مجلة الرسالة/العدد 224/بين العلم والأدب
مجلة الرسالة/العدد 224/بين العلم والأدب
للأستاذ عبد الكريم الناصري
قرأت في العدد (219) من (الرسالة) الغراء مقالة للأستاذ علي الطنطاوي يقارن فيها بين العلم والأدب، ويفاضل بينهما، ويقضي في أمرهما؛ فوجدته (لم يدع مذمة إلا ألحقها) بالعلم، (ولم يترك مزية إلا نحلها) الأدب، كأنما (الأمر قد انتهى والقضية قد فصلت) وحكم للأدب على العلم (فلم أدر متى كانت هذه المنافرة، وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل العلم حتى أخزاه الله على يديه، وأذله به؟)
والذي لاحظته على الأستاذ وعجبت له أن يتوسع في مفهوم الأدب توسعاً كثيراً، بينما يبخل بذلك على العلم ويضيق معناه كل التضييق؛ فهو يقول: (إن الأدب ضرورة للبشر ضرورة الهواء) (لأن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب) ولكنها (عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما هو إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً). . . وذلك لأن الأدب بمعناه الواسع يشمل (كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه) فكل (من يعني بالجمال ويتذوقه، بل كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحس باللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية، فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً). . . أما العلم فهو هذا العلم المنظم الطرائق المقرر الأصول، هذا العلم الذي ولد أمس، علم نيوتن ودارون وإينشتين!!
كلا يا سيدي، ما هكذا تقام الموازنات، ولا هكذا تعقد المفاضلات. فإذا كنت قد توسعت في معنى الأدب كل هذا التوسع، حتى جعلته مجرد الإحساس والشعور، فمن العدل والإنصاف أن تتوسع في معنى العلم أيضاً، فتجعله مجرد التفكير والمحاكمة العقلية، فبغير ذلك لا تكون لموازنتك ولا لمفاضلتك قيمة أو معنى، لأن الأصل في المقارنة بين شيئين أن يكون أساسهما مشتركا. . .
فالعلم بمعناه الواسع قديم قدم العقل، لا (طفل ولد أمس) والمحاكمة العقلية - أي العلم - هي الفارق بيننا وبين العجماوات، فيكون العلم - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية، فمن لم يكن عالماً لم يكن إنساناً. . . أليس كذلك؟
(إن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى) كما يقول الكاتب: (كلمة الحب، لمك الغريزة من نفسه). . .
وهذا صحيح، فإن الأدب - في أعمق معانيه وأصدقها - تعبير عن الغرائز الحيوانية والبشرية؛ وقد بدأ الأدب منذ قال (الأديب الأول) ما قال (للأديبة الأولى) وكان من نتيجة اشتغالهما بالأدب واهتمامهما به، أن أخرجا مما كانا فيه، وهبطا إلى هذه الدنيا - مما يدل على أن شؤم الأدب على أصحابه بدأ منذ ذلك العهد - ثم أستمر بعدهما القتل والتخريب واتباع الغرائز وإطاعة الشهوات، وأستمر الأدب يصور ذلك كله، ويعبر عنه وينبه إليه، ويقويه في الأذهان، ويحييه في النفوس، ولولا العلم والعقل وسنه القوانين والأنظمة للجماعات، ووقفه الأفراد عند حدهم، وحده من شرتهم، لعم البلاء وعظم الخطب، ولفسدت الأرض ومن عليها!
يقول الأستاذ علي: (إن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً) بينما (لم يستغن أحد عن الأدب ولم يعش إلا به)
وهو في هذا القول أيضاً يقصد بالأدب المعنى الواسع الذي وضعه له، ويقصد بالعلم المعنى الضيق الذي ارتضاه له. . . ولقد بينا خطأ هذا القول، وبينا أن (الفصيلة البشرية) تتميز بالمحاكمة العقلية عن بقية الحيوانات، وأن من غير الممكن أن تتصور إنساناً بغيرها، أي بغير علم.
