انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 278/أسلوب العقاد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 278/أسلوب العقاد

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 10 - 1938



للأستاذ سيد قطب

نصف الحياة اضطرابٌ ... ونصفها أوزانْ

هذا هو مذهب العقاد في الحياة، وهو مذهبه في الفنون، وهو رائده في التعبير. . . الشعر حركة في الضمير، وهزة في الشعور - وهذا هو الاضطراب - وهو بعد ذلك لفظ مقروء وجرس مسموع - وهذه هي الأوزان - فإذا اضطربت العواطف واشتجر الشعور وماجت الأحاسيس، فيجب - لتكون فناً - أن تضبطها الأوزان وتحدها الألفاظ، ويحكمها التعبير

من فهم هذا المذهب على حقيقته، فقد فهم أسلوب العقاد، وتنبه إلى الدقة في ترتيب المعاني وتنسيق العبارات، وفي إيراد الألفاظ المعبرة عن المعنى بلا زيادة ولا نقصان

التعبيرات الطائرة، والأساليب المزوقة، والجمل المتراقصة، كل أولئك لا نصيب له في شعر العقاد، لأن الشعر أقدس لديه من أن يكون ثوب مهرج، أو قفزات بهلوان! وهو كذلك مالك لريشته، متنبه لتعبيره، فلا مجال لغير الدقة والقصد والإحكام

هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى أن الأحاسيس والمعاني التي يضطلع بها الأسلوب في شعر العقاد ليست رخيصة مبتذلة، ومعظمها ليس متداولا متعارفاً، وهي على العموم ليست (ملقاة على قارعة الطريق). فالأسلوب في شعر العقاد إذن يضطلع بعبء لا يضطلع به عنه سواه، وهو عبء من نتاج الإنسانية الممتاز، ومن ثروة الفن العالي، ومن الخلاصات النفسية، فمن حق هذا الأسلوب أن يتريث ويتأنى، وأن يكون له وقار من وقار المعاني التي يحملها، وجلال من جلال الأحاسيس التي يصورها، وأن ينظر فيه أولا إلى مقدار الذخيرة الفنية التي يفيض بها، وأن تكون الموسيقية الممتازة فيه هي موسيقى المعاني والأفكار والآفاق الجديدة التي يرتادها في هدوء وعمق وسموق، لا الموسيقية اللفظية الرخيصة وحدها، وهي ليست بذات بال

وما أقول هذا لأن شعر العقاد تنقصه هذه الموسيقى اللفظية ففيه الكثير منها، بل في هذا الشعر مجموعة من القصائد التي تتوفر فيها هذه الخاصة، قلما يوجد نظيرها في دواوين الشعراء الموسيقيين، كما أن الرصانة والجزالة في عامة شعر العقاد ملحوظة واضحة.

وإذا شاء أحد أن يأخذ على بعض من ينتسبون للمدرسة الحديثة من الشبان قصوراً في التعبير، أو عدم عناية بالديباجة العربية السليمة، فما هو واجد من ذلك شيئاً في شعر العقاد بالذات، ودون هؤلاء دواوين العقاد كلها إذا أرادوا

ولكن جماعة ممن يبيحون لأنفسهم أن يقتعدوا مقعد النقاد بلا مؤهلات، يقسمون الإنسانية تقسيما غريباً، ولا يسمحون أن يحتاز إنسان لنفسه موهبتين أو أكثر، كأنما يخشون نفاذ هذه المواهب التي بين أيديهم! فمن كان شاعر معان وأحاسيس، فما هو بشاعر موسيقى وتعبير، والعكس بالعكس، إلا من يشاء لهم (الإنصاف البديع) أن ينالوا أكثر من قسط، وهؤلاء يجب أن يكونوا من خصوم العقاد!

