انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 233/أبو إسحاق الصابي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 233/أبو إسحاق الصابي

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1937



للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

- 2 -

لعل أبا اسحق الصابي أصدق مثل يضرب لمن يماري في وجوب نزول الآباء على إرادة الأبناء فيما يحبون من فروع العلوم أو ينزعون إليه من آفنان الفنون، وأن خير ما يؤخذ به المتعلم هو الرغبة الحافزة لا الرهبة القاسية، إذ لا يرتجي كثير نجاح في قسر الأبناء على علم بعينه يريده الآباء، ولا أخذهم بدراسة مخصصة لا يبغيها أولئك ويحتمها هؤلاء، فإن ذلك قاتل لملكاتهم رافع بهم إلى الاستيئاس من النجاح، أو على الأقل الأدنى نازع بهم إلى القصور في كل علم، والتقصير فيما لا يميلون إليه من الفن، وضارب بهم في مهامه لا يعرفون وجه المحجة فيها، وموقع بهم في مفاوز إن نجوا منها فبعد لأي وعناء؛ ولاسيما متى كان ذكاؤهم محدوداً ونبوغهم قاصراً. ورضى الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث يقول: (لا تقسروا أبناءكم على آدابكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) وإذا كان رضوان الله عليه قد قصد بالتأديب معناه الأخص فهو على وجه العموم أولى، وبشموله كل أدب أجدى

دفعني إلى تلك التقدمة أني رجل تربية من واجبي تنبيه الأذهان إلى ترك الحرية العلمية للتلميذ ينهج فيها نهجه الذي يحبه. فلقد حاول أبو الحسن والد إبراهيم الصابي تعليمه منذ نشأته صناعة الطب وحذق الحكمة سيرا على سنن آبائه ونهجا على منهج أسلافه، إذ كان جلهم رجال طب وحكمة. وبذل في سبيل ذلك غاية الجهد، وجهد لتنفيذ أربته إلى أقصى غاية، وقد وجد من ابنه سميعاً ومن إبراهيم مطيعاً، لا عن رغبة وحب، بل عن رهبة وأدب، وقسر وزجر. ولو غير أبي إسحاق لرمى بكلام أبيه عرض الأفق، ولكنه كان باراً بأبيه عالماً بواجبات الأبوة لا يعصى له أمراً وإن جاء قاسياً، ولا يخالف له رأياً وإن بدا له رأياً خاطئاً، وإن هذه النزعة فيه نزعة البر والحدب والحب والولاء ليعبر عنها شعره تعبيراً قوي الأسر صادق النزعة، فهو أي أن الإنسان بعد فقد والديه ليس شيئاً مذكوراً، وأنه يعيش في الدنيا غريباً، لأنه لا يجد فؤاداً يحنو عليه ولا عيناً ترمقه، وأنه يعيش - متى كان حي الوجدان - جنيب صفاء وأليف شقاء، فمن هذا قوله: أسرة المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياة تطيب

فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب

ولا يختلف شأنه مع أبنائه عن شانه مع والديه، فإنه ليعطف عليهم عطف الأم الرءوم لا الأب الرحيم، ويتجاوز عن جرائرهم ويجعل هفواتهم دبر أذنه، حتى لا تقع عليهم لعنة الله ولا تحق فيهم كلمته؛ شأن الأب الكريم، وشيمة الرجل الحليم الحكيم. وهو إذ يتحدث عن ذلك يتحدث في زهو، ويقصه في فخر معلما أولئك الآباء القساة طرائق في التربية تسعدهم وتسعد أبناءهم، ومتى أغنت النظرة فلا حاجة إلى الكلمة، وفي مثل ذلك يقول:

أرضى عن ابني إذا ما عقني حذَرا ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي

ولست أدري بما استحققت من ولدي ... أقذاء عيني وقد أقررت عين أبي

واستمع إليه يرد على رسالة وردته من ابنه أبي علي المحسّن كان قد كتبه تسلية له في إحدى نكباته، وجاء في رسالة أبي علي هذان البيتان:

لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللُّهى عوض

إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعْت ... يداك من تالد أو طارف عَرَض

فكتب تلك الأبيات التي أحسبها من حبات قلبه نسيجها، ومن عبرات عينيه نظيمها، فكل حرف شفقة وعطف، وكل كلمة بر ورحمة، قال:

يا درة أنا من دون الردى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض

قد قلت للدهر قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشب إخلاصها مرض