فإذا أردنا أن نجد، أي نقصد بالعلم والأدب معنيهما العاديين، وجدنا أن كثيراً جداً من الناس يستغنون عن الأدب، وليس لديهم خيال الأدباء، ولا سمو مشاعرهم ومثلهم، بينما نجد سوادهم الأعظم لا يستغنون عن العلم، ونتائجه، ومن وسائل المواصلات، إلى وسائل التسلية والترويح عن النفس، إلى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصر؛ كما أننا نجد هذا السواد الأعظم يفكرون تفكيراً علمياً. أجل، يفكرون كما يفكر ميليكان وجيمس جينس واينشتين. . . فان منطق العامة ومنطق العلماء واحد في (النوع) وإنما الاختلاف في (الدرجة). وهذه الحقيقة تخفي على الكثيرين، وإن كانت من بسائط علم المنطق الحديث، بل إن منطق العلماء موجود عند البشر جميعاً، لأن (الاستقراء) و (الاستنتاج) هما الميزتان اللتان تميزان العقل البشري عن سائر الحيوانات. والغسالة، كما يقول هكسلي، تستخدم في اكتشاف أن البقعة التي على الثوب هي بقعة حبر، عين المنطق الذي استخدم في اكتشاف السيار نبتيون.
أما سؤال الكاتب: (هل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء، أو أحس الحاجة إلى النظر فيها؟) فانه غريب حقاً. وما كنت أنتظره مطلقاً من الأستاذ الطنطاوي. . . فهل بلغك يا أخي أن بول فاليري، أمير شعراء فرنسا، كان عالماً رياضياً قبل أن يكون شاعراً، وأن جوتيه، أعظم شعراء الدنيا بعد شكسبير، كان عالماً بيولوجياً قبل أن يكون شاعراً، وأن هـ. جـ. ولز، عميد أدباء الإنجليز، كان أستاذاً في الجيلوجيا، وأن أشتغاله بهذا العلم لا يزال إلى اليوم يطبع أدبه وتكهناته وتنبؤاته؟؟ ماذا تريد بعد هؤلاء الجبابرة من أمثلة؟؟
الأدب لا يستطيع بحال من الأحوال أن يستقل عن العلم، والقول باستقلاله خطأ شائع يجب تصحيحه. . .
يقول الشاعر العظيم وردزورث: (إن الأشياء التي يستطيع الشاعر أن يستمد منها ويستوحيها موجودة في كل مكان) وإن (عيني الإنسان وسائر حواسه وإن كانت لا ريب خير مرشد له وهاد، فإنه يسير في كل طريق ويتبع كل جو يستفز مشاعره ويستثير أخيلته، ويستطيع أن يحرك فيه أجنحته)
ويقول وليم هنري هدسن المحاضر السابق بجامعة لندن: (نستطيع أن نقول إن الشاعر العظيم حقاً هو مفكر عظيم في الوقت نفسه. وهو لذلك لا بد أن يهتم، ويتأثر باكتشافات العلم المتفرقة وبقضاياه ومساجلاته، أو على الأقل بالحركات الفكرية التي تثيرها هذه. إن معارف العصر الجديدة، وكل ما تحدثه من التغيرات في معتقدات الناس الموروثة وآرائهم التقليدية في النظام الكوني وعلاقاتهم به، وكل ما تقدمه لهم وتضعه أمامهم من المشاكل والمسائل، لا محالة تسحره جوانبها العاطفية والروحية سحراً لا يقاوم؛ ثم أن ما يتراءى وراءها من خير للبشرية ومطامحها وآمالها أو من شرور، لا بد أن يسترعي التفاته ويستدعي اهتمامه. وعلى فرض أنه لا يتخذ موضوعات تأمله المباشر، فإنها تدخل إلى شعره من مسالك خفية لا تعد ولا تحصى، فتلونه بلونها وتطبعه بطابعها، كما تدخل في تفكير عصره الجاري فتلونه بلونها وتطبعه بطابعها إذن فبعيد كل البعد عن الحق أن الشاعر لا صلة له بالعلم ومعارفه، بل هو على الضد من ذلك، لا يستطيع مطلقاً أن يتجاهل نتائجها الكبيرة تجاهلاً تاماً، وإذا كان من ذوي العقول الفلسفية فإنه يجد الاطلاع عليها ومحاربتها فيما يتصل منها بكل مسألة ومصلحة تعود إلى حياة الإنسان العليا واجباً عليه وفرضاً). . . (إن استنباط العواطف والأحاسيس من المعرفة العلمية - عملية بطيئة حتما؛ ولكن من مقاييس عظمة الشاعر كمفكر أن يقدر على أن يرى إمكان الاستنباط وعلى أن يساعد - بإدراكه المعاني الروحية للحقائق العلمية - على تتميمها وتكميلها)
ويدع الكاتب تفريقه (الفلسفي)، ويفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية. فيقول: (إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل، أما الأدب فيتكئ على الخيال، ثم ينظر في العقل والخيال: أيهما أعم في البشر وأظهر؟. . فيرى أنه الخيال (من غير شك) بل إن هذا الخيال ليمتد إلى صميم الحياة العلمية، فالعلم إذن (مدين للخيال أي للأدب)
ولكن من المبادئ الأولية في الأدب أن (التفكير) عنصر من عناصره الرئيسية الأربعة. فالأدب إذن يستند إلى العقل أيضاً. ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن مسرحية (أهل الكهف) كلها خيال؟!!