ومن هنا كان العقاد - عند هؤلاء - كاتباً ولم يكن شاعراً، فإذا سمحوا له بقسط من الشاعرية، فليكن هذا القسط في المعاني والأفكار، وليبق الأسلوب والتعبير وقفاً على طائفة خاصة من غير المغضوب عليهم، أو من أولئك الشعراء المريحين الذين لا يتعبون هؤلاء المحترمين في فهمهم وفي التسلق إلى مستواهم الرفيع، ولتختلف المقاييس حسب اختلاف الأهواء، فتارة يكون الأسلوب الجيد هو الجزل الرصين، حين يستعرضون للعقاد بعض القصائد السهلة الرشيقة، وتارة يكون الأسلوب الجيد هو العذب اللذيذ حين يعرضون للعقاد بعض القصائد المتينة الرصينة، ولو أنصفوا أنفسهم وأراحوها لقالوا: إن الأسلوب الجيد هو غير أسلوب العقاد في كل حالة، لأن هذا ما يرضي نقصهم وقصورهم حيناً، وحقدهم وتعنتهم أحياناً!

وهاأنذا أفتح الجزء الأول من ديوان العقاد، وهو الجزء الذي ابتدأ به حياته الشعرية، وانتهى من نظمه وهو في الرابعة والعشرين، وأختار هذا الشعر بالذات، لأن الشاعر في أبانه لم تكن قد استقامت له بعد طريق البيان، ولم يكن مالكا لريشته وألفاظه، وكان خليقاً أن يقصر ويعذر في التقصير

ولكن شيئاً من هذا لا تلمحه في ديوان الشاعر المبتدئ، بل إنني لأريد أن أفهم كيف يكون الأسلوب العربي الرصين المشرق، إذا لم يكن كالقطعة الأولى في الديوان الأول بعنوان (فرضة البحر)، حين يقول

قطبَ السفين وقبلة الربان ... يا ليت نوركِ نافع وجداني

يرجى منارك بالضياء كأنه ... أرَق يقلب مقلتي ولهان وعلى الخضم مطارح من ومضة ... تسري مدلهة بغير عنان

كمطارح الأفكار في لجج على ... لجج من الشبهات والأشجان

تخفى وتظهر وهي في ظلمائها ... باب النجاة وموئل الحيران

أمسيتِ إحداق السفائن شُرَّع ... صُور إليك من البحار روان

كالبيت يجمع بعد تشتيت النوى ... شمل الأحبة فيه والإخوان

جوديَّ كل سفينة لم يبنها ... نوح ولم تمخر على الطوفان

فيها التقى بر وبحر واستوى ... شرق وغرب ليس يستويان

بسطت ذراعيها تودع راحلا ... عنها وتحفل بالنزيل الداني

زمر توافت للفراق فقاصد ... وطنا ومغترب عن الأوطان

متجاوري الأجساد مفترقي الهوى ... متبايني اللهجات والألوان

فانظر إلى تلك الوجوه فانها ... شتى ديار جمَّعت بمكان

في فرضة متقاصر عن متنها ... موج أشم أحم ليس بوان

موج بطيف بها وقدران الكرى ... فيها طواف الضيغم الغرثان

ألقت مراسيها السفائن عندها ... وتحصنت منها بدار أمان

فكأن ضوء منارها نار القرى ... لو كان يُبعث ميت النيران

بل كيف يكون الأسلوب العربي المشرق إذا لم يكن مثل قصيدة (عزاء) في الصفحة الثانية من الديوان الأول حين يقول

يا شاكيا وصبا أحاط بنفسه ... أربِعْ عليك لكل يوم كوكب

حمّل الفؤاد ما يؤودك حمله ... أني لأجلدُ للهموم وأصلب

أنت النعيم لناظريَّ وخاطري ... عجبا وحقك من نعيم ينحب

يشكو من الدنيا الآلي لولا همو ... ما كانت الدنيا تحب وترغب

إما بكيتَ فلستَ أول شارق ... يجلو العيون وقد حواه الغيهب

قد كنت تبلغ ما تريد وتشتهي ... لو أن للأيام عينا ترقب

لا يذهبن بك القنوط فربما ... عاد الصباح وأنت لاه تطرب

دمع الشبيبة لا حرمتَ ثمارَه ... يروى به اللب الغضيض فيخصب فأما حين يطلبون الرصانة وقوة الأسر وجزالة الأسلوب وفخامة التعبير، فإن الجزء الأول من ديوان العقاد يجيبهم إلى طلبتهم في عدة قصائد أذكر منها (وقفة في الصحراء) وفيها يقول:

هضابكِ أم هذي أواذيَّ عيلم ... وهل فيك من ورد لغير التوهم

تخايلت كالدنيا وأقفرت مثلها ... فلا تخدعني إنني لست بالظمى

أيا ربة الآل الحلوب وإنما ... إلى الآل ركب الناس جمعاء فاعلمي!

