انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 331/الباحثون والساسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 331/الباحثون والساسة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1939


للأستاذ عباس محمود العقاد

المعروف عن رجال السياسة في أمم الغرب أنهم أوسع اطلاعاً وأكمل ثقافة من رصفائهم في الأمم الشرقية، فمنهم الأدباء والناقدون، ومنهم المشتغلون بالفن أو بالعلم أو بالرياضة، وقل منهم من ليست له مشاركة في موضوع من موضوعات الذوق أو التفكير

لكن العجيب فيهم مع ذلك أنهم يعدون في بلادهم من أقل الناس اطلاعاً على الدراسات النافعة في شؤون السياسة العصرية، أي الشؤون التي هم بها مشتغلون وعليها عاكفون، كأنما يستنكف أحدهم أن يتعلم شيئاً في مسألة من المسائل هو أحرى أن يجلس فيها مجلس الأساتذة المعلمين!

ومن هنا يعتورهم السهو والتقصير، وتتعرض أحكامهم على المسائل العالمية لما يشبه الغفلة والإهمال

مثل من الأمثلة الكثيرة على ذلك هذه المحالفة الشيوعية النازية التي وقعت عند الأكثرين موقع المفاجأة والغرابة وفي طليعتهم أقطاب الوزارة والسفارة

ففي الوقت الذي كان فيه بعض السفراء والوزراء يعانون صدمة المفاجأة من جراء هذه المحالفة الغربية كان قراء الكتب السياسية يتلقونها كما يتلقون نبأ جائزاً في التقدير بل مرجحاً أعظم الترجيح في الحسبان

ففي أوائل هذه السنة طبع كتاب الناقد السياسي والخبير الاقتصادي الدكتور بيتر دركر الموسوم بنهاية الرجل الاقتصادي أو الرجل الذي يفترضه الشيوعيون والنازيون فإذا بالمؤلف يقول عن المحالفة بين الروسيا والأمم الديمقراطية: (إنها قد أحدثت من الأضرار ما لم تحدثه قط غلطة سياسية في السنين العشرين الأخيرة. فلن تقع الآن حرب بين ألمانيا وروسيا ما لم تعترض في الطريق قارعة لا تخطر على البال. . . ومتى امتنعت الحرب فلا بد من محالفة تربط هاتين الدولتين في وجه العالم الغربي بأسره، ولا ينبغي أن ننظر إلى الحرب بينهما إلا على اعتبار أنها فكرة متمناة أو أمنية ترد علينا مورد التفكير. . . أما الواقع فهو أن الدولتين خليقتان أن تتقاربا وتتحالفا لأنهما متشابهتان في لباب العقيدة وأحوال الاجتماع. ومن الحق أن نترقب هذه المحالفة ولو ناقضتها في الظاهر جميع الاعتبارات والتقديرات. . .)

وفي قريب من الوقت الذي طبع فيه ذلك الكتاب كان كتاب آخر باسم (بولونيا مفتاح أوربا) يطبع لمؤلفه الدكتور رايموند لسلي الثقة بين علماء الأمريكيين في هذه الشؤون، وكان مؤلفه يراجع آراء هتلر التي بسطها في كتابه (جهادي) عن المحالفة بين الروس والألمان فيرد قائلاً:

(ومع هذا يحتمل أن تصبح الروسيا أقوى من أن تمزق وأضعف من أن ترفض اقتراحاً من النازيين بالاتفاق الشامل بين الفريقين. فهي في عزلتها عن فرنسا وبريطانيا العظمى، وفي حذرها من تهديد اليابان لتخومها الشرقية، قد تؤثر محالفة ألمانيا على محاربتها، وقد تؤدي هذه المحالفة إلى بطلان الدولية الثالثة وتقديم الموارد الروسية إلى الألمان واتخاذ السياسة المعادية لليهود؛ ويلوح أن إبرام هذا الاتفاق عسير قبل موت ستالين، ولكن احتمالاً من هذين الاحتمالين وهما الحرب أو المحالفة الشاملة أمر لا ينبغي أن يغرب عن البال. . . ولا يصعب علينا أن نتوقع اتفاقاً على تقسيم بولونيا تقسيماً جديداً بعد المحالفة)

وحوالي هذا الوقت بعينه كانت صحيفة إنجليزية تصدر في فانكوفر اسمها شمس فانكوفر وهي بلدة في كندا تنشر بحثاً ضافياً في هذا الموضوع فتقول فيه بعد عرض المسألة من جميع جوانبها ما خلاصته: (أن ستالين وهتلر قد يطرحان عنهما خصومتهما القائمة في الوقت الحاضر ويتفقان على تكرار تقسيم بولونيا من جديد. فالحكومة والأحوال في كلتا الأمتين الروسية والألمانية ليس بينهما كبير خلاف، وإن سخط هتلر وأصحابه من بيان هذه الحقيقة: كلتاهما حكومة طغيان عسكري لا أثر في ظلالها للحرية، وقد صدقت الفكاهة التي تشيع اليوم في البيئات الألمانية وفحواها أن صاحباً يسأل صاحبه في معزل عن الناس: ما الفرق بين روسيا السوفيتية وألمانيا النازية؟ فيجيبه: الجو بارد في روسيا أبرد!. . .)

