مجلة الرسالة/العدد 248/رسالة الأديب إلى الحياة العربية
مجلة الرسالة/العدد 248/رسالة الأديب إلى الحياة العربية
للكاتبة النابغة الآنسة (مي)
(نبشر أصدقاء (مي) وعشاق أدبها بانكشاف الغمة عن صحتها وحريتها؛ فقد استطاعت أن تلقي هذه المحاضرة القيمة في 22 من شهر مارس في العروة الوثقى بالجامعة الأمريكية على حفل حاشد من أعيان الفضل والأدب فكانت أقطع الحجج على ما أرجف به المرجفون من أصحاب الهوى والطمع. وإنا ليسرنا أن ننقل إلى قراء الرسالة هذه المحاضرة عن جريدة المكشوف اللبنانية ليروا أن (مي) لا تزال على عهدهم بها تشع بالنور، وتنفح بالعطر، وتنبض بالحياة)
سلاماً يا وست هول، يا موطن الفكر والرأي والحياة المنظمة في كرامة وحرية! كم من مرة جلست بالخيال بين جدرانك أتبادل والجمع الحاشد قوة الحيوية، وآخذ قسطي مما يعج في فضائك من فائدة علمية واجتماعية! كم من مرة عدت بالذكرى إليك وأصغي بخشوع إلى رسالات الفضل والعلم والتهذيب يتلوها هنا العلماء والمفكرون والمصلحون!
سلاماً أيتها (العروة الوثقى)، الساهرة على وظيفتك في تنوير الأفهام، الحريصة على غايتك في أحكام الرابطة العلمية والأدبية بين أقطار الشرق العربي! كم من صيحة أرسلها أقطابك وأتباعك وأنصارك من على هذا المنبر المضياف، فمضت كالطير تسبح في القريب والبعيد من الأجواء حاملة رسالة العلم الصادق والبحث الرصين والخير العميم، فكونت في أوساط قضية مواطن للفكر والرأي والحياة المنظمة في كرامة وحرية!
ولئن أنا شكرت لك تشريفي بدعوتك واقتراح الموضوع، فإني كذلك شاكرة لأنك أفسحت لي مكاناً كريماً بين كرام ضيوفك، عاملة بيدك القوية الوفية على أحكام الرابطة بيني وبين قومي؛ وأشكر لكم أيها السادة والسيدات تفضلكم بالحضور.
إن اسم (العروة الوثقى) يلهم الفرد أنه ينقلب أمة عندما يخاطب الأمة
وما أجمله موعداً موعدنا الليلة! فنحن في مطلع الربيع، إذ باشرت الأرض إخراج زينتها وعرض مباهجها، ونشرت السماء كواكبها وشموسها وأقمارها وضاءة في رحيب الأفلاك، وسرت الحياة نامية في فتى الغصون، واهتزت الأرواح مترنحة لاستيعاب جديد النفحات. كذلك الشعوب العربية استيقضت من شتاء حالك الظلام طويل الأمد، وانبرت تستق الفصل الجديد من حياتها، متعهدة براعم الأمل والمجد في نهضتها، ساعية إلى ازدهار ثقافتها ازدهاراً عامراً بهيجاً
الربيع يزف إلى الأرض رسالته، ووست هول اليوم كما في الأمس وفي الغد، يؤدي إلى المجتمع رسالته، و (العروة الوثقى) تواصل العالم العربي برسالتها، فماذا ترى تكون رسالة الأديب إلى الحياة العربية؟
أيها السادة والسيدات:
إذا نحن تنحينا في بحثنا عن الرسالة المثلى، رسالة الأنبياء، وجدنا أن الرسالة في معناها الضيق هي الصفحة التي يكتب فيها الكلام المرسل؛ بيد أن معنى الرسالة أرحب من ذلك وأشمل، إذ لكل فرد، وكل كائن، وكل شئ، رسالته في معرض الوجود: فالشمس تؤدي رسالتها نوراً وحياة والزهرة تؤدي رسالتها عطراً ووسامة، والجبال والوهاد تؤدي رسالتها تبياناً لطبقات الأرض وتنوع الخليقة، والمروج والسهول تؤدي رسالتها خصباً وغذاء، والسبل تؤدي رسالة الحركة والانتقال، والانتقال يؤدي رسالة الأخذ والعطاء والتعاون المتبادل بين الأحياء
