مجلة الرسالة/العدد 248/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 248/التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الاحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 6 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من سيرة هذا العصامي العظيم
وما حيلة الطب في توازٍ توبق الروح، وهواجس تعمي القلب؛ وإن بدت آثار هذه وتلك في نواحي البدن عجز الطبيب، ولا عجب أن يعجز، وجاء الصديق ليفعل ما لم يستطيع الطبيب أن يفعل، وهو خبير بالعلة عليم بموضعها من نفس صاحبه
باع سبيد حانوته وعول على الرحيل إلى كنتوكي فعرض على صاحبه لنكولن أن يذهب معه إلى هناك عله يشفى مما به في تلك الاحراج التي درج منها أول ما درج. دعاه سبيد ان ينزع نفسه وجسمه من ذلك البلد الذي يكربه العيش فيه بعد أن كان منتجع آماله ومهوى خواطره، ورحل ابراهام مع صديقه وقد اخترم الهم جسده فزاده نحولاً على نحول، وزين له الشيطان أن يطلب النجاة من الحياة. . .!
ولبث في كنتوكي أياماً، لقي فيها من كرم صاحبه وكرم أمه وأخته ما هون عليه أمره شيئاً قليلاً، وصاحبه لا يفتأ يسري عنه وينصح له، وهو يشكو إليه اضطراب أعصابه ويظهره على هواجس نفسه، ويذكر له والألم يبرح به فعلته التي فعل وكان فيها غير كريم، بل وكان من الضالين. . . بيد أنه لم يلبث وقد كان يلتمس العون من صديقه أن رأى ذلك الصديق في حاجة إلى من يعينه، فقد طاف به على حين غفلة طائف من الحب ملك عليه قلبه وعقله!
وأنقلب الأمر فغدا لنكولن هو الناصح، فراح يجهد أن يهدي صاحبه حينما وسوست إليه نفسه معاني كتلك التي كانت تجول في خاطره هو: معاني الحيرة والتردد والشك. فلقد اصبح سبيد يحار في أمر حبه كما اصبح ينتابه الخور كلما اتجه فكره إلى الزواج شأنه في ذلك شأن ناصحه. وكان فيما يسديه ابراهام من نصح لصاحبه مسلاة له أو شاغل يشغ عن وجده؛ على انه وهو في كنتوكي كتب رسالة في الانتحار ترينا أن الغمة أو اليأس كان قد أوشك أن يذهب عنه. خذ لذلك مثلا قوله: (إني لم اصنع في الحياة شيئاً يذكر أي إنسان أني عشت. ومع هذا فأن ما أعيش من اجله هو أن اربط اسمي بحوادث يومي وجيلي، وأن أقرن ذلك الاسم بصنيع فيه لمن حولي من الناس جدوى)
ولما عاد إلى سبرنجفيلد ظلت كتبه مدة اكثر من عام تترى على صاحبه، وفيها من حسن النصيحة وقوة الإقناع ورقة العاطفة ما يكشف لنا عن حقيقة نفسه ويصور نزعات وجدانه. كان يعزو ما بات صاحبه يشكو منه إلى اعتلال أعصابه والى ما تحدثه الوحشة والبعد عن الخلان وأحاديثهم في مجالس لهوهم من انقباض وضيق، والى ما تركته الوراثة في طبعه من شدة التأثر وقوة الانفعال؛ وكان يكتب ذلك في جلاء وقوة حجة هما من أبرز صفاته. وكان عجباً أن نرى مثل ذلك من لنكولن، فترى فيه العالم النفساني، والشاعر الرقيق العاطفة، وهو الذي علم نفسه بنفسه. . .!
وتزوج سبيد بعد ذلك وبقى لنكولن حيث هو، موقفه من ماري عين موقفه عقب ذلك الفرار الشائن؛ فعاد إليه بذلك ما شغلته قصة صاحبه زمناً من هموم نفسه! واصبح فإذا ضائق بوساوسه. وزاده تبرما بحاله وإنكاراً لشأنه ما كان يسمعه من صاحبه عن سعادته الجديدة بين يدي زوجه. . . لذلك لم يكن عجيباً أن يلتمس السكينة من جديد عند فتاه ناهد كان قد عرفها قبل أن يعرف ماري. بيد أنه كان يتجه بينه وبين نفسه إلى ماري، فهو لا يستطيع أن يبتعد بخياله عنها. قال في كتاب من كتبه: (يخيل إلي أنه ينبغي أن أكون جد سعيد لولا تلك الفكرة الملازمة لي، ألا وهي أن هناك شخصاً غير سعيد عملت أنا على أن يكون كذلك. أن تلك الفكرة ما تزال تريق روحي؛ ولا معدي لي عن أن ألوم نفسي حتى على مجرد الأمل في السعادة في حين أنها على ما هي عليه)
وكان لنكولن يحدث نفسه أنها لا تزال على الرغم مما حدث بحيث يتأنى لهما أن يتصلا أنهما أرادا ذلك. وكانت هي من جانبها تحس أن ما كان منه من هجران وقطيعة قبيل ما استعدا له من زفاف قبل ذلك بعام ونصف عام لم يصل على شناعته إلى مثل الصدمة القاضية. . .
