مجلة الرسالة/العدد 212/لمناسبة تتويج الفاروق
مجلة الرسالة/العدد 212/لمناسبة تتويج الفاروق
خواطر تاريخية ودستورية
عن رسوم التتويج والتولية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تستقبل مصر بعد يومين حادثاً من أعظم الحوادث في تاريخها الحديث هو الاحتفال (بتتويج) جلالة مليكها فاروق الأول، أو بالحري ببلوغ المليك رشده الدستوري وتوليه مقاليد الشئون. وافتتاح عهده السعيد في ظل الاستقلال والحريات الدستورية؛ ويلاحظ أن هذا الحادث الذي هو الأول من نوعه في تاريخنا الحديث. سوف ينشئ سابقة دستورية ينسج على منوالها، وسف يكون هو الحجر الأول في صرح تقاليد الملوكية المصرية الدستورية
ولقد كان للملوكية المصرية في عصور الاستقلال والمجد رسوم وتقاليد مؤثلة؛ وكانت رسوم البيعة والتولية من أعظمها وأعرقها، وكانت تتشح بألوان ساحرة من الفخامة والبهاء، وتعتبر من الحوادث القومية الجليلة؛ ولو لم تنكب مصر بمحنة الفتح العثماني في سنة 1517، وينهار بذلك صرح استقلالها وملوكيتها التالدة، لكان عرش مصر اليوم أقدم عروش العالم وأعرقها
فالحادث العظيم الذي تستقبله مصر في الغد يعتبر من الوجهة التاريخية ذا أهمية خاصة في تاريخها: أولاً لأنه يصل ماضي الملوكية المصرية المستقلة بحاضرها بعد أن انقطع سيرها زهاء أربعة قرون؛ وثانياً لأنه يفتتح عهد الملوكية الدستورية في عصر الاستقلال؛ وهذا المعنى التاريخي المزدوج هو الذي يسبغ على تتويج مليك مصر الشاب خطورة قومية ودستورية ذات شأن
وسوف تتخذ إجراءات التتويج هنا صفة رمزية معنوية، فليس هناك تتويج بالمعنى الحقيقي، وليس لمصر الحديثة تاج موروث أو آلات وأزياء ملوكية خاصة يتقلدها المليك عند توليته؛ وإنما هنالك إجراء دستوري خطير هو في الواقع أسمى مظهر يبدو به الملك الدستوري لأمته، وأقدس عهد يقطعه لها حين تقلده لأمورها؛ وهذا الإجراء هو أداء الملك لليمين التي نص عليها الدستور في مادته الخمسين، وذلك أمام البرلمان مجتمعاً بمجلسيه في هيئة مؤتمر ونصها: (أحلف بالله العظيم أني أحترم الدستور وقوانين الأمة المصرية وأحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه)؛ وسيتلو هذا الإجراء الخطير عدة حفلات واستقبالات عظيمة يتاح فيه للأمة أن تبدي عميق حبها وولائها لمليكها، ويستعرض فيها الجيش المصري الذي تؤمل مصر أن يستعيد في المستقبل القريب مجده العسكري التالد، ويغدو حصنها المكين، وحامي حمى استقلالها وذمارها
وإذا كان (تتويج) الفاروق سيقتصر على ثلاثة إجراءات ومظاهر رئيسية، هي أداء اليمين الدستورية يوم الخميس القادم، فأداء صلاة الجمعة في اليوم التالي في مسجد الرفاعي، ثم استعراض الجيش في اليوم الثالث؛ فإن هذا البرنامج على بساطته المؤثرة يحتوي جميع العناصر القومية والشعبية التي تأخذ بها جميع القصور والأمم العريقة، بل والتي عرفتها الملوكية المصرية في ظل الدولة الإسلامية؛ ذلك أن تبادل العهد بين العرش والأمة عن طريق اليمين الدستورية التي يؤديها جلالة الملك أمام ممثلي الأمة، والتي هي معقد رسوم التولية، ليست في الواقع إلا مظهراً جديداً من مظاهر نظام البيعة القديم تطور مع الزمن طبقاً لتطور الفكرة الدستورية؛ ففي العصور الوسطى كانت الخلافة أو العرش مصدر السلطات الروحية والزمنية، وكانت البيعة تعقد للخليفة أو صاحب العرش بهذه الصفة؛ أما اليوم فإن الأمة تغدو في ظل النظم الدستورية هي مصدر السلطات، ويغدو العرش رمزها الأسْمَى، وهي التي يدين لها الجميع بالولاء
