انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 233/للأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 233/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1937



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 18 -

(كتب كاتب في العدد الأخير من مجلة المقتطف الغراء شيئاً بعنوان (سيرة الرافعي) فيه أشياء أعرفها ويعرفها قراء الرسالة، وفيه أشياء لا أعرفها ولم أسمع بها على طول صحبتي للرافعي وما رويت من خبره عن أهله وخاصته، وفيه أشياء أنا على خلافها؛ ولو كان لي أن أعرف مصادر الكاتب إلى هذا العلم لاتهمت نفسي؛ ولكني أحسب كل مصادره أنه يسرف في الاستنباط، فرجائي إليه أن يمايز بين أجزاء الكلام ليعرف ما هو له وما هو للحقيقة، فإن فكر المفكر غير حوادث التاريخ، وما تراه أنت رأياً في الحادثة قد يراه غيرك على نقيض؛ والحياة حادثة وقصة واحدة لا خلاف فيها، ولكنها على اختلاف من ينظر فيها من أهل الرأي والفلسفة قصص وحيوات؛ وإن عليّ للرافعي لديناً يدعوني إلى السهر على تراثه، فمن ذلك أرى عليّ أن أتوجه إلى الكاتب بهذا الرجاء، وأن أتوجه بالعتب إلى الأستاذ فؤاد صروف القائم على تحرير المقتطف، وهو الخبير بموازين الكلام، وهو هو الذي كان للرافعي صديقاً من خاصة أصحابه وأصفيائه)

(العريان)

الرافعي الناقد

سأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن شيء مما كان بين الرافعي وأدباء عصره، وإنه لحديث شائك، وإنني منه لفي حرج شديد. لقد مات الرافعي ولكنه خلف وراءه صدى بعيداً مما كان بينه وبين أدباء عصره من الخصومات الأدبية؛ فما أحد منهم إلا له عنده ثأر، وفي صدره عليه حفيظة أو له عليه معتبة. ولقد اهتزت بلاد العربية كلُّها لنعي الرافعي وما اختلجت نفس واحد من خصومه فكتب إلى أهله كلمة عزاء، إلا رجلاً واحداً هو الدك طه حسين بك، إذ كتب برقية إلى ولده؛ فلا جرم كان بذلك - على تفاهته - أنزهَ خصوم الرافعي وأعرَفهم بالأدب اللائق!

ولقد مضى بضعة أشهر منذ ترك الرافعي دنياه؛ فهل رأيتَ أحداً منهم كتب شيئاً عنه يناله بالمدح أو المذمة؟ وهل رأيت اللجنة التي اجتمعت لتأبينه قد استطاعت أن تحمل واحداً من هؤلاء على أن يشاركها فيما تعمل لتأبين الرافعي، أو قل لتأريخ عصر من عصور الأدب قد انطوى تاريخه بين أعيننا ويوشك أن يضيع في مدرجة النسيان؟

ليت شعري أكان الرافعي من الهوان في المنزلة الأدبية بحيث لا يذكره ذاكر من زعماء الأدب العربي ولما ينقض على موته بضعة أشهر، وبحيث تجتمع له لجنة التأبين وتنفض وتحدد الموعد ثلاث مرات ثم لا تجد من يتقدم إليها ليقول في تأبين الرافعي فتوشك أن تنسأ الأجل إلى غير ميعاد. . .؟

ولكنه هو - يرحمه الله - الذي ألَّب على نفسه هذه العداوات حياً وميتاً. لقد كان ناقداً عنيفاً حديد اللسان، لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه. وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس؛ وكان فيه صراحة وصرامة؛ وكان له في الأدب مذهب وحده؛ وكان فيه حرص على اللغة (من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء: لا منفعة فيهما معا إلا بقيامهما معا) وكان يؤمن بأنك (لن تجد ذا دِخْلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدتَ له مثلها في اللغة). . . فكان بذلك كله ناقداً عنيفاً، يهاجم خصومه على طريقة عنترة: يضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع. . .!

اقرأ له في أول كتاب المعركة: (. . . إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غداً فيمن لا نعرفه؛ ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلّنا من نجهله يلطّف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه. . . فإن كان في أسلوبنا من الشدة أو العنف، أو القول المؤلم أو التهكم، فما ذلك أردنا؛ ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتديَ أن يضل، فما به زْجرُ الأول بل عظة الثاني. . .)

