انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 281/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 281/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1938



أفاعي الفردوس

ديوان الأستاذ الياس أبو شبكة

بقلم الأستاذ فليكس فارس

ديوان يحوي ثلاث عشرة قصيدة من شعر الأستاذ إلياس أو شبكة نشرته جريدة المكشوف البيروتية فاسترعت نبراته الأسماع، واستوقفت معانيه تفكير المتأملين

إلياس أبو شبكة نسيج وحده بين شعراء العرب اليوم. ولا أقصد بهذا الوصف أن أرفعه فوق أترابه، فهو وإن كان في الطليعة من نسور الخيال، لا يسبقهم تحليقاً، ولكنه يند عن سربهم نافراً من خطوط الأنوار في أجوائهم إلى مسارح الغيوم السوداء فلا يدور إلا في مقاصف الرعود، ولا يطوي جناحيه إلا ليحط قوادمه على أدواح الغابات الموحشة أو على فوهات البراكين

أو شبكة نسر ثائر مروع لا تستهويه سقسقة الجداول ولا عيون الأزهار ولا ناهدات الأثمار على الأماليد، وليس في إنشاده تغريد بلبل أو غناء شحرور. إن للنسر صرخات مدويات لا يأنس لها إلا من يتعشق ولولة الرياح على القمم، وهدير الأنهار في الأغوار

سمعت أبا شبكة يرسل أوائل صرخاته في القريض وأنا أحول أنين بلادي الخافت إرعاداً أطلقه من قمم المنابر، فكأنني سمعت جباراً إنشاده قرقعة سلاح، وأشعاره خطب قيودها دروع لازرد أغلال

ولو أن أبا شبكة لم يمد جناحيه إلى أفاق الدنيا ولم يطلق نظراته على مجالات الشعر في المجتمع الإنساني، لو أنه حصر تشاؤمه وثورته في حدود بلاده ولم يصطدم بالعواثر من آمال متقدميه، وقد ملأت منعطفات المصاعد كأنها أشلاء، لكان هذا الشاعر يتيه اليوم على أرض الناس لا أرض أجداده، لكان أختار له منفى أو اختير له منفى

من أوائل قصائد هذا الشاعر أبيات وجهها إلى منذ أربع عشرة سنة يشكو بها الحياة وهو لما يزل على عتبة الشباب وقد نشرتها جريدة الشعب، ويلذ لي بل أرى من دعائم بحثي أن أقتطف منها بعض أبيات: قال مفتتحاً:

أشكو إلي قلبك يا سيدي ... قلباً ثوى في حظي الأسود

أطلقته طفلاً ولما نما ... أصبح محتاجاً إلى مرشد

وقال:

فارس، ما للحر من راحة ... في وطن يرتاح للأعبد

ويل الشباب الغض من قلبه ... إذا أضلوه ولم يهتد

يا شاعر الآلام هذا دمي ... ذويته شمعاً على معبدي

هذي شكاتي يا خطيب العلى ... أرفعها للرجل الأوحد

وجدت في نفسك ما لم أجد ... في أنفس مخمدة هجد

لامست في أناتها ثورة ... أخمدت النار ولم تخمد

هذه الأبيات يزفر بها صدر فتى لم يبلغ العشرين، فيها شرارات من اللهيب المندلع اليوم من كل بيت يرسله أو شبكة، وإنني لأغتفر له الآن إغراقه في وصفي بالرجل الأوحد لأنه كان وهو يتلفت إلي في ثورته يناجي ما كمن في نفسه من مُثل يهفو إليها

وقبل أن أعرض لديوان (أفاعي الفردوس) أرى أن أقف عند قصيدة الحجر الحي التي أنشدها صاحب هذا الديوان أمام تمثال المغفور له (فوزي المعلوف) في حفلة إزاحة الستار عنه في السنة الماضية، فأقتطف منها نماذج لاستقرار الإلهام وتطور البيان

