مجلة الرسالة/العدد 300/أعلام الأدب
مجلة الرسالة/العدد 300/أعلام الأدب
درامات إسخيلوس
للأستاذ دريني خشبة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
4، 5، 6 - الأورستية
هذه هي الثلاثية الواحدة التي وصلتنا سليمة من إسخيلوس وقد أخذ كل مادتها من هومر، وأجاممنون هو بطل حلقتها الأولى وباسمه تدعى. . . والمأساة تبدأ من ذلك اليوم المشؤوم الذي ضحى فيه أجاممنون بابنته إفجنيا حيث ذبحها لتتحرك الريح وتحمل الأسطول إلى طروادة كما مر بك في هوميروس. . . فلما علمت زوجته كليتمنسترا - أم الفتاة - بما وقع لابنتها من الغدر، ولم تكن تعلم بهذا التدبير من قبل، بل قيل لها إنها ذاهبة لعقد قرانها على أخيل بطل أبطال اليونان، ثارت ثائرتها، واعتراها حال من الهم والحزن أخرجها عن إنسانيتها فأبعدت عنها كل معالم الحياة. . . حتى ابنها الأوحد أورست لقد نفته بعيداً عنها، وعاشت وحدها في قصر البلوبيد الرهيب، واضطرمت في قلبها نار الحقد على زوجها القاسي. . . ثم وصلت أسبابها بأسباب إيجستوس أحد ذوي الثارات على بيت أجاممنون، فوافق شنُّ طبقة كما يقولون، وألفت التّرات بين قلبيهما فشاعت عن علائقهما الشائعات. . ولما وضعت حرب طروادة أوزارها وعاد أجاممنون مع تلك الفتاة النَّبيَّة ابنة بريام، دبرت له زوجته تلك القتلة المشئومة التي ذهبت بروحه وروح فتاته إلى هيذر
فأما الحلقة الثانية الـ (خُوَراُفْروَا) أو حاملات الخمر المقدسة فتقع حوادثها بعد ذلك بسنين عدة كانت الملكة وعشيقها يحكمان آرجوس طوالها. . . فلما شب أورست أستأذن ملك فوسيز في العودة فأذن له ولصحبه صديقه بيليدز. . . ووصل إلى مقابر آرجوس حيث وجد أخته إلكترا تصب الخمر على جدث أبيه لأن أمها رأت في المنام أنها تلد ثعباناً ثم تأخذه في حضنها، فأرسلت بنتها لتصب الخمر قربانا إلى روح أجاممنون. . . ويعرب الشاب أخته فيعرفها بنفسه وتكون قد صلت للآلهة على ثرى أبيها أن ترسل إليها أخاها، فتكون مفاجأة جميلة، ثم يوصيها أورست بكتمان الأمر حتى ينتقم لأبيه. . . ويدخل القصر في هيئة تنكرية فلا تعرفه أمه، ثم يأخذ في سرد قصة فحواها أن أورست قد مات فتتظاهر الأم بالحزن ثم تدخل مخدعها، ويدخل أورست وصديقه حجرة الأضياف. . . وتذهب مرضعة لتدعو إيجستوس ليعلم ما قال الرسول عن وفاة أورست فما يكاد يصل إلى القصر حتى يسمع من الداخل وهو يصرخ ويجود بنفسه. . . لقد قتله أورست!!. . . وتهرع كليتمنسترا لترى ماذا حدث، لكنها تعاجل بضربة شاطور (بلطة) فتتلفت فترى أورست عند جثة عشيقها، وهي مع ذاك تنسى آلامها وتنحني فتبكي فوق جثة إيجستوس. . . ثم يأتي أروع مشاهد إسخيلوس الدرامية. . . فالأم حينما تعرف أورست لا تبالي الدم المتدفق من جرحها، بل تكشف عن ثدييها وتعيّر الابن بكفرانه هذا اللبن الذي غذاه صغيراً، ثم تنذره بملاحقة ربات العذاب إياه حتى ينتقمن منه على جريمة قتل الأم وهي أشنع الجرائم في الشرع اليوناني، ويهتز أورست، ثم تعروه نوبة من الجنون، وتتراءى له ربات العذاب فيذعر، ويفر من وجوههن ليحتمي بهيكل الإله أوبوللو في دلفي.