ولكل جمهرة من الناس في كل بقعة من بقاع الأرض شؤون عدة، إذا ما عولجت واستثمرت ونظمت وحسن التصرف فيها، أصبحت تلك الجمهرة شعباً فأمة، وصارت تلك البقعة بلداً فدولة، وفي كل بلد صناعة، وتجارة، وعمارة، وميكانيكا، وإدارة، وقوانين
ولكل أمة عادات وتقاليد وتاريخ وتربية وحكمة وثقافة وآداب وفنون. الشؤون المحسوسة، على تعددها وعلى ما بينها من فروق، متشابهة واحدة في كل قطر؛ وأخص خصائص الوحدة والتشابه نجده في التقدم العلمي والميكانيكي، وفي الحضارة الآلية السائدة في كل مكان
ترى ما هو الفرق بين مخاطب بالتلفون، ومخاطب بالتلفون؟ بين مستمع إلى إذاعة راديو، ومستمع إلى إذاعة راديو؟ وبين راكب دراجة أو سيارة أو طيارة، وراكب دراجة أو سيارة أو طيارة؟ ليس من فرق بينهما من حيث الخدمة التي تؤديها الآلة. أجل، ثمة فرق في الغرض الذي نستخدم له الآلة؛ وهذا ليس موضوع البحث؛ إنما الفرق كل الفرق في الشخصية التي تستعمل الآلة؛ والشخصية لا تتكون إلا من العوامل الأدبية: التاريخ، الاختبار، الذكرى، اللغة، الفن، الأدب.
الأدب إذن من أهم المقومات للشخصية؛ وربما كان الأصح أن أقول انه حجر الزاوية في تكوين الذاتية الفردية والذاتية القومية بالتبع. والفرق بين الشخصية والذاتية فيما أظن هو أن الشخصية تتكون مما يحيط بنا ويتقلب علينا من شؤون وأحوال، في حين أن الذاتية هي ما نظل عليه دائماً في صميمنا في جميع الشؤون وفي جميع الأحوال. فما أبعدنا بهذا التعريف عن التعريف الشائع أن الأدب هو المستظرف من الشعر والنثر، وأنه صناعة لفظية حذقت حيلة النكتة والتورية، واستسيغت منها البلاغة والحلاوة في وصف مجالس الانس، وتصوير جمال النساء، وشرح لواعج الحب والغرام. كل هذا من الأدب بلا ريب، وله أهميته، وهو ذو إغراء؛ ولكنه وجه فقط من الوجوه العديدة في الأدب. ولئن اقتصر كل من العلوم والمعارف على نفسه دون غيره تقريبا، فميزة الأدب في أنه يحتضن الكثير من المعارف والعلوم، وله أن يتغذى بها جميعاً ليعالجها على طريقته الخاصة، فلا يكون بعد إلا أدباً.
ولكم كانت المنتجات الأدبية والصور الخيالية سابقة للبحث العلمي ومعينته على الخروج من حيز القياس والافتراض إلى حيز التطبيق العملي والاختراع! أليس أن شاعرية الشعراء طارت إلى أجواز الفضاء قروناً طوالاً قبل اختراع الطيارات؟ وفيالق العشاق (والعشاق شعراء وأدباء دواماً)، ألم تناج أرواح الأحباب برغم شاسع الأبعاد قبل أن يصبح الراديو أداة من أدوات المنزل؟ ومن ذا الذي يقرأ ولو كتاباً واحداً من كتب الأديب الفرنسي جول فرن الذي وصف الانطلاق من الأرض إلى القمر وصفاً علمياً قبل أن يقوم علماء الستراتوسفير برحلاتهم الجوية، وحدث عن سلك أعماق البحار في سفن ذات أجهزة ميكانيكية دقيقة قبل أن تحتوي أساطيل الدول على غواصات ترقب ما يجري في قلب اليم وعلى صفحة الماء؟ من ذا الذي لا يذكر الكاتب الإنكليزي المعاصر ولز، ومؤلفاته ذات الصبغة العلمية المتنبئة بمستقبل حياة ميكانيكية صرفة تترتب عليها حياة اجتماعية متوافقة؟ لست من أشياع ولز، ولكني أشير إلى نظرياته شاهداً على رحاب الميدان للأدب
وإذا نحن عدنا إلى الكتب الدينية الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن، وجدناها متفقة على جعل الفردوس الأرضي في شرقنا الأدنى. فكان لنا أن نقول إن مجد الآداب كمجد النبوات وكمجد الحضارات اشرق من بلادنا، وكانت اللغات السامية أول أداة للإفصاح عنه.
