مجلة الرسالة/العدد 197/جولات في الأدب الفرنسي الحديث
مجلة الرسالة/العدد 197/جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
للأستاذ خليل هنداوي
النظرية الفنية للعقل - الرمزية
بينا أخذ المذهب الطبيعي يضمحل ثم ينتصر بعض أعوام في القصة. كان مذهب جديد يذر قرنه في عالم الشعر والفن. هذا هو مذهب شعراء وفنانين كانوا يزعمون انهم لا يعلمون الأدب كله ولكن تأثيره أخذ يمتد، وحدوده بدأت تتسع، حتى اصبح مذهب العقل والحياة الباطنة، يؤثر في كل أشكال الفن، ويعمل في كل حقول الفن. هذا مذهب (الرمزية) الذي نبتت أصوله عند الشاعر (بودلير) وكان تأثيره (بودلير) أخذاً في الانتشار. ومن يجحد ما كان لبودلير من تأثير في شعراء (الرمزية) ولا سيما في الشعر الحديث الذي تهيمن عليه نفحات (بودلير). وهذه الرمزية الخفية تولدت من آثار (فرلين) ومن آثار (رامبو)
بول فرلين -
إحساس فرلين، خياله، فنه، تطوره
إحساس فرلين
لم يكن لفرلين خاصة معلومة من خواص العقل، لأن حياته لم تكد تقاد بتأملات عقله وإنما بغرائزه وإحساسه، ولم تكن لغرائزه من حاجة ولا غاية، وإنما هو الكسل والإخلاد إلى الدعة وطلب اللذائذ التي شغلته حتى لقي حتفه متسماً بالكحول. أما إحساسه فلم يكن عميقا ولم يكن معقداً. فبينما هو ينظم أبياتاً عاطفية على المذهب الوجداني إذا به ينكر الهوى والتشاؤم العاطفي. ولم يكن يتحرى عن السمو فيما ينشده وكان يجهل الدركات التي تنحط فيها الإنسانية في شدتها وفاقتها. يحب الحب ويترنم بالحب. وإذا لم ينشد اللذة البسيطة فهو لم ينشد أيضاً حب الأهواء. إن جد كان حلماً، والغواني اللواتي احبهن كن اقرب إلى الأوهام. وهذه الأوهام كانت عنده ظلالا وأشباحا. أحلامه هي قلق خفيف يتولد من طفولته، وإحساسه إحساس بسيط سرعان ما يسأم. يلبس حينا رداء الصدق وحينا رداء الكذب. فيه حياة وإبهام. وقد يكون اوجه وسطاً لو لم تسم به المخيلة والفن.
مخيلة فرلين
إن المخيلة الكلاسيكية والرومانتيكية هي التعبير عن المعاني بصور فهمها العقل وحللها، ويقدر على تحليلها أما مخيلة. (فرلين) فقد كانت مخيلة صافية أي أنها كانت تأسرها الصورة دون أن تجرب أن تفهم معنى الصورة. والشاعر يحس إن الصورة لها معنى وإنها تعبير عن حالة في النفس ولكن هذا التعبير ما هو إلا (مطابقة لها) إذ يصعب عليه أن يعبر عنها تعبيراً منطقيا. وهكذا تغدو المخيلة المحدودة بالتعابير المنطقية مخيلة تائهة شاردة. والأهواء الشاردة - عند فرلين - لا تغدو قاعدة أو مذهبا أدبيا. فان مخيلته الصبيانية تملك على أحلام صافية تعبر عن صور صافية. وتملك على أحلام أخرى يهيمن عليها نوع من النطق المشوش. وأحلام تلتحم مع أفكار صافية لتضيعها ثم لتجدها. وهكذا يبدو على أسلوبه الخيالي سيماء الأسلوب المدرسي، والأسلوب المتفكك. وليس لهذه المخيلة من قاعدة إلا الهوى والاختيار الباطني. هذه هو مذهب فرلين إحساس متحرك صبياني يلتقي بسرعة مع مخيلة سريعة الالتقاط للأحلام المتبدلة. إذ يرى واجبه أن يعبر عن هذه الرسالات السرية المحسوسة بشدة وحدة وهي تربط هذه الحركة بهذه الأوهام وهذه الانعكاسات بهذه الأشباح، يغمرها كلها ظلمة لا يمشي فيها نور. لأن روحه الشقية وعبقريته يجدان فيها الراحة والحياة وقد دأب فرلين على التأمل في الفن المدرسي وأصحاب هذا الفن، ذاهبا متحريا عن الفن الذي يستطيع أن يعبر عن نفسه لنفسه، وتخاطب نفسه به نفسه
فن فرلين
