما يراه، ويتكلم عما يشعر به في نفسه من عواطف وفضائل، وقد تكلم وعبَّر عما يجول بخاطره بنفس الشجاعة والإقدام اللذين كانا له في الحياة)

فأين الذين فتنوا بكلام الأستاذ أحمد أمين ليعرفوا أنه مسروق من كلام الدكتور أحمد ضيف؟

وهناك فرق بين العبارتين: فعبارة الدكتور ضيف سبقت بتعليل مقبول لوقوف العربي عند وصف ما يراه، أما أحمد أمين فاقتضب الكلام حتى لا ينتبه بعض القراء إلى أنه يجدح من سويِق سواه!

وقال الأستاذ أحمد أمين إن بلاد العرب كانت في الأغلب جرداء فلم توح إليهم التفنن في وصف المناظر الطبيعية من رياض وبساتين، وجداول وأنهار، وجبال مكللة بالأشجار والأزهار

فهل يعرف القراء أنه سرق هذه الفكرة من قول الدكتور أحمد ضيف:

(إن طبيعة بلاد العرب الجافة ذات الشكل الواحد لم تُلهم العربي ولم توح إليه من أنواع الجمال غير جمال التعبير عما يجول بخاطره وإظهار عواطفه إظهاراً ساذجاً. غاب عنه جمال الطبيعة من حقول وخمائل ومن جبال وتلال مكللة بالأشجار والأزهار، ونَدرَ لديه جريان الماء وهدوء الجو، فلم ير إلا الصحراء المحرقة ذات الفضاء اللانهائي، والنخل المصعد في السماء على شكل واحد فأثر ذلك في خياله وجعله لا يعرف التغيير)

قد تقولون إن هذه أفكار تعدُّ من البديهيات، فمن حق أحمد أمين أن ينقلها عن أحمد ضيف

وهذا حق، ولكن ما رأيكم فيمن ينقل البديهيات التي أعيدت مرات على أنها من البدع المبتكر الطريف، ثم يقول وهو مزهو مختال: هذه آراء نعرضها للبحث وندعو القراء إلى مناقشتها رغبةً في تلخيص الأدب العربي من الأوهام والأضاليل؟!

وأراد الأستاذ أحمد أمين أن يأتي بالأعاجيب فقرر أن العرب لم يعرفوا الشعر القصصي ولا الشعر التمثيلي، وهي فكرة بسيطة لا تحتاج إلى دعوى الابتكار والابتداع، ولكنها مع ذلك مسروقة من قول الدكتور أحمد ضيف: (الشعر القصصي والشعر التمثيلي بالمعنى المعروف الآن عند الأدباء في بلاغات الأمم الأخرى لا وجود له عند العرب)

وما ادعينا ولا ادعى أحد أن العرب كان عندهم شعر قصصي وشعر تمثيلي حتى نحتاج إلى حذلقة أحمد أمين.

وعاب صاحبنا على الناس أن يظنوا أن العرب عرفوا كل شيء، ولامهم على الاطمئنان المطلق إلى المؤلفات القديمة مع أنها على سعتها مشوشة تتنافر بعض أجزائها مع بعض، وعجب من أن يوجد قوم يأنفون من الخروج على الأدب القديم

وهذا الكلام (المبتكر) مسروق من قول الدكتور أحمد ضيف في مطلع المحاضرة التي ألقاها بحضور الزعيم سعد زغلول في اليوم التاسع من نوفمبر سنة 1918:

(دراسة الأدب العربي بالطرق المعروفة الآن لا تزال حديثة العهد. والأدب العربي على سعته وغناه مشوش مختلط مرتبك لا يزال باقياً على حالته الأولى من البساطة والسذاجة في التأليف والجمع، ولم تحرر بعد عقول أدبائنا من قيود الطرق القديمة والانتصار لها، ولا يزال يعد الخروج من القديم خروجاً عليه. ولا نزال نعتقد أن القدماء وصلوا إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من الذكاء والإتقان، وغير ذلك من ضروب الرضا والارتياح)

ومن ذلك ترون أن الأستاذ أحمد أمين لم يكن من المبتكرين حين أراد أن ينهبكم إلى الغفلة التي شاعت منذ أزمان، الغفلة التي توجب أن نجهل أن مصادر الأدب العربي تحتاج إلى تهذيب وترتيب، والتي قضت أن تظل عقولنا في أسر الأدب القديم، والتي أوهمتنا أن العرب لم يتركوا زيادةً لمستزيد، وأنهم وصلوا إلى كل شيء، وأن لغتهم أحسن اللغات

قد تعتذرون عن الأستاذ أحمد أمين بأنه يحادث ناساً يعيشون في سنة 1939 لا في سنة 1918، ولكن لا تؤاخذوني: فقد توهمت أننا نتقدم في الدراسات الأدبية من يوم إلى يوم، وأن ما ينشر في سنة 1918 لا يعاد بحروفه في سنة 1939 خوفاً من أن يقال إن في أساتذة الجامعة المصرية من يرى الحديث المعاد من المبتكرات

