انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 312/د. هـ. لورنس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 312/د. هـ. لورنس

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1939



للأستاذ عبد الحميد حمدي

مقدمة

أمل ويأس: في هاتين الكلمتين يتلخص تاريخ القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين. كانت تقوم الحركة تلو الحركة، وفي كل مرة ينبعث الأمل ويظن الناس أن الحياة قد بعثت من جديد وأنهم صاروا قاب قوسين أو أدنى من السعادة الإنسانية، ولكن سرعان ما تذوي الحركة وتموت، فيتحول الأمل يأساً، وينقلب النعيم بؤساً، وتحل الحسرة محل السرور، ويأخذ الألم مكان اللذة، وبذلك تقتم الحياة وتظلم أكثر من ذي قبل حتى لا تبشر بعد ذلك بخير

ففي مستهل القرن التاسع عشر قامت الحركة الصناعية، فهلل الناس وكبروا استفاقوا كأنهم من كابوس مريع. ولكن لم تلبث هذه الحركة أن خلّفت أضعاف ما كان موجوداً من بؤس وشقاء، فازدحمت المدن حتى ضاقت بسكانها وتوزعت الثروة ولكن توزيعاً غير عادل؛ فكان من جراء ذلك أن مال الناس عن هذه الحركة وتعلقوا بأهداب حركة أخرى ناشئة هي الحركة العلمية التي قامت نتيجة للمستكشفات العلمية والمخترعات الحديثة؛ فأّمل الناس فيها واستبشروا بها حتى صدمتهم الحقيقة المرة وتبينوا أن العلم قد يعطي الإنسان قوة فوق قوة ولكنه لا يهبه السعادة ولا الهناء

وعلى أثر يأس الناس من هذه الحركة ناصروا الحركة السياسية التي قامت تحت زعامة جلادستون أملاً في أن الدعوة إلى الحرية وإلغاء الفوارق بين الطبقات والتخلص من امتيازات الطبقة العليا هي سبيل السعادة المنشودة. ولكن ما كاد عميد الحركة يقضي حتى قضت الحركة إلى جواره، ثم أتت هزيمة فرنسا في الحرب السبعينية فكانت ضغثاً على إبالة وكالت الضربة القاضية للحركة لأن فرنسا كانت نصيرة الحرية ورمزاً لها في ذلك الوقت

وبهذه الطريقة بلى الإنسان باليأس المرة بعد المرة حتى نضب معين أمله، وزال عنه تفاؤله، وصار لا ينظر إلى الحياة إلا بمنظار أسود، بعد أن تبين له أنه إنما يحارب عدواً لا قبل له به، وأنه قد كتبت عليه الهزيمة مهما قاتل ومهما استبسل. لذلك رأى أن لا مف من اجتناب هذه الحياة والابتعاد عنها، فكانت الفنون خير مكان يلجأ إليه. . . فهناك في دنيا الخيال يسبح الإنسان في عالم من صنع يده، عالم هو مبدعه وخالقه، بعيداً عن صخب الحياة وضجيجها. ولكن ما كاد يبزغ فجر القرن الجديد حتى تبين للناس أن الفنون ما عادت تصلح لأن تكون ملجأ الإنسان إلى الأبد، وزاد إيمانهم بهذا عند نشوب حرب جنوب أفريقيا واستعداد ألمانيا للحرب بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. عند ذلك أدرك الناس أن الوقت قد حان كي يتركوا عالم الخيال جانباً ويعودوا إلى الحياة ومواجهتها

وقامت في ذلك الوقت مدارس عديدة تدعو إلى مبادئ متباينة. فقامت مدرسة ريارد كبلنج، ومدرسة برناردشو، وهـ. ج. ويلز، ثم مدرسة ج. ك. تشسترتون. وكان هم كل واحدة منها نقد مبادئ المدرستين الأخريين ودعوة الناس إلى اعتناق مبادئها هي، حتى قامت الحرب العظمى التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الأفكار والمبادئ التي كانت تسيطر على عقول البشر في ذلك الوقت خاطئة تحتاج إلى التعديل أو التغيير، وعلى هذا الأساس قامت مدارس أخرى، وعلى رأس هذه المدارس قامت مدرسة لورنس

وبرغم أن لورنس في نظر بعض ضيقي العقول لا يعدو كونه كاتباً مفحشاً أو رساماً لا خلاق له، إلا أنه يعتبر في رأي أئمة المفكرين نابغة عصره. فقد بذ معاصريه الكتاب في عالم الروايات الطويلة والقصص القصيرة والروايات المسرحية، كما فاق غيره من الرسامين بلوحاته الفنية، وظهر على الموسيقيين بمقطوعاته التي وضعها بنفسه. وكان يحدوه في ذلك كله أمل واحد وغرض واحد: هو القضاء على هذه الحياة التي غلبها التكلف وساد فيها التصنع حتى صارت حياة ملق ورياء، فكان همه أن يهدم هذه الحياة من أساسها ليقيم على أنقاضها حياة جديدة