فإذا كان العلم مديناً للخيال أي الأدب، فالأدب مدين للعقل أي للعلم. والنتيجة أن ليس هنالك تفاضل، ولا دائن ومدين. . . أليس كذلك؟!
أما أن الخيال أعم في البشر من العقل وأظهر، فغير صحيح والأدلة والأمثلة التي جاء بها الأستاذ لا تثبت أن من الناس من يملكون خيالاً ولا يملكون عقلاً، ليقال إن الخيال أعم من العقل، ولا أثبتت أن الذين يملكون خيالاً واسعاً أكثر من الذين يملكون عقلاً قوياً، ليقال إن الخيال أبرز في البشرية وأظهر نعم (ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال). ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال العقل، وإذا كانت عقول بعض الناس (محدودة القوى) ومحاكاتهم العقلية ضعيفة، فإن خيال الكثيرين محدود القوى ضيق المجال أيضاً. وإذا لم يكن في الناس من يعجز عن (تخيل حرارة النار وامتداد ألسنة اللهب) فليس فيهم من لا يدرك أن اقتحام اللهب، والدخول في وسط النار، يحرق جسمه ويقضي عليه! وقولك إن كثيراً من الناس (لا يقدرون على استعمال العقل على وجهه) لا معنى له، لأن جميع الناس يستطيعون أن يستقروا ويستنتجوا، وإنما الاختلاف كما سبق القول في الدرجة والمقدار ولا أريد ههنا أن أبحث عن الصلة بين (العقل) والخيال؛ لأن المقام لا يتسع لذلك؛ ولأني أريد أن أساير الأستاذ في فروضه ونظرياته حتى يكون الرد. . . أوجز. ولكن لا مانع من أن أساله هذا السؤال: ما السر في قلة أدب القصص والخيال في الشرق عامة بالقياس إلى أدب المقالة والتفكير؟
ثم يقول الأستاذ علي: (أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب) (والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر وتغير دائم). (في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته) (ولا يعتريه تغيير ولا تبديل). فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
كلا هذين الرأيين مخطئان، ولننظر أولا في الرأي الثاني: فالأدب متغير متبدل دائماً. لأن الأدب يصدر عن الشخصية ويخاطب الشخصية، وبما أن شخصيات الناس تختلف، فكل شخص يفهم من قصيدة بعينها ما لا يفهمه شخص آخر؛ ومعنى ذلك أن الحقائق العاطفية والمعاني الروحية التي أراد الشاعر أن يوصلها إلى نفس القارئ قد ضاعت وزالت، وبتعبير أدق، قد تحولت إلى ملايين من الحقائق والمعاني. وهذا هو السبب في اختلاف النقاد على الأثر الأدبي الواحد. بل إن الشاعر نفسه قد يعجز بعد مضي زمن قصير أو طويل على استعادة معانيه العاطفية التي أودعها قصيدته. وإلى جانب هذه المعاني المتبدلة المتحولة تجد ما يحتويه (الكتاب العلمي الذي ألف منذ خمسين سنة) هي نفس حقائق الطبيعة، والذي لا (نقبله) منه اليوم هو نظرياته (كما سترى بعد قليل).
