انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 268/تحرير الألفاظ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 268/تحرير الألفاظ

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1938



الروعة والطرب

للأستاذ محمد شوقي أمين

تقول اللغة في مشهور ما تقول: طرب الرجل: فرح، وطرب: حزن. وتقول أيضاً: راعه الأمر أعجبه، وراعه: أفزعه

والقائم في الأذهان أن لفظيْ الروعة والطرب من باب الأضداد المتعارف شأنهما في خصائص الفصحى؛ على حين أنهما في الحق لا يدلان على واحد من الضدين بعينه حقيقة ووضعاً، فحقيقتهما ووضعهما للموجان والتضرّب لا غير. فالروعة والطرب يدلان كلاهما على اهتزاز النفس وتحركها، وهيْج الخاطر وتأثره؛ وإنما يدل كل منهما على معنيي الفرح والحزن دلالة مجازية يبين السياق نص موقعها من الإبانة والإفهام، وتؤازر القرائن المقصود لذاته منها أسلوب الكلام

وربما كان الصوت الرخيم شبيه ما نحن بصدده من هذين اللفظين، فإن الدلالة المعنوية للصوت الرخيم على معنيي الحزن والفرح، أكثر شيء وفاقاً لدلالة لفظي الروعة والطرب على ذَيْنِك المعنيين

متى ذكر جمال الصوت ورقته، انصرف الذهن أول ما ينصرف إلى الفرح؛ فالغناء فيما يبدو للناس على وجه عام، بريد المسرة، ووافد الابتهاج. مع أنه في حقيقة الأمر يستنبث الشجو، كما يستثير الغبطة؛ ويرتاح له الشعور الحزين، كما يأنس به البال الرفيه. فهو منتجع الشجيين والخليين على سواء بينهما. وكم أنبطَ الغناء من عبرات حِرَار لم تكن تبضَّ قطراتها لولا رِشاء النغم الحنون!

تلك هي النائحة المستأجرة، تبعث صوتها المتحزِّن في مناحات النساء، فإذا به وقود تتضرّم به مجامر الزفرات، ورنين تستيقظ به كوامن الأحزان. فتمضي النساء وقد حضرتهن الهموم يبكين شجْوَهن!

وهذا ابن سريح ظل صدر شبابه ينوح. وقد أُنسيت: أين؟ أفي مكة أم في المدينة؟ وحيثما كان فقد نوّح دهراً وهو ورقاء هتوف، قبل أن يغني في بغداد وهو بلبل صَيْدَح. . . هاج صوته خلف الجنائز لواعج الحزانى، من المكيين أو المدنيين بين رجال ونساء، وأحيا ذلك الصوت نفسه ليالي البغداديين الملاح، فكان عون اللهو ورُقْيةَ الصبوات!

ذلك لأن الغناء في ذاته لا شأن له بما يكون في النفس من أفراح أو أتراح، وإنما هو ذوب ينسرب إلى أذن السامع، وسحر يمشي في حسه، فيهزَّ مناحي الشعور، ويضيء ظلام الجوانح، فينكشف مستورها من الأفراح أو الأتراح. . .

فعمل الغناء على هذا هو التنبيه والإيقاظ، سواء أكانت النوائم آلاماّ أم لذائذ. وهكذا الشأن في لفظي الروعة والطرب فهما يدلان على الهيجة والهزة والتحرك، سواء أكان ذلك للذائذ أم للآلام

أما مفاد القول اللغويين في لفظة الروع فهو: الفزع، وقالوا: سُمي القلب رَوعاً بالضم، لأنه موضع الفزع. فقولك: راعه الأمر، أي بلغ الرّوْع رُوعه، والأمر الرائع هو الذي يصل الفزع منه إلى القلب

وفي رأيي أن العرب سموا القلب روعاً وجرا بينهم استعماله ثم اشتقوا منه الفعل: راع، ليفيد إصابة القلب كما يقال: فأده أصاب فؤاده، ورأسه أصاب رأسه، وعانه أصاب عينه. وهذا الباب من أبواب العربية ينفسح لكل الأعضاء، فقد ألمع العلماء إلى اطراده، تقول: فَعَلَه، أي: أصابه، وفُعِل هو، بالبناء للمجهول، أي أصيب

وقد أخلي أصحاب المعجمات أسفارهم من الإشارة إلى هذا الوجه خلال أقوالهم في اشتقاق فعل: راع، وعلقوا الصلة بينه وبين الروع بمعنى القلب على بلوغ الفزع، وذلك التعليق هو الذي إياه نأبى، وغيره نرى.

