مجلة الرسالة/العدد 249/الفصول
مجلة الرسالة/العدد 249/الفصول
للأستاذ عبد الرحمن شكري
طيري أَمَانِيَّ النفوس وغَرِّدي ... فلقد دعاك الروض خير دعائهِ
هذى عيون للطبيعة قد رنت ... في الزهر من أكمامه وخِباَئهِ
بَسَطَ الربيعُ على الحياة رِدَاَءه ... يا ليتها أبداً تُرَى بردائه
بل ليته بُرْدٌ نَخيطُ على هوى ... هذى النفوس لكي تُرى بروائه
والشي لولا أن يَرُوَع بفقده ... ما شاق عند قدومه بلقائه
لا كالشتاء تزايلت أوراقه ... كتزايل المهجور عن قرنائه
تتناثر الأزهار عن أفنانه ... كتناثر اللذات من أهوائه
وتخال إذ دَلَفَ الشتاء كأنما ... ساق السنا بِدَبُورِه ورُخائه
هَرَبُ الضياء من السحاب وريحه ... هَرَب الكَعاَب من الهوى وقضائه
فر الخريف من الشتاء وخلفه ... عادٍ يريد لحاقه بجرائه
مثل المريض يفر من عادى الردى ... هيهات ذا والدهر من أعدائه
راع الشتاءُ بقُرِّه فكأنما ... أنفاس ثغر الموت قُرّ هوائه
والريح مثل فم الشتاء وصوتها ... شكوى العجوز يخاف من أبنائه
نَقِمَ العُقُوقَ فقام يشكو أمره ... للناس ينشد آسياً لبكائه
والأرض تنظر في فروج أديمها ... نظر الفقير إلى ثقوب ردائه
من بعد ما نفدت نفائس كنزه ... سَرَفاً وشح العيش بعد سخائه
وكأنما دجن الشتاء مُقَطِّباً ... ذكرى العجوز لزهوه وفَتاَئِهِ
وكأنما دوح الخمائل في الدجا ... نشوى شياطين انتشت بسقائه
شربت من الإظلام حتى أكثبت ... تبغي النهوض كَمُكْثِبٍ من دائه
في كل غصن في الظلام نواظر ... كنواظر للغيب خلف كِفاَئه
وكأنما دوح الظلام ثواكل ... لبست حداد الثُكلِ فعل نسائه
تحنو عليك غصونها فكأنما ... تبغي سرار السمع من إصغائه
والدوح يهفو كالمؤَرَّقِ في الكرى ... يلوي على الأفنان فضل كسائه تتردد الأرواح في أفنانه ... كتنفس الرعديد في لأوائه
وكأن في إطراقها وسكونها ... فِكَرُ المصيخ لروحه وندائه
يا ليت بعض العمر تُقْطَعُ بيْدُهُ ... وَثْباً ويُمْهِلُ في سنِّى رخائه
كالسِّفْرِ تقرأ بَعْضَهُ مُتَرَيِّثاً ... جذلاً وتطوي بعضه لهرائه
أوليت حادي الأرض يعكس سيرها ... عن بعض دورتها بوقع حدائه
أوليت هذا الدهر عقرب ساعة ... يَلْوِي به عن نحسه وشقائه
آمال أمس كزهرة قد صَوَّحَتْ ... عود الربيع مُجَدِّدٌ لرجائه
يا نفس لا تأْسَيْ لعمر قد مضى ... بربيعه زمن أتى بشتائه
تَتَشَوَّفين إلى قديم عهوده ... نَظَرَ الغريق إلى السُّهَى وسمائه
بُشْرَاكِ خلف الموت لو تردينه ... نبت الربيع يروق في غلوائه
كالطير بعد الصيف تترك عشها ... نحو الجنوب ترود أرض ثوائه
عطف النسيم على الأزهر هامساً ... أَنَّ الربيع سعى إلى ندمائه
أَنَّ الربيع أخا الصبيحة مُقْبلٌ ... إقبال وجه الحِبِّ في لألائه
كالظئر بَشَّرَت النَّؤُومَ بأَنْ بدا ... فجرٌ لِعِبدٍ كان قيد رجائه
والقلب مثل الطير في وَضَح الضُّحَى ... يتلو على الإصباح آي غنائه
وكأنما أُمُّ الخلائق دوحة ... من قبل آدم فهي من قربائه