التوراة مليئة باللهجة الأدبية. والتوراة كتبت أولا باللغة العبرية. والإنجيل ملئ باللهجة الأدبية؛ والسيد المسيح تكلم بالآرامية والسريانية والعبرية، قبل أن يكتب الإنجيل باليونانية واللاتينية لينقل بعدئذ إلى مختلف اللغات. والقرآن ملئ باللهجة الأدبية؛ والقرآن هو الكتاب العربي المبين والمستودع الخالد لهذه اللغة التي لا تموت مهما توالت عليها القرون وتناهبتها تصاريف الحدثان
ترون من كل هذا معشر الشرقيين عريقون في الأدب، وإن أدياننا عمدت إلى اللهجة الأدبية لتكون أسرع اتصالاً بالنفوس وأبرع استيلاء على المشاعر. ولئن أجمع نفر من علماء اللغات في الغرب على أن اللغات السامية حماسية، غنائية، بيانية، خطابية، أكثر منها اختصاصية علمية ميكانيكية، فنحن نعتز بذلك. لأن اللغة الأدبية هي لغة النفس، لغة الجوهر، لغة البقاء. واللغة المحتوية على الجوهر لا تضيق دون العرض والطارئ والإضافي. وليس لنا إلا أن نتابع الجهود التي باشرناها أفراداً وجماعات علمية - ناهجين نهج أسلافنا الذين نسخوا وترجموا ونحتوا واشتقوا وعربوا - لنجعل أداة اللغة كافية وافية في تأدية كل مستحدث من المعاني والمسميات والاختراعات العصرية. ولنا من اتساع اللغة ومرونتها ما يمكننا من صوغ المفردات وسبك القوالب على طريقة ترضي من الناحية الواحدة مولانا سيبويه، وترضي الواقع والذوق من الناحية الأخرى، فلا يكون اسم الراديو مثلاً: الطمطمان، ولا يكون التلفون: أرريزاً
ومعلوم أن الأدب كاللغة، حليف التقهقر والتطور في الشعوب التي تعالجه. وآدابنا في تاريخها الطويل أصدق شاهد على صحة هذه النظرية لأنها ازدهرت ثم لازمها الجمود وفقاً لارتفاع الدول العربية وهبوطها. وصدق تلك النظرية أظهر ما يكون في عصرنا الحاضر.
نظرة إلى البلدان العربية، فماذا نرى؟ بعد هجعة ثلاثة قرون أو تزيد استيقضت الشعوب العربية، وحركات اليقظة لا تكون منتظمة في بادئ الأمر، وإرادة المستيقظ لا تكون مستقرة ثابته، وبصيرته تظل وقتاً ما غائمة غير صافية ولا نافذة. المستيقظ يلبث حيناً حائراً بين خيالات الليل وحقائق النهار، ولكن كم في خيالات الليل من حقيقة، وكم في حقائق النهار من خيال شعوبنا على همتها وتحفزها ما زالت قلقة مضطربة، وأدبنا على وفرة جهوده وغزارة مادته ما فتئ مضعضعاً، غير واثق من نفسه، غير مستقر. فما هي حاجتنا اليوم من الناحية الأدبية؟
إذا كان الأدب صورة للشخصية العامة من خلال الشخصية الفردية الخاصة بحسناتها وسيئاتها، بحوافزها ومعلوماتها، بنورها وظلامها، بتقاليدها وأوهامها، بخوالجها وممكناتها، بيأسها ورجائها - إذا صح ذلك، وهو صحيح - فنحن نحتاج اليوم إلى صوت الأديب والى رسالة الأديب.