أما التتويج بصورته الشكلية المعروفة عند ملوك النصرانية من وضع التاج على رأس الملك الجديد في حفل ديني على الأغلب فلم يتبع دائماً في الدولة المصرية الإسلامية، ولم يتبع إلا في دولة الخلفاء الفاطميين، فقد كان لخلفاء هذه الدولة ضمن آلات الملك تاج من الجوهر الثمين يعرف بالتاج الشريف وبه جوهرة عظيمة تعرف باليتيمة ومن حولها جواهر دونها، وله موظف خاص يوكل بوضعه على رأس الخليفة في المواكب والأيام العظام يعرف (بمتولي شد التاج). أما الدول التي تلتها كالدولة الأيوبية، ودولة المماليك البحرية، ثم دول السلاطين الشراكسة، فلم يكن التاج بين الآلات الملوكية التي اختصت بها، بل كان أهمها العرش (أو سرير الملك) وكان سلاطين هذه الدول يضعون على رؤوسهم أيام التولية طرحة سوداء مرقومة بالبياض، أو عمامة سوداء مرقومة بالبياض، تنويهاً بشعار الخلافة العباسية القديمة وهو السواد، وقد كانت هذه الدول تنضوي من الوجهة الروحية تحت لواء الخلافة العباسية الذاهبة، على أنه لم يكن سوى انضواء شكلي فقط
ثم إن الحفلات القومية التقليدية كانت في هذه المناسبات العظيمة تحتوي دائماً على العنصر العسكري، وعلى بعض المظاهر الدينية؛ فكانت مواكب الخلفاء في الدولة الفاطمية تمتاز بروعة عسكرية، وكان يحف بالخليفة الجديد وينتظم في ركبه صفوة القادة والضباط والجند في أثواب وأزياء باهرة، ويشق هذا الركب الخلافي العسكري الفخم مدينة القاهرة فيعرض على أنظار الشعب المعجب طرفاً من قوة الدولة والجيش؛ وكانت مواكب السلاطين فيما بعد تمتاز أيام التولية أيضاً بهذا الطابع العسكري الفخم؛ ومازال الطابع العسكري في عصرنا أعظم مظهر للمواكب المشهودة في أرقى الدول وأعظمها
أما المظاهر الدينية فقد كانت تتخذ مكانتها دائماً في المواكب الخلافية والسلطانية، وكانت في ظل الدولة الفاطمية أشد ظهوراً وتمكناً منها في أية دولة مصرية أخرى؛ ذلك لأن الدولة الفاطمية كانت خلافة مذهبية وكانت الإمامة الدينية شعارها، وكان الخليفة يجمع بين يديه جميع السلطات الدينية والزمنية؛ وكانت مواكب السلاطين تحتوي أيضاً مثل هذا الطابع الديني؛ بيد أنه يجب أن نفرق بين هذه المظاهر التي كانت تتفق من الوجهة الشكلية مع روح العصر، وبين مسألة أخرى هي مدى مثول العنصر الديني في تولية الخلفاء والسلاطين المصريين. وقد أثيرت هذه المسألة أخيراً لمناسبة تتويج جلالة الملك فاروق، ورأى بعضهم أن تجري إلى جانب الحفلة الدستورية حفلة دينية في أحد مساجد القاهرة يتلو فيها شيخ الأزهر على جلالته صيغاً معينة يجيب عنها جلالته بما يناسبها، فيكون هذا بمثابة تتويج ديني لجلالته إلى جانب التتويج المدني؛ وكانت حجة هؤلاء أن مصر دولة إسلامية دينها الرسمي الإسلام؛ وقد اعترض على هذا الإجراء بحق بأنه ينافي الأوضاع الدستورية ويخلق في الدولة سلطة روحية لا وجود لها؛ على أننا نريد هنا أن هذا الإجراء لم تعرفه القصور المصرية فيما عرفت من رسومها وتقاليدها، ولم يحدث قط في تاريخ مصر الإسلامية، أن تلقى خليفة أو سلطان عهداً أو تفويضاً من زعيم ديني سواء أكان قاضي القضاة أم شيخ الأزهر، ولم يتلق السلاطين مثل هذا التفويض إلا من الخليفة العباسي، الذي أقاموه هم بمصر بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد ليتخذوا من