تشدو كشدو الأم ناح وليدها ... تنحو عليه لصونه ووقائه
والريح طير شاد في أفنانها ... وكرا كأن الزهر من أبنائه
وكأنها أجنحة الملائك نسمها ... نسم يطب برفقه وصفائه
وكأن ينبوع الحياة غديرها ... خُلْدُ الصِّباَ في جرعة من مائه
والقلب مثل النهر باشَرَ ماَءهُ ... جسم الحبيب تراه في سودائه
أَهْوَاك يا روح الربيع فَهَيِّئيِ ... جسماً كجسم الغيد في لألائه
ثم اخطري بين الخمائل في الضحى ... رقص المدِلِّ بحسنه وبهائه
فلعل في قبلات ثغرك برء ما ... أَعْيا الأنام بحُكْمهِ وقضائه
أرد الخلود بقبلة وبضمة ... تروى ظماء الخلد من لمائه والزهر يبعث بالطيور إلى الضحى ... تُفْضي إلى الآفاق من أنبائه
الأَرض أم للخلائق كلهم ... والشمس بَعلٌ شاقها بفَتاَئه
فالناس والأَطيار في وَضَح الضحى ... والزهر في الأَكمام من أبنائه
النار والأَمواه من آبائنا ... والنار والأَمواه من آبائه
يهنيك يا دوح الخميلة بعده ... نسيان نيسان وطيب هوائه
تنسى الربيع كأَنه ما زفه ... نغم البلابل في مثير حِدَائه
لا تمنع المشتاةُ عَوْدَ زهورِه ... وأَريج نسمته وحَلْىِ كسائه
يا ليت طيب العمر يُنْسى وِرْدُهُ ... فأبيتُ مثلك لا أحن لمائه
لكنَّ طيب العمر ليس بعائد ... لأخي صَدًى يُظْميه صَوْبُ بكائه
وترى كحالات النفوس تغيرا ... في روضه وسمائه ونِهائه
فكأنما للكون روح خُلْقُه ... يبدو لنا في غيمه وضيائه
تتغير الأَشياء فوق وجوهه ... لتغير الأشجان في حَوْباَئه
من لي بأجنحة الزمان أهيضها ... كي لا يطير بصفوه ورخائه
أَوْليته الغَرِدُ الحبيسُ أُقيمُهُ ... كيما أُرَاح لشدوه وغنائه
كي يذكر العهد الأَنيق وأوجهاً ... كانت تُطِلُّ على وذيلة مائه
خلع الجمال قناعة وسعى إلى ... عُشَّاقِهِ وعُفاَتِهِ وظِماَئِهِ
والمرء لولاً صيفه وربيعه ... ما ذاق حُلْمَ السعد في لأوائه
والروض باب للجِناَنِ وثغرة ... منها ترى الفردوس خلف فنائه
وكأَنما صبغ الأزاهرَ صابغٌ ... فتكاد تأخذ منه إثر طلائه
والضوءُ غُدْرَانٌ ترقرق تْبرُهاَ ... وأراق منها الأَفْقُ فَضْلَ إنائه
واللونُ شِعرٌ للطبيعة وقعه ... في العين وقع اللحن في سودائه
شهد الشتاء بأن أُفْقَ سمائه ... أدنى إلينا من قَصيِّ فضائه
والنفس تعظم في الربيع كأنها ... في زهره ونَسِيمه وصفائه
والضوء خمر للنفوس ونشوة ... ودم الحياة يشام في أثنائه
والأرض كالحسناء قُدَّ قميصُها ... فبدت محاسن جسمها وَوَضَائِه فكأنما رفع الربيع حجابها ... فانجاب ستر الحسن عن حسنائه
والضوء كالحسناء بُزَّ رداؤها ... فأماط عنها العُرْيُ ستر غطائه
والقلب مثل الطير هِيضَ جناحه ... في نَزْوِهِ وحنينه وغنائه
والطير أفواه الرياض فشدوها ... أبداً يزجِّي الدَّهْرَ وَقْعُ حدائه
وكأَنما نغم الحفيف هواتف ... في القلب تدوي منه في أنحائه
والضوء من خَلَلِ كأَنه ... طير الفَرَاشِ نراه من شَجْرَائِه
وكأَنه والقلب يذكو شجوه ... شرر الغرام يطير من حوْباَئه
نَثَرَتْ ذُكاءُ على البسيطة عسجدا ... فاذخر ليوم الدجن كنز ثرائه