المعترضون يقولون: ولكن الأقطار العربية متعددة ولكل قطر حياته الخاصة ولهجته الخاصة. أفيكون إذن لكل قطر أدبه الخاص؟
كيف لا؟ وهل غير ذلك في الامكان؟ أو ليس هذا هو شأن سائر الآداب؟ أو تتكون الثروة الأدبية واسعة في اللغة الواحدة إلا بتعداد الآداب المحلية وتنوعها؟ أو ليس لكل من أمريكا، مثلا، وإنكلترا واسكوتلاندا وإيرلندا، أدب خاص مجموعها يكون آداب اللغة الإنكليزية عموماً؟ وفي كل هاتيك الأقطار الغربية لهجة محلية هي اللغة الإنكليزية، والشعب يتخاطب بلهجته وباللغة الإنكليزية، ويكتب بهذه اللغة وبتلك اللهجة على السواء. فعلام نحن نشكو مما يراه الآخرون شيئاً جد عادي؟ ومن المشاكل والمصالح والآلام والآمال ما هو مشترك بين جميع البلاد العربية. فرب زفرة حزن أو صيحة استبسال وجدت صداها متردداً في ملايين القلوب العربية ورب رسالة أدبية انطلقت من قطر واحد، فاجتاحت عديد الأقطار العربية المتناثرة من شواطئ الاطلانطيقي إلى خليج العجم أجل، نحن في حاجة إلى أقلام تخاطبنا باللغة العربية ببيان جميل يصور شخصية الأديب، ويشرح حالة الأمم، وينشر أمامنا صحيفة الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. فالماضي ينبثق انبثاق الينبوع فيخصب النفوس. وكما يكتنه الأديب ذخائر الماضي فكذلك هو يطلع على شؤون الحاضر، متصلا بكبار الحوادث التي تهز قومه في النقمة وفي النعمة، في السخط وفي الرضى، وإذ يرى الحوادث داخلة في دور الغليان، والشعوب فوارة صاخبة كالحمم في فوهة البركان، وإذ يشهد الظلم والعذاب والمرض والنفاق فيبحث عن الإنصاف والصحة والصدق والانشراح - عندئذ تتم في داخله عملية عجيبة، ولا العمليات الكيميائية. يخيل إليه أن موسيقى شائعة رائعة تنطلق من الأزمنة والحوادث والشعوب موحية إليه سر الفن الجميل فينقل إلينا منها ماينقل، جاعلا لكل شئ أهمية خاصة تهز منا المشاعر، وتستثير الحماسة، وتكيف الآراء. ومن معالجة الأديب للأزمنة والحوادث والشعوب ينبعث لنا الهزيج الفتان فيلفتنا إلى أن طبيعتنا رحاباً لم نكتشفها وإن في أرواحنا ممكنات توسع أمامنا أفق الحياة.
وإذ يحدثنا الأديب عن النظريات والمذاهب والشخصيات نتحزب مختارين لها أو عليها، فننكر نظرية ونؤيد نظرية، نمقت شخصية ونحب أخرى محاولين الاندماج فيها، ندحر مذهباً وننتصر لغيره تائقين إلى نشره في الملأ مع رفاق نوليهم الثقة. كذلك الأديب يجوز بنا بحر الحياة المكفهر كسفينة استغنت عن الشراع والقلوع وعن الرياح المؤاتية، لأن له من نفسه القوة التي تسوقه إلى الأمام. وليس من اختبار يمر به إلا تأثرت به كتاباته، فلا نفتأ نتطلع إلى كل ما يحدث له متسائلين عن سر قوته في المناعة، وعن سر قدرته في الإبداع، ذلك السر الدفين، ذلك الجوهر المكنون المعرض عن كل تأويل وتفسير، السباق إلى أجواء من التفكير والإحساس والتكوين، لا نأبه لوجودها إلا بعد أن يجول جولته فيها
وسرعان ما يتصل الحاضر بالمستقبل في فن الأديب: جيل جديد يتخرج على أثاره وعلى مؤثراته، فيشب حاملاً معه الفكرة التي تنيل الحياة قيمة في تذوق الجمال الحسي والأدبي، وفي ممارسة الجمال تأملاً وسعياً وجهاداً، رافعاً بيده مشعل الحب العتيد للوطن، وللرجاء وللتقدم، وللشهامة وللبطولة، ولإرضاء غريزة الحرية!
رسالة الأديب تعلمنا أن لكل قطر من الأقطار العربية حضارة غابرة حلت محلها الحضارة العربية ناسخة عنها وعن غيرها لتسبكها في قالبها وتدمغها بطابعها الخاص. رسالة الأديب تعلمنا أن الغرب الحاذق عرف كيف يقتبس عن حضارتنا يوم كانت حضارته وثقافته وشيكة. ولكن ما أغزر ما استفاد وما أخصب ما انتج، وما أبدع ما ابتكر! وأن الحضارة العربية كانت الصلة المتينة بين الغرب الجديد وحضارة اللاتين والأغارقة. وهاهو ذا الغرب يرد إلينا الآن دينه كشعاع من الشكر بما ينشره بيننا من ثقافة، فعلينا أن نأخذ عنه بمثل المهارة التي أخذ بها عنا!