فإن قلت: إن المهم ههنا أني أقرأ اليوم الديوان الذي نظم منذ ألف سنة ولا أقبل الكتاب العلمي الذي كتب منذ خمسين سنة لأن ما في الأول من صفات القوة والجمال وسمو الموضوع هو الذي يبقيه ويخلده. كما أن نسخ النظريات و (القوانين) الجديدة لتلك التي سبقتها هو الذي يدعوني لرفض الثاني. قلت: هذه النظرة إلى بقاء الأدب أقبلها على تعارضها مع الحقيقة التي ذكرتها على تغيره، لأن غايتي من هذا المقال أن أدفع التهم التي ألصقتها بالعلم لا أن أبحث في الأدب أو أفاضل بينه وبين العلم فلننظر الآن في تغير العلم الدائم، والكتاب الذي (لا يقبله طالب ثانوي). . .
يتلخص عمل العلم في أنه يجمع مقداراً من الحقائق، ثم يحاول أن يضع لها قاعدة عامة تربطها وتفسرها جميعاً، على أن تنطبق كل ما يكشف من الحقائق بعد وضعها. فإذا أكتشف حقيقة أو أكثر لا تتفق معها عدل عنها إلى قاعدة أخرى، أعم وأشمل، وهكذا (يتدرج) العلم من قاعدة إلى قاعدة أوسع، أي تنطوي على حقائق أكثر. إن العلم لا يرى في هذه القواعد والنظريات والقوانين أكثر من (فروض). ولكن بهذه الفروض وحدها يستطيع أن يكشف الحقائق، لأن كل فرض ينبه إلى حقائق جديدة، ولأن العلماء حين يضعون فرضاً لا يكتفون به ولا يسكنون إليه، بل يجدون في البحث والملاحظة والاستقراء وابتكار الآلات واستنباط الوسائل التي تعينهم على الوصول إلى بيانات أوفى، وحقائق أكثر. وهذه تقابل مع الفرض الموضوع، فان تعارضت معه وضع فرض أشمل. إذن فوضع فرض جديد معناه كشف حقائق طبيعية جديدة - لا تغير في الحقائق السابقة - ومعناه أيضاً (تقدم) - لا تغير - من فرض إلى أخر أشمل.
ومن ذلك نستطيع أن نستنتج بسهولة أن الطالب الثانوي لا يرفض الكتاب الذي ألف منذ خمسين سنة، بل يقبله، ويقرؤه، ولكن النسخة التي بين يديه هي طبعة جديدة من ذلك الكتاب منقحة وموسعة. . .
وزيادة في توضيح المسألة أدع السر جيمس جينس يرد على الأستاذ الطنطاوي:
(إن الغرض العام للعلم هو أن يسير إلى مثل هذه النظريات ويصل إليها، ولا نستطيع مطلقاً أن نعتبر نظريةً ما نهائية أو حقيقةً مطلقة، إذ من المحتمل أن تظهر حقيقة جديدة ترغمنا على ترك هذه النظرية؛ وقد يحدث ذلك للنظرية النسبية ولو أنه بعيد الاحتمال؛ وإذا ما حدث ذلك برغم استبعاده فإن الوقت الذي أنفق في تكوينها لم يضع سدى، بل سيكون تدرجاً إلى نظرية أوسع وأكمل، تتفق مع عدد أكبر من الظواهر الطبيعية. من ذلك يظهر العلم للرجل العادي متغيراً دائم التغير دائراً حول نفسه مخالفاً لنظرياته الأولى، ولكن العالم يراه دائم التقدم، يرقى من نظرية إلى أخرى، تحظى كل نظرية منها باتفاقها مع حقائق تزيد على التي أزاحتها، ورائده الوصول إلى هدفه الأسمى وهو النظرية التي تفسر ظواهر الطبيعة الكاملة)
ثم ينظر الإنسان في نتائج العلم ويسأل: ما هي فائدة هذا العلم؟ وماذا نفع البشرية؟
