انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 315/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 315/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 07 - 1939



على هامش كتاب

حياة الرافعي

تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان

للأستاذ محمود أبو ريه

أقبلت على قراءة كتاب (حياة الرافعي) لا كما يقبل عليها غيري من أهل الأدب ومحبي الرافعي، وذلك لما كان بيني وبين الرافعي رحمه الله من صداقة امتدت أكثر من ربع قرن فعرفت من أحواله وأنبائه شيئاً كثيراً، فما فتحت عيني على هذا السفر النفيس الذي تحث عن هذه الحياة المباركة حتى رجعت إلى ذاكرتي من ناحية، وإلى كتب الرافعي الخاصة التي لدي من ناحية أخرى، لأرى إن كان صديقنا سعيد العريان قد صدق فيما روى وحقق فيما أرّخ، أو هو قد سلك تلك السُبل التي يتبعها أكثر المؤرخين من العناية بكثرة الحشد، والتلفيق في الرواية من ههنا وههنا بلا تمحيص في ذلك ولا تحقيق، كأن التاريخ لا حرمة له عندهم، والحق لا رعاية لجانبه في قولهم

جعلت ذلك همي من قراءة كتاب (حياة الرافعي). أما البحث في قيمته وأثره في عالم الأدب، وفضل صاحبه في السبق إلى اقتراع هذه الطريقة من الترجمة، وما إلى ذلك من المزايا التي امتاز بها هذا الكتاب، فقد تركت ذلك كله لغيري ممن يعرضون لنقده أو تقريظه حتى لا يقال إن صديقاً يقرظ صديقه

قرأت الكتاب من ألفه إلى يائه قراءة تدبر ودرس فخلص لي منه أن أخانا الأستاذ سعيد قد فاز بالحسنيين: حسنى الوفاء للرافعي - والوفاء في زمننا قد أصبح غريباً بل صار جريمة ومنكراً - وحسنى إحسان العمل من حيث التحقيق في الدراسة واستيعاب كل ما يتصل بحياة الرافعي حتى خرجت هذه الشخصية الجليلة في هذا السفر صورة حية. ذلك بأنه لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولم يذر شاردة ولا واردة إلا قيدها. بيد أن هناك أمرين ما أظن إلا أن اطراد البحث قد أعجله عن استكمال درسهما

ولأني أعرف الحق في هذين الأمرين فقد رأيت إحقاقاً للحق وإنصافاً لمن يتصل بهما أ أستعلن بما أعرف على صفحات الرسالة الغراء ليكون من علم قرائها الذين هم صفوة أهل الأدب في العالم العربي، ومنهم ولا ريب قراء كتاب (حياة الرافعي) لكيلا يفوتهم من أمر هذه الحياة الجليلة شئ

تحدث الأستاذ سعيد في هامش الصفحة 13 من هذا الكتاب قال: (كان للرافعي صلة روحية بالسيد البدوي ترتفع عن الجدل والمناقشة وله فيه مدائح وتوسلات شعرية كثيرة. . .) وهذا القول لو أُخذ على إطلاقه لبدا منه أن الرافعي رحمه الله كان من الذين يعتقدون بالتوسل بأصحاب القبور، فيتخذونهم وسطاء بينهم وبين الله يفزعون في كل ما يهمهم إليهم، ويستعينون بهم في قضاء مآربهم. وإذا صح ذلك كان مغمزاً في أعظم جانب من حياة الرافعي، وهو الجانب الديني؛ لأن التوسل بأصحاب القبور عند المحققين وأهل البصر بالدين إنما هو شرك بالله يبرأ منه كل مسلم صحيح الإيمان. والرافعي رحمه الله كان إماماً في الدين كما كان إماماً في الأدب؛ وكان من دعوته في الحياة أن يعتصم المسلمون بعروة دينهم الوثقى، وأن يرجعوا من وثنيتهم إلى الدين الخالص الحق الذي جاء به محمد

على أن هذا الأمر الذي أشار إليه أخونا سعيد لا يعرف غيري وجه الحق فيه، ذلك أني كنت في إحدى زياراتي للرافعي بطنطا في سنة 1918 وما كدت أجلس إليه حتى قال لي: (أبشر يا أبا رية، لقد اقتربت ساعة شفائي من علتي إن شاء الله (وهي العلة التي كانت بأذنه). ولما سألته عن مرجع هذه البشرى قال: (لقد رأيت السيد البدوي في المنام ليلة الأمس قد جاءني وبشرني بالشفاء فنهضت من نومي وأنشأت فيه هذه القصيدة) ودفعها إليّ فقلت له إن هذه القصيدة لو نشرت لكانت فتنة للمسلمين، فخير لك أن تطويها حتى نرى تأويلها. ولأنه رحمه الله كان يعتقد في عالم الروح اعتقاداً غريباً وكان يأخذ بالحديث الشريف في أن دعوة المؤمن على ظهر الغيب تنفع، وكان بحسن ظنه يستعين من إخلاصي له حتى كان لا يكتب لي خطاباً إلا ويطلب في آخره ألا أنساه من الدعوات الطيبة، فقد كتب لي في ورقة صغيرة هذه العبارة (أريد أن تذهب الآن إلى جامع السيد وتتوضأ وتصلي بعض ركعات ثم تقرأ ما تيسر من القرآن على نية أن يعجل الله بشفائي ثم تدعوا لي بذلك فإن دعاء المؤمن لا يعدله شيء في سرعة الإجابة مع خلوص النية.

