مجلة الرسالة/العدد 224/الفلسفة الشرقية
مجلة الرسالة/العدد 224/الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 25 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - (لاهو - تسيه)
فلسفة العملية
يغالي بعض الباحثين حين يصف (لاهو - تسيه) بأنه ميتافيزيكي فحسب ولا شأن له بالفلسفة العملية أو الأخلاق كما يصف (كونفيشيوس) بأنه عملي لا يأبه للميتافيزيكا، وإنما الحقيقة أن لكل منهما رأياً قيما في الأخلاق، وهذا طبيعي، لنهما اغترفا من منبع واحد، وهو فلسفة عصر ما قبل التاريخ، ولكن الخلاف قد دب بينهما حول الوسيلة التي توصل إلى الخير والكمال، فبينما كان (لاهو - تسيه) يرى أنها التنسك واحتقار المادة وإهمال الحياة العملية وعدم الإكثار من القوانين، ويرى أن عصر الأباطرة الذين شرعوا القوانين واللوائح كان عصر تدهور وانحلال تلا العصر الذهبي الذي كان الملوك فيه لا يعرفون القوانين، ولا يهتمون بالعقاب، كان (كونفيشيوس) على العكس من ذلك يرى أن العصر الذهبي هو عصر أولئك الملوك الذين قننوا القوانين ووضعوا القواعد التشريعية، ولهذا كان يتخذهم نماذج يسير على مناولهم. وإذن، فالاثنان أخلاقيان يريدان الكمال والسعادة للأمة، وإنما يختلفان في الوسيلة فحسب، وقد شرح (لاهو - تسيه) رأيه في الأخلاق العملية فقال ما نصه: (بقدر ما يكثر الملك من القوانين واللوائح، يهوى الشعب في البأساء؛ وبقدر ما يكون لدى الشعب من وسائل الغنى والرفهنية، تكون حالة الأسرة والوطن رديئة؛ وبقدر ما تتضاعف الأوامر الشديدة يكون عدد اللصوص والمجرمين في نمو وتضاعف) وعلى الجملة، كان المثل الأعلى من الملوك في رأيه هو الملك الذي تجهل رعيته الوجود جهلاً تاماً
وعنده أن المعرفة الظاهرية رديئة، لأنها لا توصل إلا إلى حقائق نسبية، ومن حيث إن الغاية المقصودة هي الحقيقة المطلقة في ذاتها، فينبغي ألا ننشغل إلا بما يوصل إلى هذه الحقيقة، ولا يوصل إليها إلا الاتحاد التام، والامتزاج الكامل بـ (تاو) ولا يتيسر هذا الامتزاج بالتربية ولا بالتثقيف الظاهري، كلا، فهاتان الوسيلتان معدومتان الفائدة، وإنما هو يتحقق بالعزلة التامة ولذلك فالقديسون الذين يريدون الاتصال بـ (تاو) واتباع الصراط السوي، يجب عليهم أن ينبذوا كل ثقافة وينسحبوا إلى مكان مقفر ويعيشوا كما كان أهل العصور الغابرة يعيشون ممتزجين بالقوة غير المرئية، وهو يصف هذه الحالة فيقول: يكون خائفاً كمن يختلق سيلا في الشتاء، متردداً كمن يخشى أن يراه جيرانه، جدياً كأجنبي في محضر ضائفه، بارداً كالثلج حين يتحلل، جافاً كالخشب الخام، فارغاً كالوادي، وفي العموم أن المثل الأعلى للخيرية في رأي الفيلسوف هو الطفل الذي يولد على الفطرة بريئاً نقياً، وأن الوسائل التي توصل إلى الكمال هي: الحياء والضعف والبساطة و (الؤووي) ومعناه العزلة والتخلي عن كل عمل، وسلوك الصراط السوي
غير أن هذا كله ليس معناه أن (لاهو - تسيه) قد أمر بإهمال المسئولية الاجتماعية، كلا، بل هو قد حض بالعكس على العناية بالجمعية البشرية، وأعلن أن الأنانية وإهمال خدمة العمران من الرذائل الكبرى وقد سبقت تعاليمه الآمرة بالغيرية والمحبة العامة تعاليم المسيحية بنحو ستة قرون، ولم يكن تبشير (لاهو - تسيه) بحب الغير ناشئاً عن عاطفة، وإنما كان منبثقاً من منبع الواجب والالتزام اللذين كانا يملكان عليه تفكيره وحواسه وعنده أن القديس هو الذي يحكم الشعب ويسوسه، ولكن لا بالقوة والقسوة، بل بالمثل الأعلى الذي يقدمه مثبتاً به أنه فوق الطبيعة، وأنه لا يحكم شعبه بالقوانين والعقوبات، ولا يخضع الشعوب الأخرى بالحروب، وإنما يعامل الجميع ببساطة الطفل وطهارته؛ هذا هو وحده الأمير الذي تنتظره الصين وتعول عليه في محنتها