يريد أن يقول: ما هي فائدة هذا العقل؟ والجواب على ذلك سهل ميسور. فالعقل لم يوجد إلا ليستخدمه الإنسان في الدفاع عن نفسه، والتغلب على أعدائه من الحيوان، وفي حفظ بقائه، وفي الرقي بحياته وتوفير أسباب سعادته بعد ذلك، ولولا هذه الغاية لما وجد أصلاً. . . ولقد جرب العقل الفلسفة فوجدها عاجزة كل العجز عن إبلاغه هذه الغاية، لأن الفلسفة كما لا يخفى عليك كلام في كلام؛ والكلام لا يستطيع أن يقتل حشرة، أو يهلك مكروباً، أو يصنع طيارة. لذلك تركها وأساليبها و (قيمها) وخرافاتها، وسلك هذا المهيع السوي، والطريق الواضح، طريق العلم. . . فلم يلبث حتى رأى نتائجه المحسوسة الباهرة. . . فالعلم إذن آخر مظهر من مظاهر الرقي العقلي، وآخر اتجاه اتجه إليه العقل. وليس من البعيد جداً أن يتفق العلم والفلسفة والدين على أية صورة من الصور، ولكن دوره سيظل هو هو لا يتغير ولا يتبدل ودوره هذا لا يقتصر على تخليص البشرية من جميع أعدائها ولا على إسعادها مادياً، فحسب، بل هو يشتمل على إسعادها فكرياً، وتلك هي غايته العليا
تقول: (إن الاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً) وهذا صحيح، أو هو صحيح إلى حد ما؛ والمفهوم منه أن أكثر الاختراعات خير، وإن لم تكن كلها خيراً؛ ولكنك لا تلبث حتى تنقضه بهذا التقرير (الحسابي) الحاسم، وهو أن العلم (شره بخيره والنتيجة صفر). . . صفر!!
وتقول: إن العلم (سهل المواصلات وهونها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟)
بالطبع والأدلة موجودة في السؤال. ولكنك ترى غير هذا الرأي، وتجيب جواباً لا صلة له البتة بالسؤال. فوسائل المواصلات الحديثة لم تسعد البشرية، ولماذا؟ لأننا لم نعد نتحمل آلام المسافات الطويلة، أو نتعرض لمخاوفها، فخسرنا الصور والمشاعر (وصرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً ونحن مغمضو عيوننا. . . لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق!). . . وهذا بالطبع دليل ساطع قاطع على أي وسائل المواصلات الحديثة لم (تسعد) البشرية. . . صحيح!!
ثم تقول إن العلم تغلب على كثير من الأمراض، ولكنه هو الذي جاء بها، جاءت بها الحضارة، (وهذه فكرة خاطئة عن صلة العلم بالحضارة، وليس هذا موضع بحثها) فهو لا يزال مديناً. . تقول هذا ناسياً ناحية مهمة، وهو أن الحكم على العلم وموقفه من الأمراض لا ينبغي أن يبنى على وضعه الحاضر فقط؛ فإذا كان العلم قد تغلب هذه المدة القصيرة على كثير من الأمراض واكتشف جراثيمها، وصنع السموم المضادة لها، فإنه سيتغلب عليها جميعاً، ويفني الجراثيم على أخرها، وكذلك يقضي على عدو آخر فظيع للبشرية، وهو الحشرات؛ وعندئذ تستريح البشرية وتسير قدماً إلى الأمام - وفي النجاح الذي أحرزه إلى اليوم خير مؤيد لما أقول. . .
إن هؤلاء البدو الذين يرفع من حياتهم الأستاذ علي سيتحضرون حتما؛ لأن التحضر يجري بحكم قانون طبيعي قاهر. وهؤلاء البدو ليسوا سعداء، كما يظن، لأنه لا يمكن أن يكون سعيداً من يفترس أخاه لقبضة من العشب، أو جرعة من الماء. ونحن يجب أن ننظر إلى فتوحات العرب نظرة اقتصادية قبل كل شيء. . .
ثم أن هنالك فرقاً بين سعادة وسعادة. وسعادة اينشتين حين يقع على حقيقة جديدة، ليست هي سعادة زنوج أفريقيا، أو بدو نجد، لأن سعادة الإنسان الراقية أعلى من سعادة الإنسانية المنحطة، وهذا الفرق يشبه تماماً الفرق بين الرواية البوليسية السخيفة وبين (هاملت) وبين (اللذة) التي يحصل عليها القارئ العامي من قراءة الأولى، وبين (اللذة) التي يحصل عليها المثقف من قراءة الثانية. فلننظر إلى طبيعة اللذة والسعادة قبل كل شيء.
عبد الكريم الناصري