مجلة الرسالة/العدد 246/عقبة بن نافع
مجلة الرسالة/العدد 246/عقبة بن نافع
فاتح أفريقية وقاهر الروم والبربر
للأستاذ محمود الخفيف
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النصر إن فاته النصر
وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
وقد كان فوت الموت سهلا فرده ... إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
لئن كان ابن الوليد بجهاده في الله قد سمي قاهر القياصرة، ولئن كان سعد بما رابط وصابر في أرض الفرس يوم التقى الجمعان قد استحق لقب مذل الأكاسرة، فإن البطل المجاهد عقبة ابن نافع الفهري قد كسب لنفسه تحت راية الإسلام مرتبة لن تنزل به فيما أرى عن مرتبة ذينك البطلين. فهو فاتح أفريقية، أمير المغرب، قاهر البيزنطيين والبربر
حارب خالد قوماً هدهم الغرور والترف، كانوا قبل لقاء المسلمين بأسهم بينهم شديد؛ فلم يكونوا حين ساقوا جموعهم يدافعون عن عقيدة أو يذودون عن مبدأ، بل لقد كانوا يقفون في وجه عقيدة منبعثة من الصحراء، الموت في سبيلها أحب إلى أصحابها من الحياة. وكان المسلمون تحت راية خالد وأبي عبيدة يقتلون ويُقتلون وقد باعوا أنفسهم وأموالهم من الله بأن لهم الجنة؛ كلمتهم كلمة أميرهم، ووجهتهم وجهة خليفة رسول الله فيهم، فلا تنازع بينهم ولا تنابذ ولا إحن ولا انقسام. . .
وكذلك كان المسلمون في القادسية كالبنيان المرصوص، لم يعرف الخلف سبيلاً إلى صفوفهم، ولا وجد الوهن طريقاً إلى قلوبهم، يسقطون عشرات ومئين ولا تسقط الراية؛ ويشترون الآخرة بالأولى في إيمان ويقين، وغاية المجاهد منهم أن يغلب أو يدفع عن نفسه الهزيمة بالموت!
أما عقبة فقد جاء دوره بعد أحقاد وأحداث فرّقت كلمة المسلمين وجعلتهم شيعاً وكادت تأتي على بنيانهم من القواعد. جاء دور عقبة في الجهاد بعدما كان في الإسلام من قتل عثمان، وبعدما كان من أمر الجمل والصفين. جاء دوره بعد أن عرف الإسلام الخوارج وغيرهم من الأحزاب، وبعد أن عرف المسلمون طريقة أخرى في الغنائم والأسلاب. . .
وكان عقبة يحارب الروم والبربر؛ وكان البربر أولي بأس وعناد. جبلوا الحرية فلا يكادو يعرفون ما الخضوع، طبيعة نفوسهم كطبيعة بلادهم، فيها مناعة الجبال ووعورة الجبال، وفيها صرامة البيد وبساطة البيد؛ فهم لذلك في القوة كالعرب المهاجمين يطرحون نفوسهم تحت المنايا ولا يطرحونها تحت أقدام الفاتحين
وكانت البلاد التي اثخن فيها بخيله ورجله مترامية الأطراف مجدبة المطارح إلا واحة هنا أو غيضة هناك، وبقاعاً خضراء قليلة على شواطئ البحر حول مجاري السيول والأنهار. وكانت تلك البلاد لامتداد رقعتها وبعد ما بين أولها وآخرها أقساماً لكل منها اسم يميزه! فهذا هو أفريقية، ثم هذا هو المغرب الأدنى، ثم هناك من ورائه المغرب الأقصى. . . لذلك كان عقبة وجيشه يحاربون في هذه الفيافي المترامية عدوين: البربر الغلاظ، والطبيعة القاسية!