وأول ما أعرف للرافعي في النقد، مقاله في الثريا عن شعراء العصر في سنة 1905؛ ثم مقاله في الرد على المرحوم المنفلوطي في المنبر، وكان نشر مقالاً يعارض به رأي الرافعي في الشعراء وينتصف به لصديقه المرحوم السيد توفيق البكري، فكتب المرحوم حافظ إلى الرافعي يقول: (قد وكلت أمر تأديبه إليك. . .!)

ثم كانت مصاولات أدبية بينه وبين الجامعة المصرية غداة نشأتها في سنة 1908، ثم مقالات عن الجديد والقديم، والعامية والفصحى، في مجلتي البيان والزهراء؛ ثم خصومة بينه وبين لجنة النشيد القومي في سنة 1921؛ ثم وقعت الواقعة بينه وبين الدكتور طه حول كتاب رسائل الأحزان في سنة 1924 في السياسة الأسبوعية؛ فكان هذا أول ما بينهما؛ ثم كانت المعارك العنيفة بينه وبين العقاد، وبينه وبين عبد الله عفيفي، وبينه وبين زكي مبارك، إلا ما لا ينتهي من المصاولات بينه وبين أدباء عصره

على أن أشهر هذه المعارك شهرةً هو ما كان بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بل لعلها أشهر وأقسى ما في العربية من معارك الأدب، وإنها لجديرة بأن يؤرخ بها في تاريخ النقد كما كان العرب يؤرخون بأيامهم. . .!

وإنني لأشعر أن عليّ واجباً أن أكشف عما أعرف من الأسباب الخاصة أو العامة التي نشأت بها هذه الخصومات الأدبية أو انتهت إليها، وإنني لأشعر بجانب ذلك أنني أكلف نفسي بهذا فوق ما أستطيع

إن كل ما تناولته إلى الآن من تاريخ الرافعي كان له هو وحده، فلا عليَّ مادمت مطمئن النفس إلى ما أكتب؛ أما الآن. . . أما الآن فسيكون إلى جانب اسم الرافعي أسماء، وإنهم لذوو حول وسلطان، فما أدري أيرضون ما أكتب عنهم أم يسخطون. ولقد رأيت ما فعلتْ بالرافعي شجاعتُه فمات لم يذكره أحد منهم أو يترحم عليه؛ وما أنا كفء لهذه العداوات، ولست لها بأهل، وما لي طاقة بالدفاع عن نفسي، ولا لي أنصار ذوو لسان وبيان، وما تهون عليَّ نفسي. . .!

ولكن. . . ولكن من عَذيري يوم الحق من كتمان الشهادة؟ ولكن. . . ولكن ما أنا إلا راوية يكتب ما رآه لا ما ارتآه. ولكن. . . ولكنَّ فلاناً وفلاناً اليوم أناسيّ تصول وتجول، وإنها غداً لصفحات من التاريخ تتحدث. ولكن. . . ولكن التاريخ قد وقع فلا سبيل إلى مَحْوٍ فيه أو إثبات. ولكن. . . ولكن الندم على ما كان لا يمحو من تاريخ الإنسان ما كان. . .

فهذا عذري عند فلان وفلان ممن يتناولهم حديثي بما يغضب أو يسوء، فإن كان لي عندهم عذر من الكتمان إن كتمت الشهادة فليحدثوني لأطوي من الحديث ما قد يغضب أو يسوء. .

أمَا وإن تاريخ الرافعي في هذا الفصل هو تاريخ الأدب في جيل من الأدباء، فإن كان من حق أحد أن يعتب عليّ لنشر هذا الفصل فإن حق الأدب لأوجب؛ وما أريد من فلان وفلان شيئاً، وما لي عندهم حاجة ولا لهم عليّ يد؛ فليغضب من يغضب للحق أو لنفسه فلا عليّ من غضبه أو رضاه، وإني لماض فيما أنا بسبيله. . .

بين الرافعي وطه

في سنة 1922 كانت السياسة الأسبوعية هي صحيفة الأدب والثقافة؛ وفيها كان يعمل الدكتور طه حسين في الأدب وفي السياسة معاً؛ ولم يكن بين الرافعي وطه يومئذ شيء يثير ثائرة في الصدر، أو يدعو إلى عتاب وملامة، ولكنّ إرهاصات كانت تسبق ذلك ببضع عشرة سنة. . .