أحسب أنك ترى بعد كل هذا معي ومع الأستاذ (زانكير) أن (لاهو - تسيه) كان فيلسوفاً لا تنزل به عبقريته إلى ما هو أدنى من صفوف أفلاطون والقديس (أوجوستان) و (كانت) وأنه إذا كان قد أخفق أو ضل السبيل في بعض أفكاره، فإن التبعة في ذلك واقعة على التدهور الذي كان ميزة عصره وخاصيته، وإذا لم يكن مذهبه قد أزهر فيما بعد كما أزهرت مذاهب الإغريق، فإن لذلك سببين: الأول أنه لم ينشئ في حياته مدرسة لنشر فلسفته، والسبب الثاني أن الطبيعة الصينية لم تكن تتلاءم مع تعاليمه المغالية في التنسك والسلبية، وهذا لم تكد فلسفته تعرف في أوربا حتى أزهرت في البيئات الاشراقية إزهاراً لم تعرف له نظيراً في منبتها الأصلي
(التاوايسم) أو (اللاهو - تسيه)
بعد أن توفي (لاهو - تسيه) نشأ من ميتافيزيكيته مذهبان: (التاوإيسم) الفلسفي و (التاوإيسم الديني)، وكلاهما نشأ من (تاو) وهو عنوان كتابه الذي أشرنا إليه. فأما (التاوايسم) الفلسفي فقد أنقسم فيه تلاميذ الحكيم إلى عدة أقسام، فبعضهم تخصص في دراسة المعرفة وما يمكن أن يحصله الإنسان منها، وهل هذا المتحصل مفيد أو غير مفيد. والبعض الأخر قصر بحثه على دراسة الظواهر الطبيعية وما تحتويه من أسرار، ولكن لما كان الجميع متأثرين برأي أستاذهم الذي أسلفناه، وهو القائل بأن (التاو) غير قابل للمدركية البشرية، فقد كان من الطبيعي أن يعلنوا أن العقل الإنساني قاصر على إدراك (المطلق) وبالتالي هو قاصر عن إدراك بعض الحقائق الموجودة
هناك فريق ثالث من تلاميذ هذا الحكيم لما يئسوا من إدراك العقل البشري لكنه (التاو) لم يجدوا أبداً من أن يعلنوا أن ما لم يدرك بالعقل، يدرك بوساطة السحر؛ وهنا نشأ مذهب (التاوإسيم) الديني وهو مزيج من قواعد سحرية، وتعاليم تصوفية، ولما كان هذا القسم الأخير لا يعنينا كثيراً في دراستنا الحاضرة فقد آثرنا أن نقصر إشارتنا هنا على (التاوايسم) الفلسفي ومن أشهر أولئك التلاميذ الذين أحيوا مذهب أستاذهم بعد موته وواصلوا سلسلة بحوثه هو (بين - سي) الذي سار على ضوء تعاليم أستاذه فكتب بحوثاً قيمة حول نظرية المعرفة ونقد العقل البشري وأبان قصوره عن إدراك (المطلق) ومن مشاهير هؤلاء التلاميذ أيضاً (لين - تسيه) الذي كان من أعلام عصره الإجلاء والذي كتب بحوثاً هامة حول كثير من المشاكل الفلسفية، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن ما عثر عليه من مؤلفاته وجد مشوهاً متناقضاً مما يدل على أن بعض الأيدي قد عبثت به وقد عاش هذا الحكيم في القرن الخامس قبل المسيح.
هناك حكيم آخر من أولئك التلاميذ، وهو: (تشوانج - تسيه) الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع قبل المسيح وعاصر (مانسيوس) الذي سنتناوله بعد أستاذه (كونفيشيوس)
يروي لنا المؤرخون إن هذا الحكيم شغل في مطلع شبابه مركزاً سياسياً هاماً، ولكنه لم يكد ينضج حتى عاف السياسة واعتزل الخدمة وقصر حياته على البحث والتأليف، وفي أثناء ذلك بلغت كفايته مسمع الملك، فبعث إليه رسوله بهدية عظيمة وطلب إليه أن يقبل منصب وزير في الدولة، فلما عرض عليه الرسول ذلك أجابه بقوله: إن هذا المبلغ عظيم إذا قيس إلى حالتي وإن منصب الوزير منصب محسود، ولكن ألم تر في حياتك أن الثور الذي خصص للذبح في أحد المعابد ثم أخذوا يطعمونه حتى سمن ثم أحاطوا جسمه قبل ذهابه إلى المذبح بالحلي والمجوهرات ليكون منظره جميلا، ألم تر أن هذا الثور ساعة دخوله إلى المعبد يتمنى أن لو كان خنزيراً صغيراً حتى يعفى من الذبح، ولكن هذا التمني لا يجديه فتيلا؟ أذهب إذن من هنا ولا تهني بمحضرك فأنا أفضل أن أنام في قناة حمئة مليئة بالأوحال على أن أذعن لتقاليد البلاط والتزاماته.