ولد عقبة بن نافع الفهري في عهد الرسول ولم تعرف له على الأرجح صحبة، فكان لذلك من التابعين. وكان عقبة - كما سيتجلى لنا من أعماله - يمثل الخلق العربي أحسن تمثيل. كان شجاعاً مقداماً بعيد الهمة، صليب العزيمة، صريم الخلق، شديد الإيمان لا يهاب قلبه الكبير الموت في أبشع صوره. وكان في إقدامه سريعاً ولكنه كان وثيق الخطو تذكرنا وثباته وثبات خالد حين كان يقطع البيد والمفاوز، وحين ذهب فحج ثم كان بعد قليل في ساقة الجيش
بعد أن تم للعرب إعلان كلمة الله في مصر واتجهوا نحو الغرب جاءوا برقة فأذعنت لهم بعد جهاد؛ وصالحهم أهل تلك البلاد على الجزية ودانوا لهم بالطاعة، ولكن الروم حين انحسر العرب عن برقة عادوا يبنون سلطانهم هناك من جديد، وقد أذاقوا البربر صنوفاً من العذاب فلم يستمعوا لهم إلى مظلمة أو يبالوا بما عسى أن تكون عاقبة أمرهم
وكان العرب فيما هم فيه يومئذ، بعد مقتل عثمان من بغضاء وتنازع؛ ومازالوا في شقاقهم حتى تم الأمر لمعاوية فوجههم من جديد وجهتهم الأولى ضد أعدائهم
ولقد كان لعقبة في فتح البلاد أول الأمر من مصر إلى برقة جهاد، وكانت له خطوات بارعة، ولكن أفعاله كانت لحقاً في ذلك الفتح إذ لم تكن له القيادة يومئذ. ولقد بقي عقبة فيمن بقي من العرب في حامية زويلا حتى كانت سنة خمسين للهجرة فأمده معاوية بعشرة آلاف ليغزو بهم أفريقيا!
أصبحت القيادة لعقبة، وذلك ما طال انتظاره إياه، وأحس هؤلاء الآلاف العشرة روحاً قوية تغمرهم وتشحذ عزائمهم تحت لوائه، حتى كأن الواحد منهم بألف، فما منهم إلا محب للجهاد، مستهين بالأهوال، مرحب بالموت كقائده. وزحف بهم عقبة فما شهد الروم ولا البربر زحفاً أشد هولاً من هذا الزحف. لم تغن عنهم كثرتهم، ولم تغن عنهم عدتهم، وكانت أقواتهم في بلادهم موفورة لهم؛ ولا أقوات لهؤلاء العرب المستبسلين إلا ما يستلبون منهم من غنائم
وكانت الحرب طاحنة، وكان الجهاد مريراً، فالبربر أهل جلاد ومصابرة، وهم خبيرون ببلادهم عليمون بمسالكها؛ فكانوا إذا اشتدت عليهم وطأة محاربيهم اعتصموا بالبيد فضربوا في أرجائها، وبالكثبان فكمنوا من ورائها، حتى إذا زحف العرب وقد أخذ منهم الجهد بعد أن لم ينل منهم الخوف، وقد انطوت على السغب أحشاؤهم الضاوية، وتقرحت من الحر أكبادهم الصادية، برزوا لهم كأنما يخرجون من الأرض، ولكن ليتركوا من سلاحهم وزادهم بعد القتال شيئاً غير قليل في أيدي أعدائهم
وكان عقبة يقسو في قتال هؤلاء القوم لما خبر من طباعهم، ولما عرف من غدرهم ومكرهم، فهم إذا غلبوا على أمرهم يضعون السلاح ولكنهم لا يضعون الانتقام، فإذا واتتهم الفرصة نسوا كل عهد واستخفوا بكل ميثاق. وكانت سيوف العرب ونبالهم تفعل فعلها القوي في هؤلاء القوم كما كانت تفعل فيهم عزيمة العرب ومضاء العرب. وظل الحال كذلك وعقبة يرسل عليهم من جنده ذات اليمين وذات الشمال حتى تم له الأمر، على بعد الشقة وترامي البيد وصرامة القتال؛ فلما أشرف على موضع كان غير بعيد من موضع قرطاجنة القديمة ابتنى للعرب قاعدة جديدة
ابتنى عقبة القيروان ليقيم فيها المسلمون إذ لم يحب لهم أن يقيموا بين هؤلاء البربر. وكان موضعها بعيداً عن البحر حتى لا تطرقها مراكب الروم، وهي في البر بحيث تتوسط البلاد وتكون معقلا لصد البربر. وكان الموضع الذي اختاره أجمة عظيمة تسكنها السباع والحيات والأراقم؛ ولعل هذه الخلائق روعت، وقد أحاط جيش عقبة بالمكان، فنفرت أسراباً تحمل صغارها هاربة إلى الصحراء، وكان عقبة قد دعا الله أن ترحل؛ وأسلم من البربر كثير ممن شاهدوا هذا الرحيل؛ وهل يكونون من الوحوش والأفاعي أشد قسوة؟ واختطت المدينة وشيد بها عقبة داراً للأمارة، وبنى مسجداً، وبنى الناس بيوتاً لهم؛ واستقامت المدينة سنة خمس وخمسين وصارت تجاوب مآذنها مآذن الكوفة ودمشق والفسطاط، كلما أذن المؤذنون ورفعوا أصواتهم يذكرون اسم الله. . .