ودبر رجل من صحابتهما وزوجه أن يدعواهما إلى مأدبة على جهل كل منهما بدعوة الآخر. وتم ذلك فالتقيا وتضاحكوا جميعاً بعد أن ذهبت عن ابراهام وصاحبته ربكة المفاجأة. وكان ذلك اللقاء والخطوة الأولى نحو التئام الصدع واجتماع الشمل؛ إذ اصبح لنكولن يرى حقاً عليه أن يصلح ما افسد وأن يضع حداً لما هو فيه من ضيق وشقاء
وحدث بعد ذلك أمر غريب في ذاته، على قدر غير قليل من الأهمية من حيث نتيجته: ذلك أن إبراهام، وهو الرجل الذي ملك القلوب بدماثته ورقة حاشيته، قد دخل غير متردد ولا هياب في مبارزة تدور على السيف! وكان لتلك المبارزة سبب يدهش له الإنسان أن كان مبعثه شخص مثل لنكولن! فلقد نشر ابراهام في إحدى الصحف كتاباً على لسان أرملة وجهته إلى أحد رجال السياسة تسفه فيه آراءه التي أذاعها، وكان التهكم لاذعاً والنقد قاطعاً، فأثار الكتاب فضول الناس كما أثار ضحكهم وإعجابهم؛ ووردت على الصحيفة ردود قوامها المجانة والمعابثة وكلها غفلاء من أسماء أصحابها. . . وكان لماري في هذه الردود نصيب. وثارت ثائرة ذلك السياسي وراح في المدينة يتهدد ويتوعد! وجاء صاحب الصحيفة فعنفه وتهدده بالانتقام إلا أن يعرف صاحب هذه المجانة. وعرض صاحب الصحيفة الأمر على لنكولن فقال له في غير وناء ولا استخذاء: إنه يأخذ الأمر على عاتقه، وإنه لذلك في حل من أن يذيع أسمه. وتم ذلك فكانت المبارزة. . . فلقد تحداه ذلك الساسي أن ينازله، وشاع أمر ذلك في الناس فاحتشدوا ليشهدوا ما يكون بينهما. . .
وكان لإبراهام من طوله وفتوته وقوة ساعديه ما يضمن له الفوز على منازله القصير؛ فتناول سيفاً طويلاً ولم يزد - والناس يتطلعون - على أن ضرب به غصناً فوق رأسه فألقى به بعيداً. ثم جلس وفي عينيه أنه يريد أن يلقي إليهم حديثاً وراح يحكي ويستجمع الأمثال. . .! وتداخل الناس وسووا ما كان بين المتخاصمين، وأنقلب الجد الصارم إلى فكاهة عابثة
بيد أن للحادث نصيبه من الأهمية؛ فلقد ترك في حياة لنكولن صفحة ظل يندى لها جبينه أبداً، كما حق لماري أن تتحدث
إلى الناس أن إبراهام ما فعل هذا إلا دفعاً عنها وحفاظاً أن ينالها شيء من غضب ذلك السياسي. وطاب إبراهام بذلك نفساً. وقربت الأيام بينهما حتى باتا من جديد يأخذان الأهبة للزواج. وما هي إلا أيام حتى ربطهما ذلك الرباط المقدس وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين واستنشى ابراهام نسيم الراحة أن أخذت تتزايل هواجسه ويتضاءل هوانه على نفسه، وأخذت تعود إليه ثقته بتلك النفس سيرتها الأولى، وأن كان الذين شهدوا العروسين حين عُقدَ قرانهما رأوا لنكولن وعلى وجه سحابة من الكآبة والوجوم كانت تتقشع حيناً على ما يتكلف من بشاشة ثم تعود فتنعقد!