خلوت فلا آثار حيٍّ ثوابتٌ ... عليك ولا آثار ميت معظم

نَبا بِكِ عن حال العمار وضده ... شِماسٌ فلم تبنى ولم تتهدمي

تشابهت الأيام فيك فلم يكن ... إلى السعد يومٌ أو إلى النحس ينتمي

صحارى من الدهر الفسيح جديبة ... كعهدك لم تعبس ولم تبتسم

لَفيكِ وإن طال الزمان غوارب ... على الناس أخفى من غوارب أنجم

أضاءت عليها النيرات ولم تزل ... هنالك في ليل من الغيب أيهم

إلى أي ركن فيك يلجأ هارب ... وفي أي ظل من ظلالك يحتمي

تسدين أرجاء الزمان بحاصب ... من النار موار العجاجة مظلم

تثور كأفواج الدخان تطلعت ... إلى عُلْو من قاصي قرار جهنم

إذا ما رآها الوحش ولى كأنها ... من النقع تجلى عن خميس عرمرم

يلوذ ببطن الأرض والأرض جمرة ... خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم

ويذهل حتى يفلت الليث صيده ... ولا تفرق الغزلان من ناب ضيغم

وما سكنتها الوحش إلا لأنها ... أحب إليها من جوار ابن آدم

وقفت عليها والمطايا تقلنا ... مطايا ثمود قبل ذاك وجرهم

ذميلاً وإرقالا وما تستحثها ... سياط سوى الرمضاء أيان ترغى

فقلنا بأوجار الضباع فأكرمت ... على البعد مثوانا ولم تتقدم

كرامة مضطر ويا رب طارئ ... يكرمه من لم يكن بالمكرم

هذه أو قصيدة (ليلة نابغية) حين يقول:

إلى أي قولي قائل أنت أميل؟ ... وعن أي حاليك العشية تسأل؟ عرفت مدى شطر وشطر جهلته ... فحسبك من بلواك ما لست تجهل

تغوص على الأوجاع بُهراً كأنني ... بريء من الأوجاع لا أتململ

فيالك من قلب إذا ما تعللت ... قلوب الورى لم يغن عنك التعلل

تعلق إلا بالمحال رجاؤه ... وأقسم لا يلهو ولا يتأول

ضمنتَ كدُفَّاع الضرام لواعجاً ... أأنت لنيران اللواعج هيكل؟

فيا من يراني والفؤاد كأنه ... إذا الليل أغضى قاتل يتزمل

ويا من يراني والنجوم كأنها ... نواظر من خوف المنية تقفل

كأن الفضاء لم ير الشمس مرة ... ولم يسر فيه بدره المتهلل

أبيت وبي ليلان: ليل صباحه ... يرَّجى وليل مدبر الصبح مقبل

أضمد جرحي باليدين وفيهما ... جراح يغشيها النجيع المسلسل

وأحمل نفسي وهي ولهى طليحة ... إذا التام منها مقتل سال مقتل

إذا أدبر الليل استرحت وإنما ... يوكل بي الليل الذي هو أطول

عفاء على الأضواء ماذا انتساخها الل ... يالي وليلى آخر الدهر مسبل

فيا شهب خطى بالرجوم على الدجى ... وباصبح فاسمعني ويا ناس فانقلوا

ضؤلت سراجا يا شموس إذا خبا ... سراجي وليلي قاتم الجنح أليل

فأما حين يطلبون السلاسة والعذوبة، فما أكثر ما يجيبهم ديوان العقاد الأول وحده إلى ما يطلبون، وأقرب ما تقع عليه العين قصيدة الحب الأول ونقتطف منها قوله:

يهنيك يا زهر أطيار وأفنان ... الطير ينشد والأفنان عيدان

طوباك لست بإنسان فتشبهني ... إني ظمئت وأنت اليوم ريان

هذا الربيع تجلى في مواكبه ... وهكذا الدهر آتا بعده آن

تفتحت عنه أكمام السماء رضىً ... وزفه من نعيم الخلد رضوان

وشائع النور في البستان باسمة ... والأرض حالية والماء جذلان

الشمس تضحك والآفاق صافية ... جلواء والروض بالأثمار فينان

وللنسيم خفوق في جوانبه ... وللطيور ترانيم وألحان

في كل روض قرى للزهر يعمرها ... يا حبذا هي أبيات وسكان مستأنسات سرى ما بينهما عبق ... كما تراسل بالأشواق حبان