على أنهم في تعليلهم لبعض الاستعمالات العربية في هذا اللفظ ذكروا ما يقوم مقام التنزُّل عما سبق أن علّقوه. جاء في شرح القاموس نقلا عن حُذاق اللغة: (ما راعني إلا مجيئك، معناه: ما شعرت إلا بمجيئك، كأنه قال: ما أصاب رُوعي إلا ذلك) وهذا التفسير اللغوي يفيد، على الجلاء، أن راعه الأمر: أصاب روعه، أي قلبه، دون ذكر لخوف أو فزع.

وهذا تعبير عربي وثيق، تقول: (وقع ذلك في روعي، أي نفسي وخلدي وبالي) فالوقوع هنا خالص مجرد، وهو يفيد الوصول إلى القلب، غير محدود بوصف، ولا معّين في وجه.

ومن فُصح العربية كذلك قولك: (فلان يرتاع للخير) ووجه هذه العبارة أن ارتاع هنا مطاوع راع، ففلان يروعه الخير، أي يمس قلبه، ويقع في نفسه، فهو يرتاع للخير، أي يرتاع إليه، ويطمئن به.

وعلى هذا، تقول: راعني الأمر، أي وصل إلى خاطري، وتأثر به جناني، فإن كان ذلك الأمر داعية بهجة فذاك، وإن كان نذير مساءة فكذلك، فالزينة الرائعة هي الرائقة التي يبلغ إلى القلب الإعجاب بها؛ والفجيعة الرائعة هي المفزعة التي تهزُّ القلب نبأتها.

وأما لفظ الطرب فأن الخطب فيه أيسر. وقد تضاربت فيه أقوال فقهاء اللغة، ومن هذه الأقوال ما نوافقه فيما ذهبنا إليه.

هي آراء ثلاثة في ذلك اللفظ:

أولها أن الطرب للفرح، وللحزن. ومن شيعة ذلك الرأي (ابن الأنباري) فقد حشده في كتاب (الأضداد) فيما حشد من مادة كتابه!

والثاني أنه حلول الفرح وذهاب الحزن. وقد ذكر هذا الرأي صاحب اللسان، وكأنه عرف ضعفه فصان اسم صاحبه عن نسبته إليه

ثالث الآراء هو الذي نواطن اللغويين عليه، وهو أن الطرب خفة تعتري عند شدة الفرح أو شدة الحزن. وقد ذكره مكن أعلام اللغة جمع بينهم (ابن دريد) في الجمهرة و (الجوهري) في الصحاح

وممن أرتضى هذا الرأي من المتأخرين صاحب المصباح، فأنه أثبته في موضعه من معجمه وزاد عليه قوله: (والعامة تخص الطرب بالسرور). فهل فات الفيومي أن العامة تجري في هذا التخصيص على رأي أسلفنا ذكره هو الرأي الثاني؟ أم يذهب إلى أن هذا الرأي ينزل من الآراء منزلة العامة وقالة السوق؟!

ولعل أوفق ما قيل في معنى لفظ الطرب قول الثعلب: (الطرب (عندي) هو الحركة) فهذا هو القول الصائب على ما ترى؛ ولكن ابن سيدة قال في التعليق عليه: (ولا أعرف ذلك). . . على أن فقد المعرفة ليس بإنكار ولا تخطئة، ولثعلب أن يكون له (عند) وما هو بظنين

وثم لفظان هما عسيَّان أن يدخلا من هذا الباب، وتصدق عليهما هذه الصفة، ذانك لفظ الشجو، ولفظ الوله. فقد أصفق اللغويون - وبينهم الكسائي - على أن شجاه: حزنه وطرَّبه ضد. وذكر بعض منهم في المعجمات أنه قيل: إن الوله يكون من الحزن والسرور. وأنا لم أجد حول هذا الذي قيل في الوله ما يعزز جانبه، ولم أجمع من صيغه ولا من صيغ لفظ الوله ما يسفر به وجه الاشتقاق، فأحتسب الآن بالإشارة إليهما، والتنبيه عليهما، غير مبرم لهما قولاً، ولا قاطع فيهما برأي

وقصار البحث أن لفظي الروعة والطرب لا يدلان إلا على تأثر النفس بما يُحضرِّك ما فيها من المباهج أو الكروب، فالغناء يَرُوع ويُطرب، والمغنِّي رائع مطرب؛ لأن روعة الغناء وطربه يستخفان المشاعر؛ فَتَتَبرج الفرحة الخَفرة أو يهتاجُ الأسى الكظيم؟

محمد شوقي أمين