انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 212/حديث الملك فاروق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 212/حديث الملك فاروق

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

عرفت فضل النظام الملكي ومزيته في ليلة صيفية كان هذا الموضوع آخر ما أتوقع فيها أن يجري لي في خاطر. وكنا نحو عشرين - ما بين كبار وصغار، ورجال ونساء، وشيب وأطفال - خرجنا في أربع سيارات إلى الصحراء - صحراء مصر الجديدة - ومعنا الطعام والشراب والسجاجيد والوسائد والأواني والأوعية وسائر ما يحتاج إليه مثلنا في مثل هذه الرحلة، إلا الأكواب فقد نسيناها على فرط حرصنا على تذكرها، فاضطر أحدنا أن يعود بالسيارة إلى حيث مساكن الأحياء ليشتري لنا كفايتنا من هذا الذي نسيناه. وفرشنا السجاجيد وأخرجنا الوسائد والحشايا وصففنا الأطباق ووزعنا الفوط والأشواك والملاعق والسكاكين - فقد أبى أكثرنا إلا أن يكونوا من أبناء المدنية وإن كان أصل الفكرة أن نجعلها ليلة (بوهيمية) وأن نطلق النفس على السجية وننفي التكلف - وشرعنا نأكل ونسمر ونضحك ونلعب ونتخاطف الطعام والشراب ويجري بعضنا وراء بعض. وكنت جالساً على حافة السجادة وساقاي ممدوتان أمامي - كأنما يمكن أن أمدهما ورائي! - وظهري إلى مؤخرة إحدى السيارات فأن إحدى ساقي مهيضة فليس في وسعي أن أجلس كما يجلس خلق الله. فأقبلت عليّ إحدى الفتيات وأراحت كفها على كتفي وقالت: (ولكن كيف نسينا الأكواب؟)

فهززت كتفي التي عليها راحتها - فقد كان الجو حاراً - وقلت: (وهل أنا أعرف؟)

فأبت إلا الإلحاح وقالت: (ولكنك كتبت كل شيء في ورقة وراجعت كل شيء على ما فيها؟)

فقلت بإيجاز: (صحيح)

فقالت: (إذن كيف حدث هذا؟. . لابد أنك تعمدت. .)

ولم تتمها فقد صاحت إحدى الفتيات في هذه اللحظة: (الملك فاروق!)

وإذا بالقاعدين والمضطجعين جميعاً يثبون إلى أقدامهم كأنما شكهم جميعاً حديد محمي، ولولا ساقي وصعوبة هذه الحركة المباغتة عليها، لكنت وثبت كما وثبوا، فإن للجماعة عدواها، وصارت كل يد على أقرب كتف، وجعلت العيون تدور في كل ناحية، والألسنة تجري بالسؤال الطبيعي: (فين؟). وكانت الفتاة التي أطلقت هذه الصيحة تشير إلى سيارة تخطف بعيداً عنا، ولا يكاد يبدو منها شيء لكثرة الغبار الثائر وراءها. وسكنت الضجة أخيراً فقالت إحدى الفتيات: (هل سمعتم أغنية الملك فاروق؟) فقلنا جميعاً - أعني الرجال -: (لا) - بلسان واحد. فقالت: (أغنية جميلة) قلنا: (هات أسمعينا) فهزت كتفها، وأولتنا ظهرها، وأخفت وجهها في حجر زميلة لها. فسأل أحدنا: (هل فيها شيء يدعو إلى الحياء؟) فقالت بنته: (لا. إنما خجلها من أن تغني) قلنا: (إذن أسمعونا يا ناس)

فأبين أن يسمعننا شيئاً، وتركننا متلهفين على السماع الذي حرمناه. ولم أطق أنا صبراً فعدمت إلى الحيلة، وغيرت الموضوع تم ملت على جارتي وسألتها - فيما بيننا -: (هل تعرفين هذه الأغنية؟) فهزت رأسها أن نعم، فسألتها: (ماذا فيها؟) قالت: (لا شيء في الحقيقة وهي شائعة جداً)

قلت: (اهمسي بها في أذني) ففعلت وإذا بالأغنية كما يأتي:

(مصر فرحانَه بفاروقها ... مصر فرحانة بحبيبها

كل بنت تستمنى ... لو جلالته يكون خطيبها)

ففهمت لماذا خجلت الفتيات أن يغنينها وإن كان لفظها لا يراد به المعنى الحرفي ولا يدل على أكثر من الحب العام الذي فاز به هذا الملك الشاب السعيد الحظ. وخطر لي وأنا جالس أفكر في هذه الأغنية الشائعة أن ملكا مثله يسعه أن يثق بحب الشعب له وأن يطمئن إلى دوام هذا الحب، فإن المرأة تصنع بنا معاشر الرجال المغرورين ما تشاء