وفي الحلقة الثالثة (يومنّيدز) أو ربات العذاب، يتعلق أورست بأستار هيكل أبوللو ضارعاً إلى إله الشمس أن يحميه، وتكون الكاهنة وسنانةً فتستيقظ مفزّعة مروعة ثم يظهر الإله أبوللو نفسه فيطمئن أورست ويشمله بحمايته ويأمره أن ينطلق إلى أثينا حيث يعرض قضيته على رّبتها مينرفا (باّللا أثينا) فيصلي أورست وينطلق إلى حيث أمره أبوللو وتبقى ربات العذاب فيدخل شبح كليتمنسترا وتأخذ في تحريض الربات فيتغنّين قليلاً ثم يطردهن أبوللو. . . ويتغير المنظر فنكون في أثينا في هيكل مينرفا وقد تعلق أورست بأستار المذبح وقد أخذت تنوشه ربات العذاب فتبدو ميرنفا وذتودهن عنه، ثم تستمع إلى شكواه. ويكون في المعبد جماعة من المحلفين وينهض الإله أبوللو ليؤدي شهادته ويدلي برأيه فيقرر أن الإنسان ينتسب إلى أبيه لا إلى أمه؛ ولذا فهو مرتبط بوالده قبل أن يرتبط بوالدته. . . وبعد أن تسمع مينرفا إلى آراء الآخرين تنهض هي فتعلن رأيها ثم تجلس ويأخذ المكلفون في (فرز) الأصوات وتكون النتيجة متساوية بغير ترجيح فيحدث شيء من الهرج في قاعة العدالة وتتبرم ربات العذاب لتدخل أرباب أقل منهن مرتبة في أخص أمورهن، فتنهض مينرفا وتأخذ في تلطيف سورتهن بفصاحتها المعهودة وتهتف بهن (أن أسمى واجب الآلهة هو نشر السلام بين بني الإنسان!) وتعدهن بإقامة مأوى عظيم لهن في هضبة إيرس فيهدأن ويختفي الجميع بذهابهن إلى مأواهن في حفل رهيب
هذه هي أرفع درامات إسخيلوس بل أرفع درامات الأدب اليوناني إذا استثنينا درامة برومثيوث للشاعر نفسه. . . وقد سخر فيها الشاعر بهذه الشريعة العجيبة التي تنافي العدالة المطلقة التي جعل لها الفوز والغلبة في النهاية. . . وكان إسخيلوس ماهراً في تلك الدرامة إلى آخر حدود المهارة فقد استدرج اليونانيين حينما أراد إصلاح وجهة نظرهم إلى تلك الأغوال التي يدعونها ربات العذاب حتى جعلهم يؤمنون أنها ينبغي أن تكون لخير الإنسانية لا لذعرها، ولنشر السلام لا لتعميم الذعر والأذى. وهكذا استطاع إسخيلوس أن يبشر بدين جديد من دون أن يحدث ثورة، وكان جل إيمانه بسيادة عليا تهيمن على الكون وتسير به إلى الكمال كما سنرى في برومثيوث
7 - برومثيوث:
أخذ إسخيلوس موضوع ثلاثيته من أسطورة برومثيوث الخالدة وتتلخص فيما يلي:
بعد أن فرغ إيروس (كيوبيد) من توشية الأرض وزخرفتها بالنبات، عَمَرها بالحيوان، ثم دعا إليه الإلهين برومثيوث وإبيمتوث ليخلقا فيها حيواناً راقياً تكون له السيطرة على سائر صنوف الحيوان ويسمياه (الإنسان). فلما صنعاه سألا إيروس أن ينفخ فيه أنفاس الحب (روح الحياة) كما سألا مينرفا أن تنفخ فيه من روحها (روح الحكمة). فلما دبت الحياة في هذا المخلوق العجيب زُهي برومثيوث وشاعت فيه الكبرياء واعتزم أن يهدي إلى الإنسان منحةً جزيلة تفتح له أبواب المدنية وترقى به في مدارج الحضارة. . . وكانت النار إلى ذلك الحين حقاً خالصاً للآلهة وكان لهم دون غيرهم (امتياز) استعمالها، فاعتزم برومثيوث أن ينسرق إلى الأولمب ليحضر للإنسان جذوة من النار المقدسة فأحكم تدبيره وتغفل سيد الأولمب (زيوس) وسرق الجذوة ثم آب إلى الأرض دون أن يشعر به أحد. . . ومضى حين من الدهر، وتلفت زيوس من عليا