مجلة الرسالة/العدد 300/الأم فنانة عظيمة
مجلة الرسالة/العدد 300/الأم فنانة عظيمة
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
تقولين إن حياتك الزوجية مقرونة بالسعادة، إلا انك كثيراً ما تعقّبين على ذلك بقولك إن الهموم والمشاغل تعمل على إقصاء أسباب هذه السعادة حيناً، وتفلح في القضاء عليها حيناً آخر، وإن جلبة الأطفال وضوضاء ثرثرتهم وهذرهم وطياشتهم الصبيانية تجهد هذه الأعصاب التي أرهقتها من قبل واجبات واهتمامات عديدة تبهظ الذرع، وتعيي الطوق، وتزحم سوانح الفراغ النادرة، وتجتاح نطاق الوقت الضيق. وكأنك تنسين أيتها الأم الفنية، أن رجال الفنون الكبرى، وهي الرسم والنحت وهندسة البناء والموسيقى والشعر، كذلك كانوا يشتغلون، وفي مثل هذه الحالات كانوا يجدُّون ويعملون، بل كأنك تجهلين أنك تفوقين هؤلاء الفنانين جميعاً، لأن أعمالهم الفنية مجالها العالم الماديّ، أما عملك أنت فمجاله رحاب الحياة البشرية بأسرها
ولعمري كيف لا يعرف العالم أن النحيب على الأمومة والتفطر لها، يحقران شأنها ويقوضان سرادق مجدها! وهل كان بركليس يطلب من الملأ الرحمة والرثاء لأنه بفضل جهاده ومصارعته الصعاب جعل لأثينا السيادة العليا في البر والبحر، وصيّرها مجد العالم؟ وهل كان ميكال انجلو يصيح طالباً الغياث والنجدة مما عاناه مدة سنتين قضاهما مضطجعاً فوق ألواح خشبية مشدودة إلى السقف ليتمكن من رسم قبة معبد (السيستين) في الفاتيكان؟ وهل كان رفائيل يسأل الناس الرأفة، ويجعل من ينظرون إليه يستشعرون مسّاً من الشفقة عليه، والتفجع لكفاحه الطويل المضني الذي جاءه أخيراً بصورة السيدة مريم العذراء وابنها الطفل؟!
إن كتب السيِّرَ لا تتوجع لجهاد أولئك الأقطاب، ولا تتبعهم بإحساس حار من العطف الباكي المحزون، والحنو الدامي المستحرق، بل إنها تتبين في صبرهم على المشاق عناصر رجولة نبيلة أبيّة أوغلت في ميادين العزم والشجاعة وعلوّ الهمة، وغذّت مواهبهم بقوة الإرادة، والقدرة على تذليل الصعاب، فزادتهم بذلك فضلاً على فضل، وأضافت إلى ظفرهم فلاحاً وعزّاً
ولكن هل تمكن المقارنة بين الموادّ التي يستخدمها الفنان لتدوين تعبيراته الفنية، ورسم ك ما يقع تحت حسه من ألوان وظلال وأوضاع وانفعالات، وبين ما تتناوله الأم من المعنويات السامية الزاخرة بالممكنات التي تستطيع هي وحدها أن تستشفّها وتفسرها، وتبحث في ثناياها عن أحب الأشياء وأنقاها، وتحضها على استغلال أشرف ما أودع في القوى البشرية وتروضها على التحلي بأكرم الأخلاق الإنسانية، والتمسك بخير ما فيها من سجايا الطهر، التي تنيل الحياة عمقاً واتساعاً، وتكسبها نبلاً ومجداً وكرامة وسعادة
أجل. إني أراك في أحايين، توسعين لنفسك مجال التفجع، حين تجمحين في الإشارة إلى المتاعب التي تلقينها في العناية بأسرتك الصغيرة، والاهتمام بمطالبها التي تستنفد وسعك كله، وتهدّك وتطيّر النوم من عينيك، ولست أنكر أن هذا الاهتمام يستنفد الجهد حقاً، ولكن أليس محبباً إلى النفس؟ وأي شيء يفيض على حياة الفرد جمالاً أعظم من جمال العمل الحيوي الذي يقتضي الاهتمام المستفيض ويستغرق الجهد المستطيل الملهوف على مساكه وقوامه؟ وعملك من أعظم الأعمال في الحياة، وما الذي يجعل للحياة قيمتها؟ أليس هو شعور الفرد في كل صباح بأن مهمة خطيرة موكولة إليه، وأمراً جليلاً موقوف عليه دون سواه؟ وهذا الشعور يا سيدتي هو الذي ينبض بالاهتمام - الاهتمام الخالي من الهاجس والبلبال والتأرق، والمفعم بإدراك أهمية الواجب والمسؤولية. وإنها لحياة حقيرة تلك الحياة التي لا نعرف فيها قداسة الواجب والجد لتحقيق غاية مجيدة! بل إنه لوجود وضيع خسيس، ذلك الوجود الذي يكون فيه الفرد منفعلاً شيء فيه، دون أن يكون لبعض شؤون الحياة الحق فاعلاً. أو ليس من دواعي الغبطة إذاً أن تعرفي قيمتك من هذا العالم الوسيع الرحيب، ونصيبك من واجب الخدمة فيه؟ بل أليس من دواعي الفخر أن توقني من أن لك أنت فيه حياة أعلى من هذه وواجباً أجل وأكرم، وقد ائتمنتك الروح الكلية على أدائه. . فهل تبغين سواه؟ أتريدين أن تقومي بإلقاء الخطب والمحاضرات؟ أو أن تشغلي وظيفة في بعض المصالح والمؤسسات؟ أو تكوني رسامة مجيدة تحبو الناس بقبسات باهرة من مخيلتها المبدعة، وريشتها المبتكرة، وروحها المقتبسة، ونفسها الحساسة؟ ومع ذلك فهل تخلو هذه الصناعات والوظائف مما يفرض العناية ويستلزم الاهتمام، لو راعيت الأمانة والدقة في أدائها؟ ولست أريد أن أنتقص من قدرها بما أذكره في صددها الآن وكلها جليلة نبيلة تليق بأن تستغرق حياة من لم تنتدبهن السماء لذلك الواجب الأقدس، أو من أكملن سعي الأمومة المبرور، وأحسنَّ البلاء في تعهد الأولاد بالعناية اللازمة، وهيأنَ من ريعان اقتبالهم، وعنفوان شبابهم خير عدة للمجتمع!