وحدثكم الأستاذ أحمد أمين أن الإعجاب المطلق بالأدب العربي يضر أكثر مما ينفع، وأن من واجبنا أن نوازن بين أدبنا وبين الآداب الأجنبية، وأن نترك أحكام النقل والتقليد. . . وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:

(كل حكم مبني على النقل أو التقليد لا قيمة له، ولا يفيد شيئاً ولا يصح الاعتماد عليه، فلا يصح أن نصدق قول من قال إن لغة العرب أحسن اللغات بدون أن نعرف شيئاً من اللغات الأجنبية ونوازن بينها وبين اللغة العربية. وإننا لنسيء إلى اللغة العربية وإلى الأدب العربي وإلى الأمة العربية أكثر من أن نحسن إليها بمثل هذه الأقوال التي لا يمكن أن يعتمد عليها إنسان مفكر، كما أنها لا تحرك العقول ولا تحملها على البحث)

ذلك كلام الدكتور أحمد ضيف الذي نقله الأستاذ أحمد أمين بدون أن يشير إليه. . . وهل كان يظن أن في مصر من لا يزال يذكر كلاماً قيل في سنة 1918 ونشر في سنة 1921؟

وحدثكم الأستاذ أحمد أمين بأنه يجب أن ننظر إلى الأدب العربي القديم كما ننظر إلى الآثار المودعة في المتاحف، وندرسه كما تدرس الآداب اليونانية واللاتينية. . . وهذا هو كلام الدكتور ضيف إذ يقول:

(من هذه الوجهة يجب أن نتعصب للغة العربية وآدابها كما يتعصب الأوربيون الآن للغة اللاتينية واليونانية لأنهما أصل معارفهم ومستودع سر مدينتهم)

وحدثكم أحمد أمين بأنه يجب أن يكون لنا أدب مصري يصور المجتمع عندنا ويحدثنا عن الزارع في حقله والتاجر في متجره والعالم بين تلاميذه وكتبه والعابد في معبد والماجن في مجونه. . . وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:

(نريد أن تكون لنا آداب مصرية تمثل حالتنا الاجتماعية، وحركاتنا الفكرية، والعصر الذي نعيش فيه، تمثل الزارع في حقله، والتاجر في حانوته، والأمير في قصره، والعالم بين تلاميذه وكتبه، والشيخ في أهله، والعابد في مسجده وصومعته، والشاب في مجونه وغرامه. أي نريد أن تكون لنا شخصية في آدابنا. ولا نريد بذلك أن نهجر اللغة العربية وآدابها، لأننا إن فعلنا ذلك أصبحنا بلا لغة وبلا أدب)

ومن هنا تعرفون كيف سرق أحمد أمين تلك (المبتكرات) التي دعاكم إلى تقليبها على جميع الوجوه لتعرفوا ما في كلامه من الخطأ والصواب!

وحدثكم أحمد أمين بأنه يجب تحرير الشعر من القوافي والأوزان حتى يتسع لشرح مختلف المقاصد والأغراض. وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:

(إن بلاغة العرب محصورة أو تكاد تكون محصورة في الشعر، والشعر لا يمثل حالة الاجتماع لضيق المجال فيه، لأنه لا يسع جميع الأفكار ولا يحتمل إظهار الحقائق كما ينبغي، لما فيه من القوانين التي جيب على الشاعر اتباعها، وكثيراً ما تضطره إلى ذكر ما لا يلزم، أو حذف ما يلزم، ولأن الشعر رغم كل شيء مبناه الخيال والمبالغات، والاستعارة والتشبيه والمجاز)

أما بعد فتلك مجموعة جديدة من سرقات أحمد أمين في الآراء التي عدَّها من (المبتكرات)

فهل أخذتم منها عبرة؟

هي أولاً شاهد على أن في أدبائنا من ينهب آراء معاصريه لا ترفق ولا استبقاء

وهي ثانياً مظهر من مظاهر الاستخفاف بيقظة النقد الأدبي فلو كان الأستاذ أحد أمين يعرف أن مصر رجالاً يسايرون الحياة الأدبية مسايرة نمكنهم من رد كل كلام إلى مصادره الظاهرة والخفية لتهيب عواقب السطو على آراء من سبقوه في القديم والحديث

وهي ثالثاً دليل جديد على عدل فاطر الأرض والسموات، فالدكتور ضيف قد انسحب من ميدان الحياة الأدبية منذ أعوام طوال، وهو يوغل في إيثار العزلة والانزواء، ولا يكاد يلتفت إلى أن له آراء يسرقها أحمد أمين أو غير أحمد أمين، ولعله يتأذى حين يسمع أننا ننوه بتلك الآراء ونأخذ بتلابيب من يسرقونها في وضح النهار أو ظلام الليل.

ثم ماذا؟ ثم ماذا؟

سترون في المقال المقبل سرقات جديدة من سرقات الأستاذ النبيل أحمد أمين!

وسترون أنه لن يضن علينا بكلمة ثناء!

الهم إني صائم! الهم إني صائم!

فاجعل إفطاري على زاد أفضل من كشف سرقات الأدباء

(للحديث شجون)

زكي مبارك