وهل كان لعقبة أن يقنع بما وصل إليه من فتوح وقد ضاقت البيد عن همته؟ لقد عول على مواصلة الزحف ليحمل كلمة الله، ويعلن اسم الله في مواطن جديدة؛ ولكن معاوية يجعل أمر مصر وأفريقية لمسلمة بن مخلد؛ ويستعمل مسلمة على أفريقية مولى له أبو المهاجر؛ ويقبل أبو المهاجر فلا يرعى لعقبة مقاماً فيوثقه ويسيء إليه كأن بينهما ترات! ولكن الليث في الحديد لن تنخلع عنه طبيعته، فما يزال عقبة صبوراً لا يعرف استخذاء ولا مسكنة. ويطلقه أبو المهاجر ليرحل عن تلك البلاد، فيرحل عقبة وفي نفسه حنق أي حنق، وقد تعاظمه الأمر وهو الفاتح القاهر؛ ولكن الأرض لله يورثها من يشاء، والأيام دول بين الناس. رحل عقبة برغمه وقطع بلاداً دانت من قبل لسيفه حتى جاء دمشق فعاتب معاوية عتاباً شديداً على ما كان من أمره بعد ما أبلى في الله من بلاء؛ وأراد معاوية أن يخفف عنه بعض ما به فوعده أن يرسله بعد حين إلى القيروان من جديد
وإنا لنحار فيما صنع معاوية! هل كان يخشى قوة عقبة ويشفق أن يعظم ويعظم حتى يخرج عن سلطانه؟ أم كانت تلك هي فعلة مسلمة جازت على معاوية دون أن يتدبر لها؟ الحق أنا لفي حيرة مما صنع. . .
وكانت لأبي المهاجر سياسة في أفريقية غير سياسة عقبة؛ جعل السياسة والملاينة في موضع السيف، واتصل بكبراء البربر وخفض لهم جناحه وصانعهم في أكثر الأمور. وكان يسفه آراء عقبة عندهم كما كان يسفهها عند المسلمين، وكان لا يقر له بفضل أو يترك أحداً من شيعته دون أن يلحق به أذى حتى عظم ذلك على الناس. ولكن البربر أحبوا سياسته وصانعوه مثلما صانعهم. وكان كبيرهم في ذلك رجل اعتنق الإسلام من قبل يقال له كسيلة؛ وكان كسيلة هذا به كبرة مبعثها الفظاظة والغلطة، وكان بطبعه أنوفا عيوفا لا يطيق أن يغلب على أمره.
وراح أبو المهاجر يمد الفتوح إلى المغرب وقد انحاز إليه البربر، فحارب الروم في قرطاجة ولكنه لم يقو عليهم؛ على أنه مد سلطان المسلمين قليلا إلى الغرب، ولبث في تلك البلاد بضع سنين أقرب إلى الدعة منها إلى الجهاد، وقد فترت في المسلمين حميتهم إلا قليلا؛ وكانوا يذكرون أيام عقبة وإقدام عقبة فتنطوي على الهم قلوبهم. وهم لا يعلمون ما تأتي به الأيام. . .
ولكن الدهر صروفه وتقلباته، فقد مات معاوية وصارت الخلافة لابنه يزيد. وفي سنة ثنتين وستين للهجرة أعيد عقبة إلى أفريقية. وجاء يسعى إليها يطوي البلاد طيا، وفي قلبه من الحماسة للجهاد مثل ما فيه من الكيد لأبي المهاجر. وهل كان يستطيع عقبة أن ينسى ما كان من أبي المهاجر، وقد كان يحز في نفسه ما صنعه به منذ أخرج من أفريقية؟ أوثقه اليوم عقبة كما أوثقه هو من قبل، وشد عقبة وثاقه، وبالغ في الكيد له فكان يحمله في غزواته مقرناً في الأصفاد!
وفرح المسلمون للقاء قائدهم، وانبعثت في قلوبهم الحمية، واجتمعوا تحت لوائه يبدءون الزحف من جديد؛ وعاد للقيروان عزها ومنعتها؛ وألقى الرعب في قلوب البربر والروم وهم كما علموا لا قبل لهم بعقبة؛ وكان عقبة يضمر الحقد لكل من كانت له صلة بأبي المهاجر، وفي طليعة هؤلاء كسيلة رأس البربر
رفع اللواء واستؤنف الزحف، وحلا الجهاد للصابرين. أنظر إلى عقبة يستخلف بالقيروان زهير بن قيس البلوي ويحضر أولاده فيقول: (إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله) ثم يوصي بما يفعل بعده ويتقدم على رأس جيشه يخوضها حروباً مستعرة متوالية. . .