أطبق جناحيك معقوداً لك الظفر ... فقد وصلت وشوط المجد مختصر

ما ضر وكرك أن تأتيه منطفئاً ... ما دام قلبك في جنبيه يستعر

عيناك في الحجر المصبوب ساهرة ... يقظانة فيهما أحلامك الغرر

تواجه الليل هول الريح صاخبة ... ما ضرك الذئب جوعاناً ولا النمر

نيران عبقر في عينك إن مردت ... هوج الدجى فعلى عينيك تنصهر

مهما طغى الليل لا تشقيك زوبعة ... إلا على جانبي وقبيك تنصهر

يقظان والناس عمى في مراقدهم ... سيان ناموا على ذل أم احتضروا

عار علينا تنام الليل هانئة ... عيوننا وعباب الليل معتكر

لم يبق من رومة إلا صغائرها ... ومن قياصرها إلا دمي كسر رفعت عنك ستار الناس منتفضاً ... أيحجب الخلد من يفني ويندثر

هذي الستارة كانت في تشددها ... عليك آخر قيد شده البشر

كأنها وهي تنضى خلعة كذبت ... من الفناء لحاء عنك يقتشر

منذ ابن مريم والأكفان هاوية ... عن النبوغ وصخر القبر منحدر

كم في بلادك من نفس تود على ... وقاح عورتها أن تسدل الستر

وبيت الختام هو هذا:

لرب حيّ غدا في قومه حجراً ... ورب ميت غدا حياً به الحجر

هذا أنموذج من شعر أبي شبكة أخذناه من الأماليد ومن الجذوع وكلاهما صلب كالأرز ينقصف عوده ولا يلتوي

وإلى الشعراء الآن مقتطفات من ديوان أفاعي الفردوس، الديوان الحامل أسلوباً لا يمكن لأحد أن ينكر جدته وروعته.

وقد جاء أبو شبكة بطابع مستحدث في الشعر العربي سيبقي هو عميده الأول حتى في الزمن لذي سيكثر فيه أشياعه ويفوقون فاتح وهاتك أستاره

لم يشأ شاعرنا أن يتقدم بديوانه دون تمهيد نثري بسط فيه رأيه في الشعر فجاء بنظرات صائبات تسلسلت في درس عميق يطل فيه من شخصية شاعر حكيم له ثقافته واطلاعه الواسع وأحكامه كشرقي مستقل في مبادئه لا يؤخذ بالتيار الغربي الذي يجتاح إلهام عدد وفير من الشعراء في هذا العهد

اسمع أبا شبكة كيف يواجه مسألة الاستلهام في أوطانه:

(وإنني لأسأل ماذا ترانا نستطيع بهذا القاموس الضيق، هذا القاموس المتورد، نتشبث به للتعبير عن أعمق حقائق النفس فترفع الكلفة بيننا وبين اللغة ولا نتورع عن سلوك مهامه غائمة كأننا في حلم؛ وقد يخيل إلينا ونحن نسلك هذه المهامه أننا نسير في الطريق الشعري السوي بينما نحن في الحقيقة لا نحاول إلا الخروج عن أنفسنا مستعبدين لنظريات خاطئة بل مضرة تحرر منها حتى مبدعوها أنفسهم)

إلى أن قال مستنتجاً:

(فالمدارس الشعرية سجون، ونظرياتها قيود، والشاعر لا يعيش في جو العبودية هذا؛ فالطبيعة هي جوه الفسيح فكيف احساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر عن هذا الجو خرج عن نفسه وكذب على نفسه)

هذا ما يقوله أو شبكة عن المدارس الشعرية التي حسن لدى الغربيين أن يدعوها مدارس. وإنا لنرى الفرصة سانحة في معرض هذا البحث لنقول كلمة موجزة عنها وعن الخطأ في تصورها وتسميتها

إذا صح أن نطلق مدارس على المذاهب العلمية والفلسفية فهل يصح أن نطلق هذه التسمية على أساليب الشعراء في بيانهم وعلى ما تستلهمه الأنفس من سرائرها ومما حولها من المشاهد؟

إن أتباع المدارس العلمية والفلسفية ينقسمون أرهاطاً على عقائد معينة تختلف إحداها عن سائر اختلافا بيناً، فهنالك طرائق وأوليات يسلم بها أشياع كل مدرسة كأنها قانون إيمان إن جنح عنه واحد منهم خرج حتما من رهطه ليدخل في رهط مدرسة أخرى. وأين في الشعر مثل هذا الإجماع ما دامت السليقة وحدها هي المتحكمة في خواطر الشاعر وإحساسه ولهجته وطريقة بيانه؟