وقلت لنفسي وأنا أرمي بعيني هذه الصحراء المهولة التي يضيئها القمر: إنه ليس في وسع رئيس جمهورية أن يفوز بمثل هذا الحب، ولا يعقل أن يكون رئيس جمهورية شاباً في مثل سن الملك فاروق، وعلى أنه ماذا صنع الجمهوريون حين ألغوا الملكية واعتاضوا منها الجمهورية؟ لم يصنعوا شيئاً سوى أنهم قلدوا الملكية، واحتفظوا بكل مظاهرها، وحرموا الشعوب إمكان الحب لرؤساء دولهم، واتخاذ هؤلاء الرؤساء رموزاً لأوطانهم وأعلاماً عليها، وعناوين لها، وأفقدوها معنى قومياً تتعلق الشعوب به. والجمهوريون يشعرون بذلك ويفطنون إلى الزيف الذي تكلفوه، ولذلك يحفون رئيس الجمهورية بكل ما كان يحف بالملوك من المظاهر والمراسم. فله قصره، وحرسه، وحاشيته، وإنعاماته - كائنة ما كانت - وله مقام كمقام الملك، واحترام كاحترامه، وتقاليد ملكية مقررة لا تختلف ولا يمكن التساهل في أمرها. وكل ما ذهب هو نظام الوراثة. هذا والملكية نشوءها طبيعي في الأمم، فقد كان الملك في العصور الأولى هو الأقوى أو الأقدر على العموم وبقدرته أو قوته الممتازة استحق التسويد. أما الجمهورية فنظام قائم على التكلف والمغالطة. والزعم فيه هو أن الأمر والرأي للأمة، ولا أمر ولا رأي للأمة في الحقيقة، وإنما الأمر والرأي لنفر ممن في أيديهم مقاليد الأمور، وأعنة الشئون. ومادامت الشورى هي نظام الدولة، والدستور هو الذي يجري على قاعدته الحكم، والملك لا يحكم إلا بواسطة وزرائه، فلماذا تتكلف الأمم عناء التبديل والتغيير والمغالطة لنفسها وتجيء برئيس جمهورية لا يختلف عن الملك في شيء، ثم تزعم أنها جاءت بجديد؟ كل ما تصنعه الأمم التي اعتاضت الجمهورية من الملكية هو أنها أفسحت المجال لأطماع وراء الأطماع العادية في مناصب الحكم أي في المناصب الوزارية. وقد يكون من عجائب الإنسان أنه لا يقنع بمنصب الوزارة - وهو منصب حكم فعلي لا وهمي - وأن يروح يطمع في منصب لا يكون لصاحبه وهو فيه من الأمر قليل أو كثير. وكل ما يفيده هو الأبهة التي ليس وراءها حقيقة. ومن مغالطات الإنسان لنفسه أن يدعي كره الملكية وأن يتخذ مع ذلك كل مظاهرها ما خلا الاسم، ويروح على الرغم من هذا يقنع نفسه أنه غير شيئاً حين أبدل الملك برئيس جمهورية. وقد تكون الجمهورية أو ما إليها معقولة في بلد حديث العهد بالوجود مثل الولايات المتحدة؛ أما في الأمم القديمة التي نشأت فيها الملكية وتقررت زمناً فإن التغيير لا يكون إلا مغالطة ولا يكون الباعث عليه إلا الأطماع الشخصية أو جنون الحركات الثورية التي يفقد فيها العقل اتزانه واستقامة نظره، وهدوءه

ولم أسترسل في هذه الخواطر التي لا أدري لماذا دارت في نفسي، فعدت إلى رفاقي أسألهم عن الملك فاروق وأحاول أن أعرف سر هذا الحب كله. فقالت فتاة صغيرة بسذاجة محببة: إنه شاب حلو. فقلت لنفسي: إن هذا معقول فإن الأمم تحتاج إلى الشباب لتجديد نفسها. ومجرد وجود ملك شاب على رأس أمته يشعرها بفيض جديد من الحياة والشباب على الخصوص، وينعش في نفوسها الأمل. ولعل فتاتنا الساذجة لا تدرك ذلك كله، ولكنها صدقت من حيث لا تدري. وقال رجل: إنه شديد التمسك بعادات قومه ودينهم. فقلت لنفسي: وهذا أيضاً صحيح وهو من مزايا الملكية، والشعوب تحب أن ترى في ملكها رمزاً لكل ما تحرص عليه وتضن به، من دينها وعاداتها وتقاليدها وآمالها، ولا يتأتى هذا كما يتأتى في الملكية. وقال ثالث: إنه متواضع رقيق الحاشية والقلب. فحدثت نفسي أن هذا أيضاً، ومعقول أن يكون باعث حب، فما من أمة تحب العجرفة والشموخ والغطرسة والجبروت في حكامها، حتى ولو خضعت لهم مكرهة، وهي تؤثر الحدب والرعاية والعطف والعدل، وهذا كله حقها. وقال آخر: إن الأمل فيه عظيم، وإن البشرى به حسنة، وإن فاتحة عهده آذنتنا بالخير. ولا يكون مثل هذا الأمل الكبير في رجل عرفت حياته ونزعاته واتجاهاته، وأصبح ما يمكن أن يكون منه مما يسهل أن يعرف بالقياس على ما كان فعلا في ماضيه المعروف. وعظم هذا الأمل دليل على عظم الرغبة في الانتقال إلى ما هو خير. ودلالات هذا الأمل كثيرة وليس هنا مقام القول فيها. وقد كثرت في جلستنا الأسباب التي يعزى إليها حب الشعب لملكه الشاب، وكلها صحيح ولكني لا أذكر الآن أن واحداً منا أشار إلى جاذبيته الخاصة، وقد يكون مرجعها إلى الشباب، ولكني أحسبها هبة من الله، فما أكثر الشبان وما أثقل الكثيرين منهم!

وعدنا وما كان لنا حديث إلا الملك فاروق وحبه لأمته وحب الأمة له. وما أظن أن حديثاً آخر كان خليقاً أن يكون أشهى وأمتع. ومتى كان الحديث عن الملك في المجالس أشهى الأحاديث وألذها فإن للملك أن يبشر وللأمة أن تستبشر

إبراهيم عبد القادر المازني