مجلة الرسالة/العدد 246/قالت هلم إلى الحديث فقلت لا. . .
مجلة الرسالة/العدد 246/قالت هلم إلى الحديث فقلتُ لا. . .
للأستاذ أحمد الشايب
المدرس بكلية الآداب
- 1 -
قال الراوي: كانت السنة الثامنة منذ هاجر الرسول عليه السلام من مكة إلى المدينة، وكان صُلح الحُدَيبية الذي يقف الحرب بين المسلمين والمشركين سنوات عشرا يقطع عامه الثاني، ويتيح لقريش في مكة فرصة التروِّي لعلهم ينجون بكرامتهم وحياتهم من هذه الدعوة المحمدية، والنصرة الإلهية. وكان المسلمون في المدينة، مهاجرين وأنصار، يستبعدون مدى هذه الهدنة، ويعدونها نيلاً من عزتهم الدينية، وقد علموا (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُن المسجد إن شاء الله آمنين) وما كان لهم أن ينقضوا عهداً في أعناقهم أو يفكوا عقداً للرسول بإذن الله تعالى. ولكن الله قدر وقضى - لتصدق الرؤيا توّاً ويكون الفتح المبين - أن تغدر قريش؛ فقد ثار بنو بكر ابن كنانة على خُزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له الوتير يطلبونهم بدماء قديمة، وكانت قريش ترفد بني بكر بالسلاح، وتقاتل معهم خزاعة مستخفين بالليل حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم. فلما انتهوا إليه قال بنو بكر لزعيمهم: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهكَ! إلهكَ! فقال: كلمة عظيمة: لا إلهَ لَه اليومَ! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تُصيبون ثأركم فيه؟!
قال الراوي: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين الرسول من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعده، خرج عَمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحدُ بني كعب، حتى قدم على الرسول المدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظَهراني الناس فقال:
إن قريشاً أخلفوك الموعِدَا ... ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا
فانصر هداك الله نصراً أَعْتدا ... وادْعُ عبادَ الله يأتوا مَدَدا
فقال رسول الله: نُصرتَ يا عَمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله عَنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب. ثم خرج بُدَيل بن وَرْقاء في نفر من خزاعة قدموا على الرسول المدينة فأخبره بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. وقد قال رسول الله ﷺ للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة! ومضى بُدَيل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان قد بعثته قريش إلى الرسول ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقي أبو سفيان بُديل بن ورقاء قال: مِن أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى الرسول. قال سيّرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا. فلما راح بُديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء بُديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها فَفتَّهُ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بُديل محمداً
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول طوته عنه. فقال: يا بُنية، ما أدري أرغِبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش الرسول. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى الرسول فكلمه فلم يرد عليه شيئاً. ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أأنا أشفع لكم إلى الرسول؟! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهتدكم به. ثم دخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله وعندها الحسنُ بن علي يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمسُّ القوم بي رَحِماً وإني قد جئت في حاجة فاشفع لي إلى رسول الله، فقال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بُنيّك هذا فيُجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيّ ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله ﷺ. قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني. قال: والله ما أعرف لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيدُ بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، وركب بعيره وانطلق. فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ فقص عليهم ما جرى، فقالوا: ذلك لا يغني شيئاً، قال: ما وجدت غير ذلك
- 2 -
قال الراوي: وأمر رسول الله ﷺ الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه. فدخل أبو بكر على ابنته عائشة زوجة الرسول، وهي تحرك بعض جهازه عليه السلام، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري. ثم إن الرسول أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فلما أجمع السير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بَلْتَعةَ اللخمي كتاباً إلى قريش يخبرهم أن الرسول إليهم سائر؛ ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها وخرجت به. ولكن الخبر قد أتى الرسول من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام فأدركا المرأة فالتمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئاً. فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه فدفعته إليه، فلما أتى به الرسول دعا حاطبا، فقال: يا حاطب: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكني صانعت القوم لأهل وولد لي بين أظهرهم. فقال عمر ابن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق. فقال الرسول: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
ثم مضى رسول الله ﷺ لسفره واستخلف على المدينة كلثوم بن حصين الغفاري. وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر؛ ثم مضى حتى نزل مر الظهران - في عشرة آلاف من المسلمين - وهو واد قرب مكة، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله ﷺ ولا يدرون ما هو فاعل
وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به! وكان العباس بن عبد المطلب قد لقي الرسول ببعض الطريق مهاجراً بعياله، وكان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته والرسول عنه راض. قال العباس فقلت: وا صباح قريش! والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة دون أن يأتوه فيستأمنوه، فهو هلاك قريش إلى آخر الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد من يأتي مكة فيخبرهم بمكان الرسول ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول له: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، فيقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك فداك أبي وأمي؟! قال، قلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله في الناس، وا صباح قريش والله! قال: فما الحيلة؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك. قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة الرسول وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله على بغلته؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو الرسول فلاحقته إليه، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه. فقال العباس: إني قد أجرته يا رسول الله. فقال الرسول: يا عباس اذهب به إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به. قال: فلما أصبحت عدوت به إلى رسول الله فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد. قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً. فقال له العباس: ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس: قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فلما ذهب لينصرف قال الرسول: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله أن أحبسه، ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول سليم، فيقول ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة فيقول يا عباس من هؤلاء؟ فأقول مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة. حتى مر الرسول في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فقال سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قال العباس: قلت يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: النجاء إلى قومك. فلما جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. وأذاع فيهم ما جعل له الرسول فخراً، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد آمنين
- 3 -
قال الراوي: إن أسماء ابنة أبي بكر قالت: لما وقف رسول الله ﷺ بذي طوى عند مكة قال أبو قحافة - والد أبي بكر وكان كفيف البصر - لابنة له من أصغر ولده: أي بُنيَّة اظهري بي على أبي قُبيس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ماذا ترين يا بنية؟ قالت: أرى سواداً مجتمعاً. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يديه ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. قال: ذلك الوازع الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: قد، والله دفعت الخيل فأسرعي بي إلى بيتي. فانحطت به الفتاة وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته. قالت: وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها، فلما دخل الرسول مكة ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده. فلما رآه الرسول قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه! قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. قال: فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره، وقال له: أسلِم فأسلَم. ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإسلام طوق أختي! فلم يجيبه أحد فقال: أي أُخَيّة احتسبي طوقك. ثم فرق الرسول جيشه من ذي طوى، فدخلت فِرقُة مكة من نواحيها ونزل الرسول بأعلى مكة وضربت له هناك قبة
وكان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر، قد جمعوا أناساً بالخَنْدَمة - جبل بمكة - ليقاتلوا المسلمين. وكان حِماس بن قيس من بني بكر يُعِدُّ سلاحا قبل دخول الرسول. فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أُخدمَكِ بعضهم. ثم شهد الخندمَة مع صفوان وسهيل وعكرمة وأناس من المشركين فهزمتهم رجال خالد بن الوليد، فخرج حماس منهزماً حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي عليّ بابي. قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمهْ ... إذْ فر صَفوانُ وفر عكِرمهْ
وأبو يزيد قائمٌ كالمؤتَمَه ... واستقبلتهم بالسيوفِ المسلمهْ
يَقطعن كلَّ ساعدٍ وجُمجمهْ ... ضرباً فلا يسمعُ إلا غمغمهْ
لهمْ نهيتٌ خلفنا وهَمهمهْ ... لم تنطِقي في اللوْم أدنى كلمهْ
لما نزل الرسول مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بِمحجَن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها. ثم وقف على باب الكعبة فقال: (لا إله إلا الله، وحدَه لا شريك له، صَدقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده. ألا كلُّ مأثرة أو دم أو مال يُدعى فهو تحت قدَميَّ هاتين إلا سدنة البيت وسقاية الحاج إلا وقتيلَ الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مُغلَّظةً، مائة من الإبل. أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتَعظُّمَها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) ثم قال: يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطُّلقاء. ثم جلس رسول الله في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال الرسول: أين عثمان ابن طلحة؟ فدُعِيَ له، فقال: هاتِ مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء قالوا: لما دخل عليه السلام البيت يوم الفتح رأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوّراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله! جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام؟! (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين). ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست. وكان يقول وهو يشير إليها: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً)
قال الراوي: أراد فضالة بن عمير بن الملوّح الليثي ليقتل رسول الله ﷺ وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال الرسول: أَفضالة؟ قال: نعم فضالة. يا رسول الله قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء. كنت أذكر الله عز وجل. فضحك النبي، ثم قال: أستغفر الله! ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده من صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلمّ إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول:
قالت: هلم إلى الحديث فقلت: لا ... يأبى عليك الله والإسلام
لو ما رأيتِ محمداً وقبيلهُ ... بالفتح يوم تُكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيِّناً ... والشرك يغشى وجهه الإظلام
قلت: هذه صفحة من أمجد صحف الإسلام ديناً، وخلقاً، وسياسة، وأدباً، وحماسة، ليس لي فيها إلا تخليصها من أطواء السيرة، وعرضها بأسلوبها، لعل في الذكرى نفعاً:
وإذا فاتك التفاتٌ إلى الما ... ضي فقد غاب عنك وجهُ التأسِّي
أحمد الشايب