إن فرلين لم يبتكر كل شيء فقد تحرى شعراء قبله في أوقات مختلفة عن هذا الفن الرقيق، وفرلين نفسه لم يجحد ما كان (لبودلير ومدام ديسيور دفالمور) من تأثير فيه. كما انه تأثر بشعراء من الإنجليز، تلاهم ودرسهم يوم كان في إنجلترا. على إن بودلير ومن ذهب مذهبه كانوا يحاولون أن يقرأهم الناس ويفهموهم. وكانوا - في الساعات التي تتكاثف معانيهم - يصونون الوضوح في التعبير والتركيب والنحو. أما فرلين فقد ذهب غير هذا المذهب إذ أراد أن يكون إنشاؤه خفياً، وأراد أن يضع حجابا على لغته وأوزانه التي تعبر عن حالات نفسه الخفية، وبهذا تراه - من اجل غايته هذه - خرق كثيرا من القواعد. فأنت ترى بعض عباراته تتقارب وتتلاحق - غنية عن عناء المنطق - بنغمة باطنية من الهوى الذي يغمرها. وحركتها لا تكون إلا إيقاعا موسيقياً لا يجد فيها الإعراب أسباب جملة صحيحة. وإنما هي جمل موسيقية لا جمل منطقية! على أن عبقرية فرلين تتجلى عي انه عمل على إيجاد أوزان باطنية موسيقية للتعبير عن خطرات النفس الباطنة تحل محل الأوزان الظاهرة وقد كانت عاطفته في ذاك دقيقة مرهفة، وذوقه عميقا في انتقاء الألحان الملائمة المنسجمة التي تعبر عن المعاني، وانك لتجد شعره - سواء كان صافيا أو مبهما - يبدو كأنه يتجرد من كل معنى. وينتهي من وصوله إلى العقل حتى ينسكب في رعشات إحساسنا الرقيقة
تطور فرلين
لقد كان (فرلين) من بدء حياته الشعرية هدفا لأطوار متباينة، ولقد يكون انتقاله من طريق المذاهب المدرسية اقل حركة لو لم يتصل (بالشاعر رامبو) الذي كان تأثيره فيه تأثيراً عميقاً. وقد اتصل به فرلين اتصالا وثيقا طوال سبعة عشر عاما. وهو الذي أوحى إليه بان يزدري هذه الحياة (العاقلة) الفن (العاقل) وهذه التأثيرات الرثة وقد عكف فرلين على شرب الكحول حتى أرعشت قوته، وطوت فتوته، فانتابته الفاقة والشقاء والموت وأصبحت عبقريته الشعرية لا تٍرسل إلا شعاعا. وأصبحت طريقته الموسيقية، من عهد - تمتمة ضيقة الأنفاس.
ارتور رامبو
نشأ (رامبو) نشأة شعرية، وكتب مقاطيع مختلفة على أساليب مختلفة. وقد حذا حذو (ليكونت دي ليل وبودلير وفرلين قبيل عام 1870 ولكن آثاره كانت تطغى عليها مخيلة محمومة ملتهبة تدفعه دائما إلى المجهول. وسرعان ما تلاشى عنده وجود العالم الحقيقي حتى أمسى عالما لمظاهر باطلة. إن الإحساس الحقيقي هو هو إحساس ابن صدفته وابن حادثه. . . هو الحجر المطروح في الماء،
أما ما هو اكثر اعتبارا فهو تلك الرعشات المترجرجة في الينبوع. هنالك حيث يبصر العقل العادي - على شاطئ قناة مظلمة مصنعا للخمر يؤكد لنا (رامبو) بأنه يجد على ضفة نهر لامع معبداً! هذه الأوهام هي حقيقة الوجود. (وما عسى يغدو الوجود إذا خرجت منه؟) انه في هذا الوجود لغريبة طبيعية، في هذا الوجود الحقيقي وحده لا يبقى للمنطق المعهود إلا العمل. أما السحر الباطني فله طرائقه التي لا تفهم) ولكن الإنسان يحسها ويتبعها بطريقة خفيفة وحاجة خفية كما هو الحال في أجزاء خاتم غير متطابقة نراها طبيعية ضرورية. وإذا أردت الدخول في عالم الشعر فلا تطلب ذلك العالم البالي السائم الكاذب محاولا أن تعبر عن عالم الظواهر العملية، وإنما يجب أن تغادر هذا العالم وتفر منه إلى عالم جديد. فيه تتفتح الحقيقة الشعرية والأحلام الحية. . . وقد وجد رامبو إن اللغة العادية عاجزة كل العجز عن التعبير عن هذه الحقيقة الوهمية، فعمل على تنقيحها تنقيحاً فنيا، فافترض لكل مقطع لونا وحركة، وعمل لكل فعل معنى من معاني الشعر. وبذا تلونت الكلمات وأصبح لها أوقاع خاصة. . . والكلمة عنده أصبحت تتألف من الحان يجب أن ينظر في توقيعها الموسيقي لا في معناها، وهكذا أخذ شعر (رامبو) ينزاح من زمن إلى زمن عن تأثير الصور الواضحة والمنطق، واخذ يغدو كجوقة موسيقية للحلم الباطني بفصل أصوات (كلماته ورناتها.