وأمس رأيت السيد البدوي في الرؤيا وبشرني بالشفاء ولهذا طلبت منك هذا الطلب)

وعلى أن ما طلبه مني ليس فيه شيء من التوسل بالسيد البدوي وإنما هو صلاة لله وقراءة لما تيسر من كتاب الله ودعاء خالص يَصْعَد إلى الله ليعجل بشفائه

وهذا كله عمل خالص لله وحده فقد حاك بصدري شيء من الشك في عقيدته، ورأيت من أجل ذلك أن أتلطف لمعرفة حقيقة ما يعتقد في التوسل بالمشايخ، فسألته في خطاب بعد ذلك بقليل عما يقوله رجال الصوفية من أنه لابد لكل مسلم أن يتخذ (واسطة) من مشايخهم يصل به إلى الله، وهل هو قد اتخذ هذه (الواسطة) فأجابني في كتاب تاريخه (15 يولية سنة 1918) بما يلي:

(. . . وأنا ألتجئ دائماً إلى الاستمداد من رسول الله فإنه واسطة الجميع، ولا أدري إن كان فِيَّ استعداد للتلقي عن هذه الغاية البعيدة أم لا)

وبعد أن انقضت شهور على هذه الرؤيا ولم تتحقق البشرى حدثته في ألا ينشر ما وضعه من شعر في السيد البدوي وأن يُبْعِدَه عن ديوانه، فقال: إن هذا ما سأفعله إن شاء الله وسأجعله مما أهمله من شعري

هذا هو نبأ توسلات الرافعي بالسيد البدوي الذي تحدث عنه الأستاذ العريان

ومن يقرأ ما كتبه الرافعي في الدين ووصفه لإسلام المصريين بأنه إسلام فرعوني بما شابه من ذرائع الوثنية، وما اختلط به من البدع الشركية، يتبين له صدق ما قلنا وصحة ما روينا وأنه كان طوال حياته حرباً على الدجل والخرافات، والشعبذة والتوسلات، تلك التي لا يعرفها دين الإسلام؛ وأنه نذر كما يقول الأستاذ سعيد (أن يموت في الجهاد وفي يده الراية ينافح بها الشرك والضلال، ويدعو إلى الله ويواصل حملة التطهير)

والأمر الثاني في قول أخينا سعيد، من أن السيد رشيد رضا رحمه الله، لما قرأ مقدمة النسخة الأولى من مجلة البيان المنسوبة إلى الأستاذ الإمام محمد عبده قال: (. . . لقد كنت حاضراً مجلس الشيخ وسمعت منه هذا الحديث، ولكن لم أجد له من القيمة الأدبية ما يحملني على روايته)

وهذا القول لو ثبت على ما رواه صديقنا سعيد من أن مقدمة البيان من وضع الرافعي لكان ذلك طعناً في خلق إمام كبير من أئمة الدين يذهب بالثقة به ويلقي الشك في الأخذ عنه، ولكن الذي جرى على وجه التحقيق أنه لما ظهرت مجلة البيان التي أصدرها الأستاذ الكبير عبد الرحمن البرقوقي قابلها حجة الإسلام السيد رشيد رحمه الله بالترحيب والتقريظ، وكتب عنها كلمة طيبة في مجلته (المنار) ولما تحدث عن حديث الأستاذ الإمام مع الأستاذ البرقوقي لم يقل إنه كان حاضر مجلس الشيخ، ولا إنه سمع هذا الحديث، وإنما قال عن الأستاذ البرقوقي إنه (نقل كلام الأستاذ الإمام بمعناه لا بحروفه قطعاً)

وهذا لا يعني أن الحديث من غير كلام الإمام أو أن الإمام قد تحدث به أمام السيد رشيد

هذا أهم ما رأيت أن أنشره في الرسالة. ولقد وجدت فيما بين يدي من كتب الرافعي رسائل في الأدب والدين واللغة تستأهل النشر لانتفاع الناس بما فيها ولعل الله يقيض لي - إذا وجدت من صدر الرسالة سعة - أن أنشر ما فيه الخير من هذه الرسائل. ورحم الله الرافعي رحمة واسعة.

محمود أبو رية