كان الباحثون السياسيون يفيضون في أمثال هذه البحوث بين الترجيح تارة والتوكيد تارة أخرى والسفراء والوزراء يلحون في وجوب عقد المحالفة بين الروسيا من جهة وبريطانيا العظمى وفرنسا من الجهة الأخرى، وكان منهم رجل حصيف مثل لويد جورج يكتب وينادي بأن هذه المحالفة ضرورة لا محيص عنها وباب لا باب غيره للنجاة من إرهاب الهتلرية والنازية، وكانت الإشاعات تتوالى بالتقدم في طريق الاتفاق والدخول في التفصيلات التي لا ضير منها على المبادئ والأصول، وتشاء مضحكات القدر أن نقرأ أنباء هذه البشريات وأنباء الغدر الروسي في بريد واحد وصل بعد استفحال الخطب وجلاء الشكوك!

ويسألني القارئ: وما اقتراحك في هذه المشكلة؟ أتراك توصي بإسناد الوزارة والسفارة إلى الباحثين والدارسين وانتزاعها من أيدي الوزراء والسفراء؟

وأبادر فأقول معاذ الله!. . . إن الباحث باحث والوزير وزير، فإذا أصبح الباحث وزيراً بطل بحثه ونقص من أحد طرفيه ولم يستوف العملين في آن

وإنما أقول بوجوب الانتفاع بهذه البحوث والدراسات في تذكير الوزراء والسفراء أو في بسط وجوه النظر في كل مسألة من مسائل السياسة والحكم عندما يعرضها عليهم العارضون

فيشتمل كل مكتب من المكاتب المتصلة بالسياسة القومية أو السياسة العالمية على قسم للقراءة والتلخيص والتبويب، ولا تنظر مسألة من المسائل إلا ومعها سجل الحقائق والمعلومات والآراء التي اهتدى إليها في تلك المسألة ذوو الخبرة والاختصاص

ولبيان الفرق بين قرار يتخذه عالم منقطع للدرس والمراجعة وقرار يتخذه وزير خاضع للقيود العلمية والوقائع الراهنة والمنازعات الحزبية نسأل:

هبوا وزراء فرنسا وبريطانيا العظمى اطلعوا جميعاً على كتب الباحثين وفصول الخبراء الثقات في ترجيح المحالفة النازية الشيوعية والتيئيس من المحالفة الأخرى وآمنوا أصدق الإيمان بما قرءوه فماذا عساهم كانوا صانعين؟

كانوا يحجمون عن مفاوضة الروسيا ويستضيعون الوقت فيما ليس وراءه طائل

ونعود فنسأل: أتراهم يحسنون بذلك أم يسيئون؟؟

واعتقادنا نحن أنهم يسيئون غاية الإساءة، لأن أنصار الروسيا بين الفرنسيين والإنجليز أبناء الأمم أجمع يظلون بعد ذلك في ضلالهم القديم، ويزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أن ساسة فرنسا وإنجلترا هم الذين عزلوا الروسيا وقطعوا ما بينهم وبينها

فدفعوا بها كارهة إلى أحضان النازيين أعداء الديمقراطية، وانهم إذن مسؤولون عن هذا الفشل وعما يضيع بسبيله من الأرواح والأموال

ومتى شاعت هذه العقيدة بين الطبقات التي يؤخذ منها الجنود والعمال فالخطر عظيم، وتزييف العقيدة بالحجج العلمية والدروس النظرية عسير، وباب المكابرة واللجاجة مفتوح لمن شاء على مصراعيه

أما اليوم فقد أخطأ الساسة في مفاوضة الشيوعيين وأصاب المقدار. فلا مكابرة ولا لجاجة ولا خفاء بحقيقة النيات بعد أن بلغ من وضوح الحقيقة أن تلمسها كل يد وتبصرها كل عين

إن الدراسة حسنة واتباع الواقع حسن، وأحسن منهما واقع تهديه دراسة الدارسين.

عباس محمود العقاد