سمواته فشهد النار تتأرجح في أطراف الأرض فهاج هائجه، وأقسم ليعذبن السارق عذاباً شديداً. ويعرف أن السارق هو برومثيوث فيأسره ثم يذهب به في أقل من لمح البصر إلى جبال القوقاز حيث يقيده ويربطه بسلاسل وأصفاد في قمة جبل هناك ويسلط عليه باشقاً من جوارح الطير فيظل ينهش كبده نهشاً شديداً. . . وهنا يبدأ إسخيلوس الحلقة الأولى من درامته. . . فهذا برومثيوث مُصفَّداً بالأغلال صابراً لأنكى ألوان العذاب، ينهش الباشق كبده نهاراً ثم ترقأ جراحه ليلاً وتنمو الكبدة، فإذا أصبح عاد الباشق إلى نهشه وتعذيبه وهكذا دواليك. . لكن برومثيوث إله فهو لا يموت، ثم هو لا يقهره هذا العذاب بل هو يصبر له في سبيل سعادة الإنسان الذي خلقه وحضّره وجلب له النار وعلمه الفنون، والإنسان مع ذاك شاكر له ذاكر أياديه فهو يصلي له ويقنت، والفتاة يو البائسة المعذبة التي سلطت عليها حيرا زوجة سيد الأولمب هذا الوحش الفظيع آرجوس والذبابة المؤلمة تلدغها وتسومها من العذاب ألواناً. . . هاهي واقفة بجانب برومثيوث تواسيه وتتوسط له عند التيتان ليستغفروا له سيد الولمب فلا يغفر له، لأنه قوي مجنون ليس في قلبه شفقة ولا يعرف فؤاده العدالة. . . ويصبر برومثيوث ثم يصبر، ولا يرضى أن يخذل الإنسان لأن الإنسان يصلي له ولا يني عن عبادته. . . وفي الحلقة الثانية يذهب هرقل بن سيد الأولمب في إحدى مجازفاته فيشهد برومثيوث مصفداً في قُنَّة الجبل والطير تنهش كبده، فينقض على الباشق الجارح ويقتله، ويرد إلى برومثيوث حريته. فينطلق هذا الإله الطيب ويلقاه الناس مسبحين بحمده فرحين مستبشرين. . . وفي الحلقة الثالثة (برومثيوث حامل النار) يصف إسخيلوس احتفاء الأثنينيين بالإله الذي ضحى نفسه واحتمل نفسه واحتمل الآلام في سبيل الإنسان
هذه خلاصة سريعة لأعظم درامات إسخيلوس، وبرومثيوث خي درة فلسفية أعجب بها الشعراء في كل العصور، وقد عارضها شللي الشاعر الإنجليزي بمنظومة رائعة جرى بها في أذيال إسخيلوس. . . وقد كان إسخيلوس لاذعاً في هذه الدرامة، فقد سخر بهذا الإله المتغطرس زيوس الذي كان يكره الإنسان ويناوئه ولا يريد له الخير الذي أراده له برومثيوث. وجماع فلسفة إسخيلوس في هذه الدرامة أن القوة التي تهيمن على هذا العالم يجب ألا تكون قوة مجردة لا عقل لها، بل يجب أن تتضافر القوة والحكمة بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى لخير الإنسانية وعمار الكون، فإذا اختل التوازن بينهما لم يصح أن تكون هناك آلهة. . إذ كيف يكون إلهاً ذلك الذي يعذب إلهاً آخر (برومثيوث) ثلاثين ألف سنة؟ بل كيف يكون هذا الإله عاقلاً؟
وبعد، فلقد كان إسخيلوس يحتقر الديانة اليونانية ويعرف أنها أضغاث، وقد احتقرها من يوم نبوءة دلفي التي أمرت اليونانيين بأن يستسلموا للفرس لأنهم لا يغنون عن أنفسهم من شرهم شيئاً. فلما انتصر اليونانيون آمن إسخيلوس بإله عادل يسيطر على الكون ويقهر الظالمين، ويرعى الضعفاء، فلم يأل جهداً بعد هذا في هدم هذه الآلهة الكثيرة التي خلقها السلف ووقع في عبادتها الخلف عن جهالة وغباء
هذا هو إسخيلوس الدرامي الأول، فلعل دراسته تمنعنا من الإسهاب في تأريخ من يليه من أدباء اليونان
دريني خشبة