مجلة الرسالة/العدد 239/من برجنا العاجي
مجلة الرسالة/العدد 239/من برجنا العاجي
يتساءل بعض الناس كيف لا يستطيع أدباؤنا أن ينتجوا إنتاج أدباء الغرب؟ أما أنا فأتساءل كيف استطاع أدباؤنا أن ينتجوا إطلاقاً، ولماذا هم ينتجون؟ إن موقف أدبائنا اليوم ليدعو إلى العجب. إنهم في موقف لم يقفه أدب ولا أدباء في عصر من العصور. إن المعروف في كل عصر أن الأدب يرعاه دائماً تشجيع طبقة من الطبقات. ففي عهد الأرستقراطية كان في كنف الملوك والخلفاء والأمراء والنبلاء، يتبارون في حمايته، ويتسابقون في إعلاء كلمته. وفي عهد الديمقراطية الحديثة وانعدام الأمية انتقل أمره إلى يد الشعب المتعلم فهو الذي يثيب الأديب بالتهافت على اقتناء كتبه، وهو الذي يحوطه بمظاهر الاحتفال والتقدير. أما أدبنا اليوم، فهو حائر كاليتيم بين أرستقراطية لا وجود لها، وإن وجدت فلا شأن لها بأدب ولا أدباء، وبين ديمقراطية اسمية في شعوب لم يتم تعليمها، فهي بعد لا تعنى بأدب ولا أدباء. فأنا ننتج ونحن نعرف أن إنتاجنا لا يهم الحكام ولا المحكومين، وأن ثمرات هذا الفكر الذي أضعنا من أجله كل حياتنا الجميلة لن يجنيها غير نفر قليل ممن ينظرون إلى استشهادنا بعين الرثاء. نعم إن هو إلا استشهاد، هذا الأدب في هذه البلاد. . . لا شيء غير ذلك. وإني قد سألت نفسي مراراً لمن أنشر كتبي؟ فكان الجواب: إني إنما أفعل من أجل أولئك التسعة أو العشرة من الأدباء الكرام الذين يفهمونني لأنهم يعانون عين الألم، وينتظمون معي في سلك العذاب، ويدبون مثلي على أقلامهم في تلك الحياة الطويلة الجرداء، كأنها صحراء من الجليد لا يهب علينا فيها غير صقيع الإهمال من الشعب وأصحاب السلطان، ولكننا مع ذلك نسير ونسير متجلدين، أيدي بعضنا في أيدي البعض كأننا منفيون في مجاهل سيبيريا. . . وما نحن في الحقيقة أكثر من ذلك. . . ما نحن إلا منفيون في مجاهل (فكرنا) الذي يجهله الناس
توفيق الحكيم
كلمة لبنان في مهرجان القران الملكي السعيد
للأستاذ أمين بك نخلة
باسم القلم في لبنان، بل باسم القلم اللبناني في كل أرض، بل باسم اللبنانيين في دارهم وف كل دار لهم على جنبات المعمور، أرفعُ هذا الصوت على النيل، في فرحة البيت المصري بصاحب التاج، فينجلي الحجاب، ويبش وقار المْلك وبأنس عرش (محمد علي) لرسول الأحبة من ارض (بشير)!
فيا فاروق، يا لابس المطرف (العلويّ) ووارث الميثاق: هذه رسالات الوفاء في يدي، أحملها إليك من وراء قنال (السويس)، من نهايات شطه الآخر، حيث لا ينبسط القتال في ظن القلوب بين بيروت والقاهرة، ولا يشطر دار الهوى في خطرات (محمد علي) وسرائر (بشير)، فكأن معاول (دي ليسبس) عند عقدة (الأبيض المتوسط) و (الأحمر)، وأوشك التلاقي بين لوني آسيا، وأفريقيا، في مخطط الدنيا، لم يُسمع لها رنّة على الساحل الشرقي من (المتوسط)!
وهكذا تسلم علاقة الماضي بين جبل المقطم وجبل الأرز، لا يحول دونها خط (السويس) في الخارطة، وهي من إرث الوجدان قبل عهد الخلائق بالورق. . .