وأقام لنكولن أول الأمر وعروسه الطموح المستعظمة في حجرتين صغيرتين في نزل كانا يدفعان أجراً لهما أربع دولارات كل أسبوع. وعظم ذلك على ماري فشكت إلى زوجها ولم يمض على زواجهما غير قليل، وهو يلقي إليها المعاذير مشيراً إلى ضيق رزقه والى ما لا يزال يقتضيه الوفاء من ديونه. . . وبسط الله له رزقه بعض البسط، فأنتقل الزوجان إلى بيت صغير استطاعا أن يدفعا في غير عسر أجر إقامتهما فيه
وأخذت ماري في بيتها الجديد تدبر شؤونه وترعى امره، وقد اتخذت لنفسها سلطة ربة البيت لا تتنازل عنها فيما عظم أو هان من الأمور، حتى لقد كانت تأخذ زوجها بألوان من الشدة والعنف حينما كانت تدعوه إلى كيت وتصرفه عن كيت، ورائدها في ذلك النظام كأدق ما يكون النظام. وكان يصل بها الغضب أحياناً إلى هياج شديد، وذلك حين كانت ترى من بعلها أن يأبى إلا أن يرسل نفسه عن سجيتها، فكثيراً ما لا يعبأ بما صالح الناس عليه أذواقهم من أوضاع وتقاليد يلزمونها وهم جلوس إلى مائدة الطعام، أو وهم سامرون في الثوى. وهل كان يستطيع ابن الاحراج أن يتكلف ما لم يجر في طبعه؟ ولكن امرأته لا تفتأ توجهه إلى العناية بهندامه وتحثه على النظام وانه ذلك خليق به وله في الناس مكانته؛ وهي تريده على أن يحمل الأمر على الجد وهو يجاريها ليخفف من حدتها ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يغير من طبعه. وكان إذا اشتد بها الغضب يلاطفها ويضاحكها ليصرف عنها غيظها، فإن عجز عن ذلك خرج من المنزل فمشى ساعة أو بعض ساعة. . . وحق لزوجه أحياناً أن تغضب منه؛ فهو سخي اليد وأن كانت به خصاصة، وهي لا تريد أن تبسط يدها إلا بقدر ما تستطيع. وهو يلقي الناس في البيت في هيئة تنم على عدم المبالاة، فثيابه متهدلة وشعره أشعث، وعباراته ساذجة، وهو يستلقي على ظهره أحياناً ويتمدد على الأرض وفي يده كتاب لا يصرف وجه عنه؛ ويتدخل أحياناً فيما ليس من أمره فيحلب البقر في الحديقة، ويحمل اللبن في وعائه بين يديه ويهرول به إلى الدار على أعين السابلة والجيران!
ولكن زوجه على الرغم من ذلك تحبه وتكبره، وتنتظر ما يخبئه له الغد من جاه وسلطان كأنها تعلم الغيب أو كأنها ترى ما لا يراه الناس. وكتب لنكولن إلى صديقه سبيد ينبئه أنه رضي النفس قرير العين، ويعتذر له من عدم زيارته إياه بفقره وشواغله، ثم يبشره أن قد صار لهما غلام. . .
ذلك ما كان من أمر لنكولن فيما هو متصل بحياته الشخصية؛ بيد أن زواجه من تلك المرأة كان حادثاً عظيم الأهمية في حياته؛ فلقد مر بك من صفاتها أنها امرأة ذات طمع وطموح. وأنها كانت ترى بما يشبه اللقانة الطريق المؤدية إلى عليا المراتب، وما كانت تقنع بما هو دون مرتبة الرياسة! لذلك كانت خير معين حين تقدمت خطواته في ميدان السياسة. وكثيراً ما كانت ترده إلى الطريق السوي إن هو أوشك أن يتنكبها. ويتجلى ذلك في عدة مواقف سيأتي حديثها بعد حين. . . نرجع بالحديث بعد ذلك إلى حياته العامة في السياسة والمحاماة. أما في السياسة فقد ظل ينتخب نائباً عن سنجمون، كلما تجدد الانتخاب، حتى لقد ظفر بثقة الناس أربع مرات متوالية. وأما في المحاماة فقد تركه شريكه ستيوارت إلى وشنطن حيث اتخذ مقعده في المجلس العام للولايات؛ فعمل مع شريك آخر قبل زواجه من ماري بثلاث سنوات؛ وكان هذا الشريك يدعى لوجان، وكان لوجان من أكبر المحامين شهرة في المدينة، وكان له من صفات النظام والدقة والإلمام بأوضاع المهنة ومطالبها ما كان يعوز صاحبه لنكولن. وكانت له في العمل الرياسة. ورضى لنكولن بمكانه منه ولم يجد في ذلك غضاضة إذ لم يكن منه بد؛ وأخذ يتعلم عنه ويكتسب بمصاحبته المرانة والخبرة؛ وهو قانع بنصيبه من الأجر، وأن كان يرى من زميله أنه لا يعدل في ذلك وأن كان لا يميل كل الميل. ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرارهما معاً لولا أن فرقت بينهما ريح السياسة إذ كان كل منهما ينتمي إلى حزب يخالف الحزب الآخر. . .