ولما كان هذا هو غرضه وجب عليه أن يكون صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة، وأن يتوخى الصدق في كل ما يقوله، لا يهمه في ذلك نوع الموضوع الذي يعالجه ولا رأي الناس فيما يقوله، فلا يجد فارقاً بين أن يكتب في موضوع العلاقة الجنسية وبين أن يكتب في موضوع مناجم الفحم أو ما إلى ذلك من الموضوعات العادية. وهم يعيبون على لورنس صراحته وصدقه وأنه يحاول أن يخدع نفسه ويخدع الناس كما يفعل غيره من الكتاب. يعيبون عليه لغته وجرأته في التعبير وهم يعلمون أنهم يستعملون نفس اللغة في أحاديثهم في منتدياتهم الخاصة، ويعيبون عليه الموضوعات التي يعلجها وهي لم تخرج عما يفعله الإنسان منذ الخليقة حتى يومنا هذا

ولما كان لورنس صريحاً لا يعرف للمداراة معنى فقد حذر الناس من تيار المدنية الحديثة الذي يجرفهم إلى هاوية الدمار وهم لا يشعرون. فهذه المدنية الحديثة وليدة العقل والتفكير قد قامت على حساب كبت الغرائز الإنسانية. فبعد أن كان الإنسان وحدة كاملة بعقله وجسمه انفصل الاثنان، ثم تغلب العقل حتى أصبح الجسم مسجوناً لا يستطيع التنفيس عن رغباته؛ فيرمي لورنس من كتاباته أن يفك قيود الجسم ويطلق سراحه كي يستعيد الفرد كليته الأولى. ولما كانت العلاقة الجنسية وتنظيمها هي التي تكفل للإنسان الوصول إلى هذا الغرض فقد اهتم بها لورنس وعالجها في معظم كتبه

ولورنس من ذلك الصنف من الكتاب الذي يخلق في قرائه الذوق الذي يعينهم على فهم كتبه واستساغتها، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى وقت ليس بالقصير. ونلاحظ على كتب لورنس أنها سهلة القراءة صعبة الفهم، وهذا سر خلودها. فلورنس يعتقد أن الكتاب خالد ما دام يسبر غوره أحد. وكثيراً ما يقرن اسم لورنس باسم جيمس جويس أو فيرجينيا ولف أو بروست أو غيرهم من رواد المدارس الحديثة في الأدب. والحقيقة أن لورنس يختلف عنهم اختلافاً بيناً، فكتب هؤلاء صعبة القراءة في أول الأمر سهلة الفهم بعد ذلك، لأن صعوبتها هي في لغتها الجديدة وتعبيراتها غير المألوفة في حين أن موضوعاتها لم تخرج عن المطروق المألوف. وأما لورنس فعلى العكس من ذلك، فهو يكتب في لغة مفهومة مألوفة، ولكن شخصيات رواياته وحوادثها وموضوعاتها أبعد ما تكون عن المألوف، وكلها ترمي إلى غرض واحد هو شق طريق جديد في الحياة

وكان من يجرؤ على قول الصدق بين قوم ألفوا الكذب وتعودوه يحاكم محاكمة صورية تنتهي بحرقه أو بزجه في أعماق السجون. أما في عصرنا هذا عصر المدنية الحديثة و (حرية القول) فتقوم الصحافة مقام محاكم التفتيش القديمة؛ فإذا لم يعجبها كاتب بأن كان صريحاً أو مخلصاً فيما يقول قامت تشوه اسمه وتسيء إلى سمعته حتى تنفر الناس منه وتبغضه إليهم. وهذا ما فعلته الصحف المغرضة بكاتبنا، وساعدها على ذلك ميل الناس في عصرنا هذا إلى تصديق كل ما يقال دون أن يكلفوا أنفسهم مؤونة بحث هذه الآراء وتمحيصها. ولهذا نرى عدداً كثيراً من الناس لا يعرفون عن لورنس أكثر من أنه وضع كتاباً اسمه (عشيق لادي تشاترلي) صادرته الحكومة وأمرت بحرقه. وهم يعرفون كذلك أن رجال البوليس داهموا معرضاً لصوره في لندن وحطموا كل ما وصلت إليه أيديهم، ثم بعد ذلك لا يعرفون عنه شيئاً. وكان الأولى بهم أن يقرءوا كتبه بعد أن يدرسوا المؤثرات التي دفعته إلى كتابة ما كتب، وبعد ذلك يصدرون على الكاتب حكمهم.

وبرغم كل هذه الظروف المعاكسة ورقة حال الكاتب ومرضه الذي لازمه طول حياته حتى قضى عليه وهو لا يزال في زهرة شبابه، وبرغم عدم فهم الناس لكتبه وبعدهم عن تقدير صاحبها، وبرغم تنكر أصدقائه له وانفضاضهم من حوله كان لورنس كاتباً مكثاراً ما ولج باباً إلا نبغ فيه. فرواياته الطويلة كثيرة، وقصصه الصغيرة ممتعة وشعره رائع، وكتبه في الفلسفة وعلم النفس هدمت النظريات القديمة، ومجموعة رسائله كنز أدبي لا يفنى

عبد الحميد حمدي

مدرس بمدرسة شبرا الثانوية