كان التراب أمس - كما تدري - أوفر أثراً من الماء في علائق البشر، وتعمير الممالك، ونقل المدنيات؛ بل كان مدار العقل القديم في تأليف الأمم، ومزج الأجناس، قبل أن يصبح المدار على دم العرق، وهوى الضمير، ولغة الفم، ففي ذلك الأبد السحيق كان من المتحتم أن يغدو هذا الشاطئ المشرقي المنطرح من مباسط (طوروس) إلى مشارف (أسوان) ملعباً لدورين ينقص تاريخ البشر يوم يسقط لهما ذكر! لنا دور منهما ولمصر الآخر. فرجت كرة الأرض يومئذ من الحركة المشرقية. فالملعب عريض، قبالة الأمم على (المتوسط)، والرواية رواية المدنية، وأصحابها أساتذة الأزمنة في رفع الحجر إلى الجو، وإخراج النبتة من الأرض، وإبراز خاطرة البال في حلة الحرف، وربط هذه المخيّلة البشرية بالغيب العالي، فشهدت الدنيا القديمة، للمرة الأولى، كيف العهد بآفاق يراد لها وحدة، وشعوب يراد لها تأليف، وإذا الشمس لا جديد تحتها؛ فكرة من صوب مصر علينا، وكرّة من صوبنا على مصر، حتى تتعب الأزمنة بين أخذ ورد. فكان عبثاً مجيء (كنعان) من جوار الجبل اللبناني، ووادي مصر أغبر، وماء النيل هدره، فيسمح بالخضرة، هاهنا، على كل فج عميق. وكان عبثاً أن يقطع (تحتمس) إلينا، حتى يبلغ ضفاف (الفرات) ويكاد يشرف على صفرة آسيا، كما كان من العبث أن يقطع (سلاتيس) إليكم حتى يبلغ ضفاف النيل ويكاد يشرف على سواد أفريقيا. بل كان من العبث فوق ذلك أن نتلاقى على الملعب: فرعونية من جانب، وفينيقية من آخر. نمدكم بالحرف واليد والشراع، وتمدوننا بالخاطرة والصنع والوسق، فتدق البشائر في الدنيا بأول العهد بالعلم والصناعة والتجارة
ولا تقف المحاولة عند ربط صعيد بصعيد، وعلم بعلم، ومصلحة بمصحلة، بل جاوز الأمر إلى الديانة. فإذا الإله اللبناني (أدونيس) تحت القناطر في (أسوان)، وإذا الإله المصري (أوزيريس) فوق المذابح في لبنان. فألف الأول في العصبية الدينية زرقة السماء المصرية على خضرة الجبل اللبناني، كما جمع الآخر أمواج (أفقا) إلى أزباد النيل. ولكن الوحدة في التيجان والرايات وأجناس القبائل لبثت على ذلك كله غير مستطاعة، حتى إذا دار بنا الفلك بعد مليءٍ من الدهر، وطلعت علينا أمم الفتوح واحدة واحدة من الآشوريين إلى الرومان، خفقت على هذا الشاطئ المشرقي صيحة الوحدة
ثم انقلب أمر الدنيا، ثم جاء (الإنجيل)، فنوَّرت هاتيك الجهات على مقربة من لبنان , ثم نور لبنان بالسبب الجديد؛ وما هي حتى جاءكم مرقس يكرز، فكأنما عدنا إلى المحاولة. ويلمع في الأيام بعد ذلك ضياء من صوب (البحر الأحمر)، فتلألأ (مكة) وتغرق بلاد العرب في اللألاء (القرشي). فإذا القضية لقومية، فوق كونها لديانة. فتنقل شعاع (القرآن) في مشرق (المتوسط) على الدروب الباقية من ذلك الغرض القديم. وشرعت الرايات (المحمدية) تخفق في دمشق على خطوتين من جبل اللبنانيين، فأقبلنا في الزمن (الأموي) نعب من (كتاب) العرب، وندير ألسننا في الفصاحة؛ كما أقبلتم على يد (ابن مروان) تتلقون عقيدة الكتاب الجديد، وتتلقنون لسانها؛ فكان أن جَمَعت رابطة الفم بين هذا (الوادي) وذلك (الجبل)، بعد أن جُمعا تارات في المحاولة على المصلحة والعلم والديانة، وعلى دفع الفتح، وتحمل الأمم الغربية. ولكن تلك الرابطة التي تضم الفم إلى الفم، كانت أشد الروابط، فتلاقينا معاً على ملعب (المتوسط) كرة أخرى. أما الغرض القديم فكان في نقلة الزمن قد تحول من نحو إلى نحو، بل انتقل من جنس في الجمعة المشرقية إلى جنس؛ فضج الكون بالعرب، ورقصت فصاحتهم على (شنيل) الأندلس، كما رقصت على (نيل) الكنانة، وغدوا وراحوا على الممالك، حتى لقد تصايحوا بالضاد على أبواب فرنسا