ويحدثوننا كذلك أن هذا الإفراط في التمسك بالكرامة والمحافظة على حرية الرأي قد جر عليه حياة مليئة بالصعوبات والأشواك، ولكنها مليئة كذلك بالاحترام، والإجلال إلى حد أن روت لنا إحدى الأساطير أن أخرى زوجاته من كانت الأسرة المالكة
مؤلفاته ومذهبه
روى التاريخ أن هذا الحكيم قد كتب ثلاثة وثلاثين كتاباً وأن هذه الكتب كلها قد جمعت تحت عنوان واحد وهو: (المناهج الحقيقية لزهور بلاد الجنوب) ولكن المدققين من المؤرخين يرون أنه لم يثبت له شخصياً إلا نحو عشرة كتب كتبها بخطه؛ أما الباقي فهو مجموعة مكونة من آرائه وآثاره مع شروح وتعاليق تلاميذه.
أما مذهبه فيمكن أن يدرس من ثلاث نواح: الناحية الأولى النظرية؛ وفيها لم يكن يختلف عن أستاذه (لاهو - تسيه) في شيء، إذ هو يرى معه أن العقلية البشرية قاصرة عن إدراك (التاو) بواسطة المعرفة الثقافية التي لا تتناول إلا الحقائق النسبية أما (المطلق) فهو لا يعرف إلا عن طريق الانفعال النفساني، وإن كل محاولة لمعرفة هذا (المطلق) عن طريق التفكير المنطقي آيلة ضرورة إلى الفشل المحقق بعد أن تقود صاحبها إلى صحراء قاحلة من السفسطة والضلال، لأن المنطق لا يصل إلى نتائجه إلا بالتحليل؛ ولو أصبح تحليل (المطلق) ممكناً، لخرج عن كونه (مطلقا)
أما الناحية العملية من مذهبه: فهي وإن كانت مؤسسة على الأصول الجوهرية من آراء (لاهو - تسيه) إلا أنها تطورت عن المذهب القديم كثيراً. ولإيضاح هذه الناحية العملية أجرى فيلسوفنا الشاعر محاورة بين روح السحاب وبين الضباب؛ ثم بسط مذهب على لسان الضباب فقال: (صير قلبك حازماً وتجنب كل تدخل في أي شيء؛ أي ألزم الـ (وو - وي) أو (اللاعمل) ودع الأشياء تتطور حسب ناموسها الطبيعي، ولا تأبه لجسمك وأغلق عينيك وأذنيك، وانس كل ما يربطك بالعالم الخارجي، وامتزج بالمبدأ الأول. فك وثاق قلبك، ومد روحك؛ وعد إلى عالم (اللا إدراك) فإذا تحقق ذلك رجع كل كائن إلى الصدر المبدئي العام، وعاد كل شيء إلى منشئه دون علم منه بهذه العودة واجتمع كل موجود، وتوحد الجميع كما كانت الحال في البدء، ولم يصبح كل كائن مريداً ولا قادراً على البعد عن هذه الوحدة المطلقة الأبدية)
ويعلق أحد المستصينين على هذا بقوله: ينبغي ألا يتسرب إلى الأذهان أن تنسك (شوانج - تسيه) كان نوعاً من الحرمان والرهبنة على نحو ما هو موجود في الديانات الهندية والمسيحية، كلا، فالحكيم في رأيه لا يستحق هذا الاسم إلا إذا ترفع عن جميع الآلام وتخلص منها وأخضعها لإرادته. أما متنسكو تلك الديانات فهم تحت الآلام لا فوقها، وهذا فرق عظيم يجب أن يعني به الباحثون
بهذا الفيلسوف تنتهي أرقى الحركات العقلية حول (التاوايسم) الفلسفي بعد أن أزهرت إبان القرنين: الخامس والرابع قبل المسيح إزهاراً ساعد عليه تعطش الشعب إلى السعادة والهدوء في وسط معمعان هذا التدهور السياسي والعمراني الذي أشرنا إليه آنفاً
هذا، وسندرس ما عرض له (التاوإيسم) من تطورات في العصور التاريخية التي تلت هذا العصر، ولكن بعد أن ننتهي من دراسة أعلام المذهب الآخر وهم: (كونفيشيوس) وأشياعه
(يتبع)
محمد غلاب