لذلك يقول لك أبو شبكة:

(إن بول فاليري الذي جاءنا بنظريات خلقت في الأدب الغربي جيلاً مضعضعاً لم يحد عن صراط (ماليرب) ولم يتمرد على القاعدة الكلاسيكية في النظم؛ وإني لأجد في شعر فاليري أبياتاً يستطاع دسها في شعر لامارتين)

إن التضعضع الذي يشير أبو شبكة إليه إنما تشاهده بين فئة المتأدبين والمتشاعرين في كل أمة، لأن المشتهرين في كل نوع من أنواع الفنون ينتصبون في خيال محاولي الإبداع مثلاً عليا يطالبونها بخلع العبقرية عليهم كمكافأة لتقليدهم وتصنعهم

أما الفنان الحقيقي فان طابع شخصيته يتغلب على جميع المؤثرات التي تدور به والخاطرات التي تتسرب إلى سريرته من مطالعاته، فهو يريك أبداً سماءه في إنشائه، ويسمعك نبراته في موسيقى بيانه، حتى ولو تجلت في أقوال من تقدموا وعاصروه من أهل فنه

إذن ليس في الفن - وأخص منه البيان على الإطلاق - ما يصح أن يدعى مدرسة؛ وإن كان هنالك من هم بحق أساتذة فليس لهؤلاء الأساتذة تلامذة بمعنى التلمذة الصحيح، إذ ما يمكن لطالب الأدب أن يستفيد من أدب معلمه سوى تقليده والسير في ركابه إذا لم يكن لهذا الطالب شخصيته المستقلة التي تجري في مسالكها مقتبسة من كل ما يدوي في أجواء الأدب من نبرات العبقرية دون أن تجاري أحداً وأن تقلد أحداً

من الذين تستمر أذواق الشعر في النهضة الحديثة شعراء تغنى الإشارة إليهم عن ذكرهم، وقد كان لكل منهم طابعه الخاص، فما كان أسلوب حافظ ليشبه أسلوب شوقي مثلاً، غير أنك تجد عشرات من الشعراء قلدوا الأول وعشرات قلدوا الثاني فنظموا على وتيرة كل منهما دون أن يبلغ واحد منهم مرتبة أمير الشعراء أو مرتبة شاعر النيل.

وإنني لا أزال أذكر ما شاهدته من ظاهرة التقليد هذه أيام إعلان الدستور حين تسنم المنابر عدد قليل ممن استوحوا الساعة فأهملوا البيان إلهاماً، إذ لم تمض أسابيع حتى غصت المنابر بالمتتلمذين فكنت تسمع أصوات أمراء المنبر وتشهد حركاتهم تقليداً، فمنهم من هو صورة مشوهة للريحاني، ومنهم من تلبس خيال الغلابيني أو مجاعص أو. . . ولكنني لم أر واحداً من هؤلاء المقلدين الذين استنامت شخصيتهم الباهتة للاستهواء بلغ مقاماً له شأنه في مراتب الخطابة

وهنالك ظاهرة أخرى في الفن الغنائي قد تدهشك إذا أنت انتبهت لما يسمعك إياه المذياع كل يوم من أصوات عديدة لأم كلثوم تخرج من حناجر عشرات المغنيات، ومن أصوات عديدة لعبد الوهاب يسمعك إياها عدد من المغنين يتزايد يوماً فيوما.

هذه هي المدارس في الفن، وما هي إلا عبارة عن تجمع كتل من المقلدين حول الأفذاذ النابغين، فما أقل عدد الهاتفين بأصوات تعلق دماء القلوب في نبراتها، وما أكثر الصخور الصماء تدوي في فراغها الأصوات تقذف بنبرة لتخنق نبرات.

هذه كلمة أؤبد بها نظرية صاحب ديوان (أفاعي الفردوس) في إنكار المدارس في الفن، أو بالأحرى في إظهار هذه المدارس على حقيقتها. وما كان أبو شبكة إلا من الثائرين على التقليد والحدود، وهو في شعره أصل مستقل لا يعرف لشعوره حداً إلا ما ينشأ من شعور نفسه

(البقية في العدد القادم) فليكس فارس