مجلة الرسالة/العدد 239/النار المقدسة
مجلة الرسالة/العدد 239/النار المقدسة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أنضجت قلبه النار المقدسة التي أنضجت قبله قلوب رعاة القطيع. . . ورواد الطريق، وآباء الإنسانية البلهاء. . . فغدا يسير على الدنيا وله فيها زفير وشهيق مكتومان لا يحسهما إلا من يتصل به عن قرب فيفتح له قلبه الكبير الذي فيه كل آلام الناس، وكل فجائع الناس، وكل مسئوليات الناس. . . كأنه أب ذو عيال! وكأنه مسئول عن ذنوب البشر فهو يبخع نفسه أسفاً ويسيل نفسه حسرات.!
سألته مرة: لم تحمل على قلبك الدنيا؟ ولم تجتر آلامها وتمضغ أسقامها، ولست فيها حاكما ولا شرطياً! فقال: بليت بالنظرة الناقدة إلى العيوب، وبالعجز عن وسائل الإصلاح، فكان لي ما تراه من إدمان المضغ لأحاديث الشقاء وأماني الشفاء!
مات أبوه فبكت عينه وقلبه ذلك البكاء الرحيم لألم الحب والرحمة والفقد ساعات. . . ثم نامت عينه ونام جسده بجوار جثة أبيه حتى صباح الدفن والضريح كأن شيئاً لم يحدث. . . ولكنه لا ينام إذا مات من دينه أو وطنه شي. . . حتى يكاد يجن من الأرق، لولا أن يتداركه الله بالنسيان والسلوى
ينخل الرجال والأعمال، ويرى ما وراء الوجوه ويقرأ ما بين السطور. . . فتروعه عورات الحقيقة العارية في الناس. . . إذ يرى الجهل والإثم والدجل والخيانة والأنانية والبلاهة. . . فيسأل السماء: أهذه هي الإنسانية أثمن وديعة في الأرض حاكمة ومحكومة؟!
مرهفٌ حسُّه: فيرى كل شيء ويشم كل شيء ويسمع كل شيء حتى امتلأ وأتخمته الدنيا بما فيها؛ فضوي جسده، وتوسعت نفسه على حسابه
استقى لنفسه من الأنهار الكبيرة الجارية، ومن الجداول الصغيرة، ومن البرك الآسنة، وحط على الزهرة والشوكة، والجبل والحصاة والنار والماء. . . فاصطرعت فيه الأضداد.
يعيش في سجن من وصايا الدين والعلم والخلق كأنه (ديدبان) فهو مسجون وسجان. . .
متيقظ للزمان. . . يعيش كل دقيقة. . . ويحسب كل نفس، ويصحب نفسه دائماً حتى أصيب بالذهول عن الناس.
يتكلم مع كل شيء؛ فيقول لكل حق أنت صديقي، ولكل باطل أنت عدوي. . . لا يؤ بالذكاء؛ لأنه يدلس. . . ولكن يؤمن بالطبع لأنه صريح. . .
يريد أن يعلم الناس كيف يحبون؛ وهم يرونه ميتاً. . . فأين الملتقى؟!
يقول لهم: لا تأكلوا الثُّفل. . . والحروف. . . والحجارة. . . واكتفوا بالعصارة والمعنى والروح؛ فيقولون له: أنت تمضغ ماء وهواء. . .!
يا رحمتاه هذا ما دام حيَّا. . . فإذا مات فوا رحمتاه للناس!
إن هذا وأمثاله هم أعضاء الإنسانية وأوتادها. من أجلهم وجدت على الأرض، وإن نارهم موُقدة من القبس الخالد الذي أضيئت به السماوات وقام عليه صلاح العالم
يكفي أن أنظر إلى واحد من هؤلاء حتى أهتدي إلى نفسي الضائعة، فأجدها تحت ركام من ضجة الدنيا. . . فأقول لها: تعالي وارمضي لفائف صدرك في هذه النار المشبوبة في هذا الرجل المحترق المضيء وتطهري بها وارجعي إليّ. . .
ولقد وجدت واحداً منهم وعشت معه سنتين، رأيت على ضوئه كل شيء في موضعه الحقيقي من الدنيا، فحملني على احترام الإنسان والثقة بما فيه من عالم طاهر مؤنس إذا صُفى جوهره من الخبث والشوائب بهذه النار
بل لقد حملني على احتقار أكثر القوالب الإنسانية التي تملأ الأسواق والشوارع. . . وجعلني أدور دورة (ديوجين) بمصباحه وأنشد مع القائل:
ما أكثر الناس! لا بل ما أقلهم! ... الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا
أو مع المتنبي: (أرى أناساً ومحصولي على غنم!)
أو مع الآخر:
لا تعجبنْكَ الثياب والصور ... تسعة أعشار من ترى بقر!
في خشب السرو منهمُ مَثَل ... له رُواء وما له ثمر
ويا ويلي من الإنسان! إنه يشغلني دائماً بصوره التي لا عداد لها كلما رأيت وجهاً له. . . وأقسم غير حانث أني لا أعرفه ولا أدركه، رغم خبري به في هويتي ودمي وصورتي! وإن نفسي التي بين جنبي ي القفل والغَلَق الذي حال بيني وبينه حتى عييت وبئست. . .