الشقة بعيدة، والعدد متكاثر له في الشعاب والقلل مخابئ. رفقاً يا عقبة بالبواسل القليلين! ولكنهم على قلتهم كالسيل على قلتهم كالسيل الأتي لا يصرفهم عن وجهتهم شيء، ولا تقف من دونهم عقبة. هاهم أولاء يقربون من مدينة باغاية وفيها من الروم حشد عظيم، والبربر من ورائهم يعركونهم ويتربصون بهم الدوائر؛ ولكن العزم المصمم لا يعرف الحوائل. لقد التقى الجمعان واشتد القتال وزلزل الروم زلزالاً شديداً؛ وكثرت مغانم المسلمين وكثر عدد صرعاهم، واعتصم الروم بالمدينة فحاصرها عقبة ثم كره المقام عليها فاستأنف الزحف
رفقاً بالبواسل القليلين! بعدت الشقة وقلت القلة! ولكن عقبة لا يعرف النكوص ولا يخاف الموت وقد باع نفسه من الله؛ ميدانه بعد باغاية بلاد الزاب، وهي بلاد واسعة بها مدن وقرى. سار عقبة وجيشه حتى جاءوا مدينة أربة قصبة تلك الديار، فوقف له الروم وظاهرهم عليه البربر واعتصموا بالجبال، ثم التحموا بالعرب في عدة معارك آثروا بعدها الفرار من الموت، تاركين الكثير من أسلحتهم وخيلهم. . .
إلى أين يا عقبة بعدها بالكرام الصابرين؟ إلى تاهوت، ويا للهول ما كان في تاهوت! تكاثر العدد واستقتل البربر، ولكن العرب صابرون؛ أحدق الخطر بالبواسل الأنجاد، ولكن لهم في عقبة وبلاء عقبة الحصن القوي والمعتصم الأمين. وما هي إلا غمرة ما لبثت أن انجلت على وميض السيوف والتماع الأسنة، وعاد النصر إلى صفوف المجاهدين المستبسلين
والقائد الظافر بعد هذا النصر يطفر من الحماسة والجيش من ورائه يهبط الوهاد ويركب النجاد، وقد عظم بعد ما بينه وبين القيروان؛ ولكن ماله وللقيروان الآن وقد أصبحت البلاد كلها له، وعرف الإسلام سبيله إلى قلوب المهتدين من أهلها؟ سار الجيش حتى نزل على طنجة، فأحسن يوليان بطريق الروم لقاء عقبة وقدم له الهدايا واستفهمه عقبة عن الأندلس، ولكن أين السفين ليحمل الفاتحين. . .؟
وماذا بعد طنجة للغرباء الظافرين؟ نزل بهم عقبة - أو نزل اسكندر العرب كما يسميه جيبون - على بلاد السوس الأدنى ومعظم أهلها من البربر ولهم بأس شديد، إذ لم يكن لهم كغيرهم في البلاد الأخرى كبير صلة بالروم؛ وكانوا كفاراً لم يعتنقوا النصرانية؛ فما زال بهم المسلمون حتى دانوا لهم، وآمن منهم من آمن بالكتاب وهرب من نجا من السيف إلى الجبال والمهامه، ثم إلى بلاد السوس الأقصى، وهي بلاد ذات خصب يكثر عدد ساكنيها من البربر. وأين المفر من عقبة وجيش عقبة، وهل ثمة ما يمنعه أن يغزو السوس الأقصى؟
احتشدت له البربر هناك في أقصى الأرض جموعاً هائلة، وقاتلوه قتالاً شديداً تجلى فيه بأسهم وشجاعتهم، ولكن عقبة لم يزل بهم حتى فرق جموعهم وأذهب ريحهم، وأرسل الخيل من ورائهم تطاردهم في الجبال والصحراوات وقد كثر ما غنمه منهم، وأخذ يعلن فيهم دين الله. وتقدم بعد ذلك فإذا الخضم الفسيح يمتد أمام بصره! أنظر إليه وقد وقف على شاطئ المحيط برهة ثم غمز جواده فنزل به في الماء حتى جاوز الماء صدره، وشهر سيفه ورفع إلى السماء بصره، ثم استمع إليه يقول: (يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك) لولا البحر لمضى عقبة الفاتح مجاهداً في سبيل الله، وهل كانت به حاجة إلى هذا القول وله من غزواته ما هو أبلغ من كل كلام؟ إنها لعمري قصيدة رائعة لا يزال الدهر يرويها ولا تزال في سجل البطولة رائعة المقاطع رنانة القافية! وماذا أبلغ من تلك القلة تصل ما بين المشرق والمغرب، وتقاتل البربر والروم في بلاد مجهولة المسالك بعد ما بين قاصيها ودانيها؟ وأي بلاد هي بل وأي قوم! لم يلق المسلمون في أي موطن في مشرق الأرض مثل ما لاقوا هنا من عرك وبلاء؛ بل لم يلق غير المسلمين من الغزاة قبل بلاء هو أشد مما لقي العرب في بلاد المغرب من بلاء. كانت القبائل الموتورة تنزل من الجبال كما تنزل الكواسر فتنقض على جناحي الجيش الغازي مرة، أو تأتيه من خلفه مرة، بينما يتعرض القلب لقتال شديد من المتصدين له. ولو كان على رأسهم غير عقبة لما جاوزوا برقة إلا قليلاً
وقف البحر في وجه عقبة وما استعصى عليه غير البحر، فكان لابد من الرجوع. فأدار البواسل المجاهدون وجوههم يريدون القيروان ولم يلاقوا في أوبتهم عنتاً أول الأمر؛ حتى أمن عقبة واستخف بالأمر فأرسلهم إلى القيروان قبيلاً يتلوه قبيل
ولكن البربر قلوبهم مطوية على الحقد، كما كانت نفوسهم مفطورة على الغدر، وكان كبيرهم كسيلة يتحين الفرصة ويتهيأ للانتقام. كانت بينه وبين عقبة أشياء فهو من شيعة أبي المهاجر، أسلم في عهده وحسن إسلامه، فلما عاد عقبة استخف به وبالغ في إذائه؛ حتى لقد أمره مرة أن يسلخ الشياه مع السالخين وهو يقول هؤلاء غلماني يقومون بما تريد، ولكن عقبة يأبى إلا أن يذله. ولقد نصح له أبو المهاجر أن يحسن معاملة عقبة وقبح فعله على ما بينهما من خصومة، ولكنه أبى واستكبر استكباراً. وعاد أبو المهاجر فأشار عليه أن يوثقه ولكنه أعرض حتى عن هذا
ليت عقبة سمع ما أبدى له من نصح فرعاه واتبعه، أجل ليته تدبر ما أشار به أبو المهاجر، إذاً لنجا مما كان يدبر له.
قصد عقبة في أوبته تهوذا وفيها للروم جيش وحصن؛ لم يكن معه إلا بقية جيشه الفاتح، فاستهان الروم بالغازي وأغلظوا له القول، بل لقد وصل بهم الأمر إلى السباب وهو يدعوهم إلى الإسلام؛ فوقف ليذيقهم بأس سيفه، ولكنهم كانوا قد أخذوا للأمر عدته من قبل، فبينهم وبين كسيلة مؤامرة محكمة. وأقبل كسيلة في هذا الموقف الذي يطيش فيه الكمى، فأصبح عقبة بين نارين: الروم من ورائه والبربر الأشداء من أمامه؛ ولكن قلبه لم يخلق له الفزع؛ تقدم ليلقى كسيلة ففر ريثما يتكاثر حوله البربر؛ وبلغه حينئذ من أبي المهاجر أنه ينشد في وثاقه:
كفى حزَناً أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصارع من دوني تصم المناديا
سمع عقبة ذلك فغلبت عليه شيمته العربية وأطلق خصمه من وثاقه وقال له: (الحق بالمسلمين وقم على أمرهم وأنا أغتنم الشهادة)! ولكن أبا المهاجر يطمع في الشهادة كما يطمع عقبة فوقف يقاتل تحت لوائه، وكسر البطل المجاهد عقبة غمد سيفه على ركبتيه وحمل على الأعداء، واحتذى العرب حذوه وتكاثرت جموع الروم والبربر، ودارت رحى الحرب والتمعت البيض، وبرقت الأسنة، وتطاير العثير، وعلا الضجيج، وطاب الموت في سبيل الله، وانجلت الغمرة فإذا العرب جثث طريحة لم يفلت منهم إلا من أسر؛ واغتنم عقبة الشهادة، واغتنمها معه أبو المهاجر. وعرف ذلك البطل كيف يموت ميتة لا يدرك معناها إلا البسلاء
الخفيف