ولكل شيء منطق يشدو به ... والنفس تعرف كنه سحر غنائه
تتلو عليك الطير طِيْبَ ثماره ... وَأَرِيجَ روضته ورقة مائة
والحسن ظل السعادة في الورى ... إن السعادة لا تُرَى بِفِناَئِهِ
ظل الجِناَنِ على البسيطة واقع ... فاستقبل اللذاتِ من آلائه
فكأَنها كون حلمت بحسنه ... حتى نُقِلْتَ إلى ذرى خضرائه
وكأَنما زهر الخميلة إن بدا ... حُلُمُ الهوى في طيبه ووضائه
والطير أرواح الزهور وصيفها ... عهد الشاب يروق في لألائه
ضحك الزمان فذاع من ضحكاته ... صيف يعيد الحب في غلوائه
والقيظ يزفر بالهجير كأَنما ... يتنفس الولهان من بُرَحائه
فكأَنما مرح الحياة وحسنها ... لهب ترقرق في خَفيِّ دمائه
وكأَنما نغم الطيور أريجها ... يُسْقاَهُ زهر الروض في أندائه
فَيُحِيلُهُ نشرا يَضُوعُ ورونقا ... يشتار منه النحل أَرْىَ عطائه
ودت ذواتُ الحسنِ أن حُلِيَّهاَ ... كحُلِيِّهِ ورداءها كردائه
مَرَحُ الكعاب الرُّودِ في خطراتها ... كالنهر يرقص في ترقرق مائه
والريح تعبث بالغصون كأَنها ... طفل يعيث على رءوس إمائه
وترى جذور الدوح مثل أصابع ... بسط الشحيح يصون كنز ثرائه
وكأنما نغم البلابل مَطْرَةٌ ... فوق اللجين شجا مُرِنُّ إنائه تَنْدَى على القلب الجديبِ فينثني ... روضاً يرفُّ بزهره وأَضائِهِ
والزهر في وَضَح الصبيحة قد صحا ... صحو المفيق من الكرى وقضائه
وجلت ذُكاءُ ندى الزهور كأَنها ... أم الوليد تزيل فضل بكائه
حتى إذا أشتد الهجير حسبته ... نشوان أثمله اللظى بسقائه
وإذا الأَصيل علا السماء حسبته ... ذا لوعة حانت نوى قربائه
وحمى على قُبَلِ الظلام ثغوره ... كمعَشَّقٍ مُتَسَتِّرٍ بردائه
وتراه يرنو للنجوم كأَنها ... حُلُمٌ يُطِلُّ عليه في حَوْبائِهِ
كالطفل يُبْصرُ في الوذيلة وجهه ... فيخال ذاك الوجه من قرنائه
تحكى النجومُ الزُّهْرُ في دوراتها ... رقصَ المدِلِّ بعيشه وروائه
والنجم من خَلَلِ الغصون كأَنه ... ثمرٌ تَدَلَّى من علىِّ سمائه
والحي يحيا كالذي هو ناظر ... كالأُفْقِ يُرْسَمُ في متون نهائه
والزهر يحلم بالفرادس طرفه ... حلم الغريب بأهله وفناَئه
حسب الطيور تحاملت عن قلبه ... وبدت تبوح بشجوه ورجائه
والقلب مرآة الزمان فصيفه ... في صيفه وشتاؤه كشتائه
والكون مرآة الفؤاد فقبحه ... وجماله في نحسه ورخائه
والضوء خمر للربيع فلا تَعَفْ ... جُرَعاً تُنيلُ الخلد من صهبائه
هذى الطيور لسانه وغناؤها ... مستأنف من شدوه وغنائه
والزهر في حر الهواجر نائم ... سحرته باللحظات عين ذُكائِه
والأرض تحلم بالجِناَنِ فصيفها ... حُلُمٌ يزيح القلب عن ضَرَّائِه
بَسَطَ الجمالُ على الفضاء جناحه ... فالصيف من لألائه وروائه
فكأَنه مَلَكٌ يُحَلِّقُ فوقها ... فتصيب من آلائه وعطائه
يا ليت أن المرء في أرجائها ... مُتَفَرِّقٌ في أرضه وسمائه
حتى يصير من الجمال بمنزل ... في مائه ونسيمه وهوائه
وتظل تسمو النفس في آفاقه ... كالطير حَلَّقَ في أديم قضائه
عبد الرحمن شكري