هذا ولا تنسى أن رجال الفن يتخذون أداة عملهم الفني من الجماد، والجماد لا روح فيه، ولا يملك من الاستجابات غير ما يشعر الفنانون إنه صوت العواطف والأفكار التي تدوي في نفوسهم. أما أنت فإن مادة تعبيراتك الفنية معنوية حية؛ تجيش في خلاياها الكائنات الحية، ويترقرق في أغوارها ماء الحياة الناشطة، ويقظة الفؤاد، ودقة الفهم، ولطافة الحسّ، وقوة العقل. وفي كل يوم ترين استفاضتها؛ في كل يوم ترين الأغصان النامية التي تساعدينها على اتخاذ سمتها إلى النور والسماء، وتستجيب لهاتف رعايتك وتثقيفك، وفي كل يوم تتكرر مظاهر اتصالها بك، إذ تلتفّ تلك السواعد البضّة حول عنقك لتحدثك عن حبها الساذج النقي، وفي كل يوم تشنف أذنيك مرارا تلك النغمات الملائكية كلما نادتك قائلة: (ماما! ماما)! وفي كل يوم ينفخ إيمانُ تلك القلوب الغضة، وثقتهم بما أوتيت من حكمة وخبرة، روحَ الحياة في قلبك. إن الفنان يحكي الطبيعة، وينقل ما يقع تحت حسه من صورها، ويتخذ من مخلفات حياته الفنية صلة الحياة بما بعد وجوده الفاني في عالم الزوال. أما أنت فتسلمين وديعة السماء السرمدية إلى الأرض، وتخلدين نبتة الحياة التي تنتقل ثمارها من جيل إلى جيل، وتتفتح أزهارها في متلاحق الحقب، ويدخر حصيدها الذهبي إلى ما وراء الأبد والبعث. . . وتقدمين للوجود على يديك إثباتا أكيداً لذات أوسع وأكبر، وبقاء أشمل وأكمل، وتمنحين الإنسانية فوزاً متكرراً، وذخراً يجدده بروز مواهبك في الأمومة الرشيدة الحكيمة. وما جمال الفن، وما مجد الفنان إلا بعض فضل الأم على كل مبتكراتهما وروائعهما! فهل تشتكين بعدُ من العناية بالبيت؟ وهل تقولين إن الأطفال أيضاً يضايقون ويزعجون! و. . . و. . . الخ. وزوجك العطوف؟ إنه يحبوك بالنصح والتدبير والمشورة في حيرتك وارتباكك، ويسرّي عنك آلامك، ويمحضك إعجابه، ويخصّك بحبه الذي تستمدين منه سنداً لضعفك. . وأمومتك نفسها توقظ فيه حنو الرجولة وتنّبه حنانها الشهم القويّ. . . فهل تحرصين على هذه العطايا أن تذهب بلا طائل؟ أم هل تعدّينها من الالتزامات والضرائب المفروضة على الزوج؟ أو لا تعرفين أيتها الجليلة الفتية الراتعة في بحبوحة الدعة أن هذه الدعة هي خير ما تستطيع أن تغدقه عليك عناية الزوج المحبّ؟ ألا تعرفين أيتها الأم الشابة المنعمة بالطمأنينة التي يبعثها في نفسك شعورك بأنك توفرين أسباب الصحة والحياة لأولادك، وتظللينهم بستر جناحيك، وتجعلينهم في حرز حريز يصونهم من أحداث الزمن وسموم القدر التي تعصف بمن أذلهم اليتم، وأخنى عليهم الحرمان والفقر. . .
ألا خذي هذه العطايا البنوية الشاكرة والزوجية الواقية ولا تجحديها. . . لأنك بهذا الجحود تحطمين أشرف عاطفة، وتلغين أنقى رابطة قائمة على التفاهم والإخلاص، وإدراك الحياة الكاملة، والتوجه إلى ما فيها من حب وتعاون وشكران. . . فتقبليها من يد الزوج الأبرّ القوي، آية وفاء لحقوق تلك الشركة المقدسة التي ربطت بينكما، وتعاهدتما على أن تلتمسا بها لحياتكما أمناً بل زينة تنسيك أنت متاعب الفروض البيتية والعناية بالأطفال وتحيلها لذة ونعيما مقيما. . .
هذه أمانيّ الراجية المؤملة أزجيها غير متجافية ولا متبجحة. وهأنذي أتطلع إلى ما توحيه إليك نفسك السمحة، وينتهي إليه جهدك الجبار، فإنها لعمر الحق برهانك الذي يباهي به جنسك هذا المجتمع بل الإنسانية قاطبة، فاحرصي على أن تكون فَلَق الصبح المبين لمصرنا العظيمة. والسلام عليك ورحمة الله
الزهرة