وتسكن العروبة بعد الدور العظيم، وتجيء العثمانية تملأ الملعب، فنعتليه ومصر؛ وتتعاقب فصول في الرواية التركية الطويلة، وتختلف وجوه؛ وكانت مغارب الشمس قد أضاءت وطفقت مشارقها تعتم. فيرج المدفع في (عكا)، ويقطع على (بونابرت) طريق (الهند) ويرد يد الإسكندر الثاني عن تغيير خارطة العالم:
فيا صاحب الجلالة
في تلك اللَّفتة من التاريخ جاء جدك. . . وقد كان من الاتفاق أن يولد بونابرت في (أجاكسيو) خارج فرنسا في العام الذي ولد فيه محمد علي في (قَوَله) خارج مصر. فلما غلغلت الشمس الفرنسية في جوف (البركان المنطفئ) وراء (الأوقيانس)، وأخذت الشمس المصرية تتعالى في سماوات التاريخ - وكأنما أنوارها تتفلت من وحشات ذلك الغروب البعيد - كان من الاتفاق أيضاً أن ينهض عرش عصامي في الشرق، حيث يهوي في الغرب عرش عصامي؛ فيتربع (محمد علي) في مصر، ويعود الشاطئ المشرقي على يديه إلى المحاولة. وأنت تدري أن كرة الأرض قد صغر حجمها في عيون أساتذة الطمع، منذ ما قامت أوربا على قدميها، وأصبح قيد الشبر من أرض على خليج يحله فاتح في الأعصر الحديثة، بمثابة نصف قارة يخوضه في الأعصر القديمة فاتح مثله؛ فلم يخرج (محمد علي) على قاعدة الأساتذة، ولكن قيد شبره كان كبيراً. . . فصهلت خيل (طوسون) و (إبراهيم) على سيف (البحر الأحمر) المشرقي، وفي صحراوات (الحجاز)، ومشارف (نجد)، ولوّحت أعرافها تحت (إسماعيل) على (البحر الأزرق)، وخطرت عمارة (إبراهيم) بين عيني الجزائر (اليونانية)، ثم طلعت أعلامه علينا من (العريش)، فقطعت من يافا العربية إلى (قونية) التركية خلف (طوروس)، وكادت تطل على خليج (البوسفور)!
أما لبنان فأقبل على المحاول المصري الكبير في إجابة من النفس. إذ الملعب المشرقي لنا فيه سابقة الخطرات. فلا عجب أن تصبح يد (بشير) في يد (محمد علي) - وكان سيد (الجبل) قد نفضها قبل من نابليون نفسه - عند أسوار (عكا). . .! ثم تنسخ في المحاولة الجديدة صورة أختها تلك، فيرتبط الجبل اللبناني بالوادي المصري في العلْم، بعد أن ارتبط به في الحد والمصلحة واللسان؛ وفي دين (ابن مروان) ودين (مرقس)؛ فأظلنا (القصر العيني) معاً، وجمعتنا مطبعة (بولاق) على الممتعات في الفلك والزراعة والهندسة والجغرافية وكما كانت المحاولة في الأمس العتيق تساجلاً بين نضرة من هنا ونضرة من هناك، كذلك كان الأمر في أعقاب القرن الماضي؛ يوم أصبح العلم العربي لا يطلع له قمر إلا من أرضنا، فبعثنا بالممتعات في الأدب والفن والتاريخ واللغة، وجاء الرد بعد الأخذ، وصحت المقابلة في التاريخ! وإذا كانت رياح العربية تهب اليوم من مصر ومن عندنا في آن معاً، حتى ليكاد يختلط الطيب فنتقاتل على فخر الشيوع، فما هي إلا من أهبة يأخذها التاريخ لتدوين هذا النسق الجديد من المحاولة التي لم ينقطع خيطها، والحمد لله. . .!
فيا صاحب الجلالة
شرفاً لعرشك فهو كرسي النيل، ودق ظلَّل نصف الحضارة البشرية؛ وتيهاً لمطرفك فهو ثوب (محمد علي) وقد فيَّأَ نصف الحضارة العربية. فشاطر عرشك في محاولة الشرق القديمة، وساهم مطرفك في المحاولة الحديثة؛ فإذا تسلمت بكفّيك الغضتين وديعة الماضي الباهظة، فلا خوف عليها، وأبيك (يا ابن فؤاد)! وإن لبنان الذي شرفني بالوقوف بين يديك، فوق تشرفي بالكلام باسمه، لا يبرح على العهد. فدارنا الشرق، وأهلنا العرب، ولساننا الضاد، نشمخ به في الأفلاك. . .
ويا صاحب الجلالة
مقبلٌ أنت - يا ربيع الوادي - على سنَّة الثمر، غِبَّ الزهر، فتصبح المثال العالي لجبل الشرق الطالع، في مباكرة ذلك النعيم الاجتماعي، الذي يأنس له العقل والدين، ويحمد (واديك) طيب الموسم، وينظر لبنان إلى البركة بعين الصديق. إذا شاء الله
أمين نخلة