لوائها أداة من أدوات السياسة. بيد أنه كان إجراء شكلياً فقط؛ كذلك لم يحدث قط في تاريخ مصر الإسلامية أن توج خليفة وسلطان في مسجد من المساجد، بل كان التتويج يجري دائماً في مقر الملك، في القصر الفاطمي أيام الدولة الفاطمية، وفي دار الوزارة الكبرى ثم في قصر القلعة أيام الدولة الأيوبية والدول التي تلتها؛ أما العناصر والمظاهر الدينية في حفلات تولية الخلفاء والسلاطين فكانت تلخص فيما يلي: مثول قاضي القضاة وأكابر العلماء إلى جانب أقطاب الهيئات العسكرية والمدنية الأخرى، في حفل التولية، وفي الموكب الملكي؛ وأداء الخليفة لصلاة العيد أو الجمعة في الجامع الأزهر أو جامع عمرو أو جامع الحاكم أو غيرها من المساجد الجامعة؛ ولم يظهر نفوذ رجال الدين في مسائل العرش والتولية إلا في أواخر دولة الملوك الشراكسة حيث كان للعلماء والقضاة الأربعة نفوذ يذكر في تولية بعض السلاطين وعزلهم وتقرير رشدهم؛ بيد أن هذا النفوذ كان عارضاً يرجع إلى أحوال الدولة المصرية والمجتمع المصري يومئذ؛ ولم يكن من العوامل الأساسية في مسائل العرش والتولية.
والواقع أن إجراء رسوم التتويج بالمسجد هو أقرب إلى الشعائر الوثنية والنصرانية، والكنسية تؤدي مثل هذا الدور الذي يراد أن يؤديه المسجد - في الأمم النصرانية؛ وقد شهدنا هذا المنظر في تتويج جلالة ملك إنكلترا حيث جرى تتويجه في الكنيسة وتلا عليه مطران كنتربري صيغاً معينة أجاب عليها؛ ومع أن الدول الأوربية قد تحررت منذ بعيد من سلطان الكنيسة فإن هذه الإجراءات ما تزال تمثل في الاحتفالات القومية الكبرى كالتتويج وغيره، فنرى الإمبراطور نابليون بونابرت مثلا يجوز رسوم التتويج في كنيسة الأنفاليد في فاتحة القرن التاسع عشر، كما توج سلفه الإمبراطور شارلمان قبل ذلك بألف عام في إحدى كنائس رومة وتولى البابا ليون الثالث وضع التاج على رأسه؛ على أن هذه المظاهر النصرانية والمناظر الوثنية التي ترجع إلى روح العصور الوسطى أيام كان سلطان الكنيسة الروحي يغشى كل سلطة زمنية وتستظل بلوائه الملوكية لتدعم سلطانها الزمني، لم تعرفها الملوكية الإسلامية ولم تأخذ بها ولم يلعب المسجد في هذا الميدان مثل هذا الدور الذي تلعبه الكنيسة في تتويج ملوك النصرانية، كذلك لم تعرف الدولة الإسلامية لرجال الدين سلطة خاصة كتلك التي يزاولها الأحبار النصارى في مثل هذه المناسبات السياسية والقومية.
وعلى ذلك فإن البرنامج الذي وضع لتتويج جلالة ملك مصر والذي يقوم على العناصر التقليدية الثلاثة: العنصر الدستوري وقوامه أداء جلالته لليمين الدستورية أمام ممثلي الأمة، والعنصر الديني ومظهره أن يؤدي جلالته صلاة الجمعة في اليوم التالي في أحد المساجد الكبيرة، والعنصر العسكري ومظهره أن يقوم جلالته باستعراض الجيش المصري الباسل في حفل فخم، هو في الواقع برنامج موفق، يتفق على بساطته مع الروح الدستورية الصحيحة، ويجانب تلك البدع والرسوم الوثنية التي زعم البعض أنها تسبغ على حفلات التتويج لوناً روحياً خاشعاً، وتنوه بصفة مصر الإسلامية في حين أنها تنافي الأوضاع الدستورية والتقاليد الملوكية الإسلامية؛ بل إن هذا العهد الدستوري المؤثر الذي يتقدم به المليك لأمته يوم توليه مقاليد أمورها، ليذكرنا كيف تمت ولاية جده العظيم محمد علي لمصر على يد زعماء الأمة المصرية في منظر من أعظم المناظر الديمقراطية التي يسجلها التاريخ المصري
محمد عبد الله عنان