كان طه حسين في سنة 1909 هو الطالب المرموق في الجامعة، وكان الرافعي الشاعر ماضياً في الشعر على سنته، لا يعرف له أحد مذهباً غير الشعر؛ فلما نشر مقاليه المشهورين في (الجريدة) ينقد بهما أساليب الأدب في الجامعة، تنبهت إليه العيون؛ فلما أنشأ كتابه تاريخ آداب العرب في سنة 1911، عرف الأدباء الرافعي العالم المؤرخ الرواية، وعرفه طه حسين الطالب بالجامعة.

أفكان الطالب طه حسين يرشح نفسه من يومئذ ليكون أستاذ الأدب بالجامعة، فنفس على الرافعي أن يؤلف كتاباً في تاريخ آداب العرب فكتب ينقد كتابه ويقرر أنه لم يفهمه، ثم يقررها ثانية في نقد (حديث القمر) وثالثة في (رسائل الأحزان)؟

الحق أن الرافعي كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة منذ أنشئت الجامعة، وقد كشف عن رغبته هذه في مقاليه الأول والثاني بالجريدة؛ ولكن طه يومئذ كان طالباً في الجامعة، فمن الإسراف في المزاح أن ننسب ما كان بينهما من بعدُ إلى النفاسة أو المنافسة على كرسي الآداب في الجامعة! ولكنه صدر من تاريخ هذه الخصومة الأدبية له قدره في هذا الفصل فلابد من الإشارة إليه

ونفخت السياسة الأسبوعية في الأدب روحاً جديدة، واتخذت لها أسلوباً في الدين وفي العلم وفي الأدب، قال عنه جماعة من الأدباء: إنه إلحاد وكفر وضلال. وقالت طائفة: إنه المذهب الجديد في الدين والعلم والأدب. ثم مضت السياسة بما تكتب وبما تفسح من صدرها للكتاب، تقسم الأدباء إلى فرق ومعكسرات، وقديم وجديد، ورفعت في الجهاد راية. . .

والرافعي رجل - كان - فيه عصبية للدين، وعصبية للقديم؛ فأيقن منذ قرأ العدد الأول من السياسة الأسبوعية أن سيكون له شأن مع السياسة وكتاب السياسة في غد. . .

ونال الرافعي رشاش من بعض المعارك وإنه لبعيد عن الميدان، فأحس في نفسه رغبة في الكفاح فتحفز للوثبة. . .

ودسّ كلمةً إلى طه يذم أسلوبه بما يشبه المدح، ويعيب عليه التكرار وضيق الفكرة، فنشرها طه في السياسة قبل أن يستبين مغزاها وما ترمي إليه. . . ثم عرف. . .

وتهيأت أسباب الحرب ولم يبدأ أحدٌ بالعدوان. . وتربّص الرجلان في انتظار السبب المباشر لبدء المعركة. . .

ثم أصدر الرافعي رسائل الأحزان، فسعى راجلاً إلى دار السياسة ليهدي إليها كتابه. وهناك التقى الرافعي وطه حسين وجها لوجه. . . ونظر الرافعي إلى طه، واستمع طه إلى حديث الرافعي، وتصافح الخصمان قبل أن يصعدا إلى حلبة المصارعة، ونفخ الدكتور هيكل بك في صفارة الحكم، وبدأت المعركة. وكانت مشادة حادة خرج الرافعي يتحدث عنها وصمت طه

لمن يا ترى كانت الغلبة؟ الرافعي يقول: أنا. . . ولكن طه لا يتكلم، والدكتور هيكل ضنين بالحديث

ومضت فترة، ثم نشر طه حسين رأيه في رسائل الأحزان في السياسة الأسبوعية، فرفع راية العداء وأعلن الحرب. ورد الرافعي يقول:

يسلِّم عليك المتنبي ويقول لك:

وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم!

ثم مضى في رده يهزأ ويسخر ويتجنى ويتحدى، في مقال طويل تقرؤه في ص 109 - 122 من كتاب المعركة؛ وطارت الشرارة الأولى، فاندلعت ألسنة النار فما خمدت حتى أحدثت أزمة وزارية، وأنشأت جفوةً بين سعد وعدلي، وأوشكت أن تؤدي بعلي ماهر إلى المحاكمة، وهزّت دوائر البرلمان، ثم انتهت في النيابة العمومية. . .

وفي الأسبوع المقبل بقية الحديث عما كان

(شبرا)

محمد سعيد العريان