الورد يحمر عجبا في كمائمه ... والياسمين على الأغصان ميسان

وللقرنفل أثواب ينوعها ... عن البلور صناع الكف رقان

وللبنفسج أمساح ممسكة ... كأنه راهب في الدير محزان

وحبذا زهر الليمون يسكرنا ... منهن جام خلا من مثله الحان

والليل يحييه والأطيار هاجعة ... بلابل وشحارير وكِرْوان

مؤذن الطير يدعو فيه محتسبا ... فيستجيب له بر وغيان

والصبح في حلل الأنوار طرزه ... في الشرق والغرب أسحار وأصلان

كأنما الأرض في الفردوس سابحة ... يحدو خطاها من الأملاك ربان

ضاق الفضاء بما يحويه من فرح ... فكل ما في الفضاء الله فرحان

. . . الخ. . . الخ

وعلى قيد صفحات من هذه القصيدة الرائقة الرائعة تجد (ليلة الأربعاء) وفيها يقول:

شف لطفاً عما وراء السماء ... نور بدر مفضض اللألاء

رق سجف السماء حتى كأن ال ... عين تتلو هناك سر الفضاء

وسرى الطرف في الفضاء فما يث ... نيه ثان عن خوض ذاك الفضاء

وربا النور كالعباب فما في ال ... كون غير الظلال من ظلماء

تلك أولى لوائح الصيف والصي ... ف بهيج في الليلة القمراء

يمن الله سعيه من رسول ... يطرق الأرض وافداً من ذكاء

مولد الأرض فهي تلبس فيه ... كل عام مطارف الأضواء

أضرم الجو بالمشاعل كالظا ... فر يعدو في إثر جند الشتاء

إلى أن يقول في عذوبة رقيقة:

ليلة الأربعاء بالله عودي ... وأعيدي يا ليلة الأربعاء

ليلة أرسل الزمان بها عف ... واً فجاءت كحكمة البلهاء

قد نسينا الصباح حتى ذكرنا ... هـ بنور من بدرها الوضاء

فوصلنا مساءها بصباح ... ووصلنا صباحها بمساء وشربنا ونحن مرضى من الهم ... دواء أنعم به من دواء

ثم يقول من هذه القصيدة:

أين لا أبعد المهيمن داراً ... لك يا من أجله عن ندائي

أذكرتني بك الكواكب والبد ... ر ونفخ الرياض والصهباء

أنت أقصى مني ضمائر لو شئ ... ت لباتت في غبطة وهناء

أنت شمس لهيبها في فؤادي ... أنت نور لظاه في أحشائي

أنت عندي كليلة القدر في الدهـ ... ر ولكن لن تستجيب دعائي

تتجلى في كل حسن فأرعا ... ك وأنسى محاسن الأشياء

. . . الخ

تلك نماذج مختلفة من أسلوب العقاد في أول ديوان يصدره منذ خمسة وعشرين عاما مرن على النظم، واستجابت له التراكيب وسلس له التعبير، وتهيأ له خلالها ما يتهيأ لأي شاعر عادي من المران والدربة والإتقان.

فإذا استغنينا بالجزء الأول وحده، فنحن واجدون للعقاد كثيرا من شعر الأساليب الفخمة الجزلة، والأساليب الرصينة المتينة، والأساليب العذبة السلسة، وكل ما يعنيه الأسلوبيون ببدائع الأسلوب. ودع عنك ما وراء أسلوب العقاد من معان وفكر وأحاسيس وعوالم واسعة من الفن الفريد

فماذا يريد إخواننا الرافعيون؟

إنهم ليستغشون ثيابهم ويضعون أصابعهم في آذانهم، ويذهبون ويتجنون وينكرون، وما على العقاد ولا على المدرسة الحديثة منهم، بل لا كانت هذه المدرسة إذا كانت تنظر إلى رضاء الرافعي!

(حلوان)

سيد قطب