بل يا ويلي من نفسي واحتكاكها بما وراء الحياة الظاهرة والصور والأشخاص والمواد. . .
ومن طلبها المزيد من هذا الاحتكاك الذي يمغطسها ويتركها ذاهلة ماضية إلى غير وجه الحياة الذي يمضي عليه الناس. . .
ولكن لا. . .! بل يا لذتي من غريزة التكوين والتخريب هذه التي تريني كل شيء كامل كومة من الأنقاض. . . وكل شيء مخرب خلقاً سويا. . .!
أليس الرجل طفلاً كبيراً؟
يلذ لي أن أراقب الناس وقتاً طويلاً في الشارع، وأشبع عيني وما وراءها من أنواعه واختلافه. . . لأزداد به جهلاً. . .
بل إني أذهب إلى (السينما) لأراه في جميع بقاعه وألوان معاشه واختلاف سحنه وألوانه ولغاته، لأخرج بعد ذلك مبلبل الفكر فيه في سوء ظن تارة، وفي إحسان تارة أخرى
بل إني أطوف كل يوم قبيل نومي بخيالي عليه في جزره النائية في المحيطات، وفي القطبين، وفي خط الاستواء، وفي هضبة التبت، وفي سفوح الهند، وفي رمال العرب، وفي. . . وفي. . . لأعيش في غيبوبة الصحو قبل غيبوبة النوم!
لقد رأيته قاتلاً ومقتولاً. . . جنينا محمولاً وميتاً ملحوداً. . . عاهراً وناسكا. . . جميلاً وقبيحاً. . . رجلاً يشعر وجهومة، وامرأة بزينة ونعومة. . . عالماً يضيء استراليا وهو في أوربا، وجاهلاً فدْماً عارياً آبداً عاجزاً أن يعد أصابع يده. . . فذهبت من نفسي قداسته وانحطت هيبته. . .
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد!
أجل! إني رأيت مخه. . . ورأيت قلبه. . . فلم أر شيئاً غريباً عما آكله من الغنم والثيران. . . ولذلك كفرت بالجسد كفراً لا إيمان بعده أبداً. . . ورحت أبحث عن الإنسان - ذلك المجهول. . . فلم أعثر إلا على لمحات عنه خلال كلمات ليست منه وإن كانت بألفاظه. وهي كما رواها محمد:
(إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد)
(وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون. . .)
(ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم. . .)
(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. . .) (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين)
يا يد الله! يخيل للإنسان العاجز أنك تخرجين الصنعة من مخابير ومسابير وعجلات ودواليب في مصانع وحظائر. وأنك تستخدمين طلاسم ولوغاريتمات ومعادلات. . . كما يفعل هو إذا أراد أن يحاكي أو يوحد بين ذرتين أو يفصل بينهما. ولذلك سألكِ إبراهيم أحد المقربين إليك: رب أرني كيف تحيي الموتى فأريته ذلك الكَيْف. ولكنه لم ير شيئاً أكثر من أنه دعا مًوَاتاً فاستجاب له حياً! إنه لم ير شيئاً. . .
إن كل آلاتك كلمة واحدة من حرفين اثنين بِكَيْلِنَا نحن ولكنها عندكِ خارجة عن حدود التعداد والقياس
إنك يد تتكلم كلمات وراءها حقائقها المُنْجزة التي لا تنفد ولو كُتبت بما في الأرض من شجرة أقلاماً ممدودة بماء البحر من بعده سبعة أبحر. . .
قال (إسحاق نيوتن) ما معناه: إن خالق هذا الكون على علم تام بعلم الميكانيكا. . . تماماً كما يقول الطفل: إن الملك عنده مائة دينار
ومن هنا آفة الفكرة في (الألوهية) عند أكثر الناس إذ جعلوا (الله) على صورتهم وبمنطقهم. . .!
قالت القدرة المطلقة للعجز الإنساني: تَهَج هذه الأبجدية التي شئت أن تراها وحدها مني وهي حسبك من معرفة. ولكنه تخطى البُدائيات وخاض في المجاهل فضل في فلسفاته وفرضياته حتى عاد لا يرى تلك المشيئة الغالية
(حددوا المادة وأنا أتكفل بتحديد الروح). هذا قول (مِلِكنَ) العالم الطبيعي الذي قاس مقدار الشحنة الكهربائية على الإلكترون، والذي اكتشف أشعة تفوق أشعة إكس مئات الأضعاف في قوة اختراقها للمواد. . لم يتخط عقله إلى البحث في الروح قبل أن يدري ما هي المادة. . . ولعمر الحق إن مثل هذا لن يضل. . .
سأراك أيتها الشمس في عيني جديدة كل صباح. . . وأنت يا عالم الظلام. .
وأنت أيتها الأشجار سأصحبك بلفتاتي الذهنية كلما رأيتك قائمة بالفرع ساجدة بالجزع في محراب الطبيعة. . .
ويا أيها الماء والحيوان والإنسان والجبل والحصى. . .
يا سائر ما خُلق من الآيات التي نمر عليها ونحن عنها معرضون أقسمتُ لا أبرح أراكِ جديدةً عجيبةً مثيرة للفكر في الرأس والدم في القلبِ. . . حتى لا أنسى. . . حتى لا أنسى!
عبد المنعم خلاف