ولما قضي الأمر بينه وبين لوجان، دخل له زميلاً آخر. وكان هذا الزميل شاباً دونه في العمر بعشرة أعوام اسمه هرندن. وكان هرندن هذا من أشد الناس إعجاباً بأبراهام ومن أعظمهم محبة له وإكباراً، فتوثقت عرى الصداقة. وكانت لإبراهام الرياسة هذه المرة، وعظمت ثقة كل من الرجلين بصاحبه. وكان أصغرهما موفور الحظ من النشاط والذكاء، كما كان كزميله في مذهبه السياسي ومن الداعين إلى القضاء على العبيد. . .
وعرف ابراهام في المحاماة بما لم يعرف به أحد قبله في المدينة؛ فهو بسيط في كل شئ، يجعل الأمر أمر ذمة وإخلاص قبل أن يكون أمر قانون ومغالبة؛ وينظر في تنازع الناس نظرات يوحي بها قلبه قبل أن يرسمها عقله. يرد كل شئ إلى طبيعته إذ كان يقيس الأمور بما كان يدور في نفسه، ولا يتردد أن يفصل بين المتنازعين بما لو فكر فيه غيره لعده من ضروب الخيال والوهن. . . ولكن لنكولن كان له من إنسانيته خير سند، ومن حسن طويته خيرها
جاءه ذات مرة رجل يطلب إليه أن يدافع عنه ليرد له مبلغاً من المال عند خصم له؛ فلما سمع لنكولن قضيته قال: (أني أستطيع أن اربح قضيتك وأعيد إليك تلك الدولارات الستمائة، ولكني أن فعلت ذلك جلبت الشقاء إلى أسرة أمينة، ولن أستطيع أن أتبين سبيلي إلى ذلك. لذلك أحس فيّ الميل إلى أن أنصرف عن قضيتك وأجرك. على أني أبثك نصيحة لا أسألك عليها أجراً: اذهب إلى بيتك ففكر في طريقة نزيهة تكسب بها ستمائة دولار). . . بذلك وبأمثاله اتخذ ايب الأمين سبيله إلى قلوب الناس، فما منهم إلا مكبره ومحبه. وكان الناس يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم، وكلا الخصمين يعلن أنه راض بما يقول سلفاً؛ وسرعان ما كان يحسم النزاع بينهم كأنهم منه حيال قاض لا محام! وهو لا يسألهم أجراً على ذلك، وحسبه من الأجر منزلته في قلوبهم. . .
وكان يرفع الكلفة بينه وبين الناس كأنه أحدهم مهما كانت درجتهم؛ وكذلك كان يفعل مع صاحبه هريدن، فهو لا يستحي أن يسأله ويستفهمه أن أشكل عليه أمر أو التوت عليه فكرة كأنه تابعه! فإذا ساق إليه الله رزقاً عده وقسمه نصفين ونادى صاحبه: (هذا نصفك)؛ كل ذلك دون أن يكتب شيئاً أو يطلب من صاحبه كتابة، فما كانت بهما حاجة إلى ذلك وكلاهما يبذل من الإخلاص والود بقدر ما يبذل صديقه
وكان صديقه يراه الناس في المحكمة يدس أوراقه في جيبه حتى لينبعج وينتفخ، ويرونه يدسها في قبعته كأنه يجعل منها قبعة وحقيبة. كان لا يعني في شيء بمظهر وإن حرص كل الحرص في كل شيء على الجوهر. . . وكان في عمله كما كان في منزله، يأبى إلا أن يرسل النفس على سجيتها؛ وسيظل كذلك حتى تتحقق له كبرى الرياسات. . ولله ما كان اعظم تلك البساطة منه في كل شيء! وهل ثمة بين المتكلف المتصنع وبين الصعلوك من كبير فرق؟ إن أمرهما واحد فيما أرى وإن بلغ من تمويه أولهما ما يكفي لأن يحجب عن الأعين حقيقته. . .
(يتبع)
الخفيف