المدرسة الرمزية
نشأت مدرسة جديد بتأثير (فرلين) (ورامبو) وفلسفة (شوبنهاور) وهذه المدرسة الجديدة اتخذت لها الرمزية اسما. وحقيقة أمر هذه المدرسة أنها نشأت ناقمة على الشعر التقليدي عاملة على خلق شعر جديد. أما تعاليم هذه المدرسة فليست من الواضح والترابط على شيء. وإذا شئنا أن نحلل معنى (الرمز) كما أرادوه لا يصل بنا ذلك إلا إلى كلام لا يغني! وإنما يفهم هذا الرمز ويفسر معناه العميق الحي من خلال آثار هذه المدرسة ونصوصها.
وأما مذهبها العام فهو إن الشعر إنما هو تعبير عن الإحساس لا عن عقل الشاعر. وهو يتجه إلى إحساس القارئ. الشاعر يعروه إحساس ما فيعبر عنه بلغة عقله فيدركه القارئ بلغة عقله بعد أن يكلف إحساسه بالاهتزاز! وفي هذه الأطوار نرى (التأثر) قد تغير وضعف وانعدم. أن الشعر الحقيقي ينبغي أن يكون اشتراكا مباشرا لإحساس مع إحساس. إذ يجب إلا يتوقف على عرضه والتحدث عنه وإنما يتوقف على (التلقين والإيحاء) كالوتر يرن باللحن الذي يعطيه. . ويقول في هذا المعرض الشاعر (هنري دي ريني) (إن الشعر اصبح يهجر أسماله الخطابية القديمة التي ارتداها طويلا. اصبح لا يحلل شيئاً وإنما يلقن ويوحي. . .) ويقول مالارمي (أن تسميتك للشيء تذهب بثلاثة أرباع ارتياح الشاعر، وذلك الارتياح الناشئ عن طربه بالتنبؤ عن الشيء قليلا قليلا، إن التلقين هو الحلم) ولكي يدركوا هذه الغاية ولدوا طرائق مختلفة ففروا من الأشياء الواضحة أو انهم لم يبحثوا عنها، لأن جل الأحاسيس الشعرية في زعمهم مشوشة مفعمة بالصور المبهمة والأحاسيس التي لا يمكن التعبير عنها بجلاء إلا بعناء. ويقول (أنا طول فرانس) (لا شعر بلا معنى خفي) فمهنة الشاعر أن يتغلغل في هذه العوالم الخفية والأسرار المحجوبة، فيقرب هذه الخفقات الحية وهذه المعاني المبهمة. ويقول (دوهامل) في معرض كلامه عن (بول كلودل): (إذا كان كلودل خفياً مكتوماً فذاك لأن أبواب المواضيع التي يلجها إنما تعبر عن سر كبير هائل)؛ ولأجل التعبير عن هذه المعاني الخفية والأسرار المكتومة ذهب الشاعر إلى توليد الرموز؛ وليس الرمز في التشبيه والمجاز، إذا مر التشبيه والمجاز من العقل الذي يولدهما ويقبلهما، وإنما الرمز هو تلك الصورة أو جملة صور متتابعة أخذ بعضها بأعناق بعض يحس الإنسان مباشرة أو يحس ولا يدري سبب إحساسه بان هذه الصور لا تترجم عن شيء ولكنها تعبر - أو بعبارة أوضح تنطوي على الفكرة. والتأثير الشعري كالزهرة التي تفسر الغرسة التي هي منها وهي لا تشبهها.
ثم يغدو هذا الشعر الخفي الرمزي موسيقياً، وقد كان تأثير الموسيقى في الشعراء كبيراً في فرنسا. ولبثت الموسيقى تعد فناً بين الفنون حتى عام 1885، فالموسيقى تستطيع أن تستمد من الشعر، كما أن الموسيقي يغترف من معين وحي الشاعر. ولكنها لم تسيطر على بقية الفنون، ولكنها غدت في ذلك التاريخ الفن العتيد الذي يشرف على كل الفنون. ولقد طغت موسيقى (فاجنر) الجرماني على النوادي الأدبية. وهدت كثيرين من اتباعها إلى القدرة على التعبير الرمزي في الموسيقى. ومن ذلك الحين طفق الشعراء يعملون على ابتكار فن يؤثر رنين الألفاظ فيه تأثير الموسيقى دون أن يفتقر إلى العقل ليترجم معانيها، أرادوا أن يجعلوا من الشعر رقية، وهو لا يرتل ولكنه يرقى. . . وٍإذا تلوته يغدو موسيقياً.