رسالة الأديب تعلمنا أن الحضارة الميكانيكية أدوات نستعبدها ونستخدمها، لا أدوات تستخدمنا وتستعبدنا. وأنه لا يكفي أن يضغط أمرؤ على الزر الكهربائي فينال سحري النتائج، وأن يمتطي سيارة أو طيارة فيطوى شاسع الابعاد، وأن يرقص رقصة ويصغي إلى إذاعة ويتعمل التأنق والحذلقة متكلما بخليط من لغتين أو ثلاث - لا يكفي كل ذلك ليكون شخصية ممتازة ترهب هيبتها الأكوان
رسالة الأديب تعلمنا أن الحضارة الآلية التي ألفناها ولم يكن يحلم بها أجدادنا تجعلنا اليوم أشد احتياجاً منا في الماضي إلى ثقافة أدبية تدعم الحضارة الآلية وتكون لها ركناً ركيناً. وإن هذه الحضارة الآلية المنتقلة بسرعة من بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل، ننعم بها - ونشقى! - دون أن يكون لنا يد فيها. أما الثقافة الأدبية فيجب أن يحصلها كل فرد يوماً فيوماً، وساعة فساعة، مدى الحياة
رسالة الأديب تعلمنا أن للعالم العربي على تعدد أقطاره وحدة واحدة تشغل مكانا فسيحاً في القارتين الآسيوية والأفريقية. ويستطيع أن يقول هذا القول علماء الجغرافيا وعلماء التاريخ وغيرهم. ولكن للأديب فناً مغرياً ينيلنا الثقافة والفائدة، بينا نحن نرتع في بحبوحة من اللذة والمتعة في جو ممغنط أخاذ هو في الواقع جو الحياة
رسالة الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات بأنها ولدت قبل لغات قديمة اندثرت منذ قرون، وما زالت العربية تفيض حياة، مجارية حتى أحدث اللغات بالقوة والمرونة والجزالة والرشاقة. كل أمة تسعى الآن إلى نشر لغتها بين الأمم الأخرى، باذلة في سبيل ذلك المال والإغراء والدعاية والجهود. أما نحن فانتشار لغتنا شئ واقع، وميزتها هذه تربط بين الأقوام العربية برباط قوي جاعلة الفرد الواحد منا ملايين
رسالة الأديب تعلمنا كيف نخلق حضارة أدبية، إذ بها لا بغيرها تقاس مواهبنا، ويسبر غور طبيعتها، وهي التي تثبت وجودنا، وتنطلق بلساننا مترجمة عن مبلغ الإنسانية فينا
رسالة الأديب تعلمنا حب العزلة والسكون، وترجعنا عن الفخفخة وهوس الظهور، فنعتكف على أنفسنا نعالج ممكناتها للظفر بمحمود النتائج. فالسنبلة المتمايلة على صفحة المروج، حاملة بشائر الحياة، لا تولد حبتها ولا تنضج إلا في أحشاء الأرض، في جو الوحدة والهدوء والكتمان
رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. كل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث، وأعظم فوائد الإنسانية نجمت عن عصور العذاب والخطر. الخطر مرهف، ولا يعرف شأن ذي الشأن إلا يوم الكريهة. والعاصفة لا تقتلع إلا ضعيف الأغراس؛ أما الأشجار ذات الحيوية العصية فالأعاصير تلح عليها وتهزها هزاً عنيفاً فلا تزيدها إلا قوة ومناعة
رسالة الأديب تردنا عن عديد الشخصيات القومية التي تجذبنا من كل صوب لتركزنا في شخصياتنا القومية الأبية
رسالة الأديب تعلمنا كيف نفهم كل شئ ونستفيد من كل شئ، باحثين عن الصواب والكمال خلال كل نقص وكل زلل، نازعين إلى الجمال الحسي والأدبي حيال كل دمامة خَلقية وخُلقية مساجلين النفوس والعناصر، مناجين المنظور وغير المنظور، لنجعل من حياة متناثرة متداعية، حياةً متناسقة متماسكة
أي شئ لا تعلمنا رسالة الأديب؟
أنها قوة تستفز قوتنا، وموهبة تحفز مواهبنا، وصرامة تردنا عن الحقارة، وبسالة تدفعنا إلى البسالة، وعذوبة تؤاسي أحزاننا، وأغرودة تطرب أشجاننا؛ وهي عالم مستقل متماسك يسوقنا إلى تكوين عالمنا المتآلف المستقل!
نحتاج إلى الأديب يأخذ منا ويعطينا، فيرسل صوته أريباً رصيناً مسيطراً أخاذاً حضاناً!
ونحتاج إلى رسالة الأديب قويمة غنية عنيدة ملهمة لتوقف قوميتنا في مكانها المشروع في معرض القوميات بميدان العمران العظيم!
(مي)