دع المحسّن يحيا فهو جوهرة ... جواهر الأرض طرا عندها عرض

فالنفس لي عوض عما أصبتُ به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض

أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض

فلا غرو إذا ما نزل، وهذا خلقه وتلك شيمه، على أمر أبيه كارهاً، وأطاعه تكلفاً، وجامله فيما كلفه إياه مصانعاً، فتعلم الطب مخلصاً في تعلمه، وإن لم ينته عن التعرض لما تصبو إليه نفسه، ويرغب فيه طبعه، فكان يزاول في أوقات خلوته وسويعات فراغه من كتب الحكمة - أشتات علوم اللغة والأدب وما إليهما، فإن علم أبوه ذلك عنه نهاه وزجره، حتى يأخذ فيما يؤهله له، ولا يصرف وقته فيما لا غناء فيه في نظره. وأجدر بي أن أسوق حديث أبي إسحاق عن نفسه في هذا الموقف، فإنه يقول: (كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبا قراءة كتب الطب والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في (البيمارستان) عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب؛ وكان إذا أحس بهذا مني يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة أسلافك. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغاً، قد تأنق منشئه وتغارب. فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يديّ إلى كاتب لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه. قال: فمضيت وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه قال: يا بني سبحان الله! ما أفضل هذا الرجل وأبلغه! فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبلني بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض فكن كاتباً

ومن ذلك اليوم هجر أبو إسحاق الطب إلى الأدب وقلى الحكمة ليواصل اللغة، فكان كاتباً أريباً وشاعراً مجيداً، جرى اسمه في كل مجلس، سواء في ذلك مجالس الأنس والنحس، وحلق في كل أفق لا يبالي أكان الأفق ساطعاً أم ملبداً، وبرع في كل فن حتى صار ملء الأسماع ومهبط الآماق؛ ولله در واصفه إذ يقول:

أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاقِ

صوب البلاغة والحلاوة والحجا ... ذوب البراعة سلوة العشاق

طوراً كما رق النسيم وتارة ... يحكى لنا الأطواق في الأعناق

لا يبلغ البلغاء شأو مبرز ... كتبت بدائعه على الأحداق

وإن أدبه - كما يقول معاصروه - لسلوة الحزين، وشفاء الكليم، وأنيس المسافر والمقيم، وسمير الصديق والحميم، مما يدل على أنه كان أمة عصره ونابغة دهره، يشهد له بذلك البعيد والقريب، والعدو والحبيب، ولن أبلغ في وصف أدبه الغاية كما بلغ لداته، فهذا أحدهم يقول: يا بؤس من يمني بدمع ساجم ... يهمي على حجب الفؤاد الواجم

لولا تعلله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعر كشاجم

ولكنه لبؤس حاله ونكد طالعه نشأ في عصر أفعم بالفتن، فسياسته مختلة، ورياسته معتلة، والخلافة اسم ليس له مسمى، ورسم لا حقيقة، وملوك الديلم تتأرث بينهم الأحقاد، وتحاك الدسائس وتفشو الفتن، والرجل ذو المروءة لا يسلم روحيّاً وحسيّاً، فإما النفاق فيسخر ضميره لكل حاكم، ويكتب بكل قلم، ويأكل على كل مائدة، ويمنح عقله كل راغب، ويعطي لسانه كل خاطب؛ وإلا فالمحابس مفتحة، والسلب والنهب أيسر عقاب. ولقد كان إبان شبابه قبل أن تستشري الفتن، ويتنزى الاضطراب وتتأصل في النفوس السخائم، يتسامى ويتصاعد، وجده يتعالى ويتماجد، حتى صار من العظماء الممدوحين لا من الأدباء المادحين، فسعى إلى أبي الطيب المتنبي راغباً إليه أن يمدحه بقصيدتين ولا يمنعه رفده، أو يقطع عنه سيبه بل يرفده بخمسة آلاف درهم، فبعث إليه المتنبي قائلاً: (والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليَّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يقصد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك مالاً، ولا عن شعري عوضاً؛ فتنبه إلى موضع خطئه ولم يعاوده بعدئذ. وإن دلنا ذلك الحديث الذي رويناه عن ياقوت على شيء فإنه يدل على سمو نفسه واعتزازه بقدره، فمن أسمى من ممدوح المتنبي؟ كما يدل على علو منزلته لدى أبي الطيب، وعلى أن هذا كان شديد الإخلاص وفير الوفاء لصداقته، فلو قد فعل دون تحذير أو تنبيه لبكرت عليه النكبات، ولفقد ولياً طالما بذل له رفده، ولعب على ضوء وده

وكان لذيوع اسمه بين الكتاب والشعراء موجدة إن نأى ومحبة إن دنا في نفوس الملوك والوزراء، وما أكثرهم في ذلك العصر، فهو إن أخلص لهذا عوقب، وإن والى ذلك عوتب، وإن لزم الحيدة أنب، وإن أعلن عن رأيه أدب، فهو ملوم في كل حال، مستحق العقوبة في كل زمان ومكان، فكان نزيل السجن مسلوب الوفر، وهذا ما جناه على نفسه. فلو أنه أطاع أباه وانصرف إلى الطب لعاش سعيداً ومات سعيدا، ولكنه تنكب الطريق السوي فكان من أمره ما سنفصله في مقال تال عبد العظيم علي قناوي