وقد قال (كلودل) في مقدمته لآثار (رامبو) ملخصاُ مذهبه (بكلمات لا ينبغي أن تتحرى عن معانيها وإنما تقنع بتلقينها الصامت) إذ قيمة اللغة - عندنا - فيما تشير إليه اكثر منها فيما تعبر عنه تعبيراً واضحاً. فالكلمات العرضية التي ترقى إلى العقل وترديد جملة دائمة قد تؤلف شيئاً من الرقية، ولكنها تنتهي دائما بتجميد الشعور. وظل الأشياء يقع رأساً على مخيلتنا ثم يأخذ يدور حول نفسه.
وقامت تجربة أخرى هي تجربة (الشعر الحر) فأن الشعر الفرنسي برغم ثورة الرومانتيقيين فقد ظل يرسف في قيوده وأوزانه، فعمل البعض من الرمزيين على الانطلاق والتحرر منها لاسيما الشاعر (غوستاف كاهن). . . المذهب الوحيد هو الموسيقى الباطنة والتعبير الرومانتيقي كان نوعا من هذه الموسيقى. . . وهنالك أنواع أخرى موسيقية يبتكرها التوليد وتخلقها النفس المستوحية.
مثلان من شعراء المدرسة الرمزية
هنري دي ريني
لم يكن (هنري دي ريني) شاعراً رمزياً إلا لأنه عاش في زمن الحركة الرمزية. ورويدا رويدا عاد إلى شعر فيه الروح المدرسية والبرناسية. وبذلك اختلط عليه الأمر وكان في كثير من مقاطيعه فاضحاً للمعاني الرمزية.
نفس الشاعر تنطلق بكليتها نحو حلم، حلم قصيدة من قصائد الرعاة حيث تجتمع أفراح الحواس والقلب والفن وتمتزج في رقة ناعمة صافية. حلم موطن بعيد يعج بالأشكال الإلهية والأفراح الشاعة ولذائذ الحياة. ولكن النفس الإنسانية نفس قلقة مضطربة والإنسان ابتكر الفكر والعلم والهوى والخطيئة. أراد أن يبدل الحياة وأن يستعيدها. فتحرى عن حقائقها المكتومة قي مظاهرها. وعن بقائها في فنائها وعن هم المستقبل في طرب الحاضر. وهذه تجربة عميقة مبتذلة أوحت إلى كثير من الشعراء والشاعر المدرسي عبر عن هذه الخطرات بأسلوب واضح وأفكار منطقية ولكن في طبيعة هذا الحلم الباطني اضطرابات وتموجات يحس بها قبل أن يبدأ العقل عمله.
فالحلم ينسل بين أمواج الخيالات الباطلة والقلق الراهن، وعواصف الحياة الحقيقية ترفعه من هذه الاضطرابات المفاجئة وتحيطه بظلال سوداء تنزلق. وليس في هذا مطابقات، لأن هذه الخيالات إنما تصاغ بتأملات مركبة تركيبا سيئاً وهكذا يظل المقطع - بدون انقطاع - مشوشا يتجاذب الخيال الشعري والعقل الشعري، والصورة والرمز، ثم يغدو الشاعر كجنية سكرى بالحياة الناعمة الخالية من الفكر، والإنسان يغدو صديقاً كئيباً لعيون الأحلام والعلم وليس من الضروري أن يتناوب هذان الصوتان فقد يتعالى الصوت الواحد ممتزجاً بصدى مظلم ضجر يمل الصوت الآخر.
إننا لا نقدر أن نعرف هل يتركب الشعر من أحلام مزوقة ملفقة، أو من أخيلة الماضي والذكريات؟ أن ما نراه في مقاطيع الشاعر كائنات غير مثبتة، ليس لها أسماء ولا أوطان، لا هي أرضية ولا هي سماوية هي بعض كائنات، هي عابرات راحلات غريبات، ظلال، وجنيات، لا ندري هل زوقها الشاعر بحياة الأحلام أو بالحياة التي قضاها، ذلك ما لا ندريه ولا يدريه الشاعر. الشعر الرمزي يتولد من هذا الاهتزاز الغير المحسوس ويتم عمله حيث لا تلفيق ولا حقيقة، ولكن حقيقة ملفقة واحدة هي ابنة الحلم الباطني
على أن هذا الشعر الرمزي في كثير من الأحيان يتخذ له طريقة التعبير المدرسي وإذا كان تعبيره يظل مائعاً، وفكرته تبقى فكرة تلقين متحركة هادئة فان الصورة تخرج شيئاً فشيئا من الضباب الرمزي لكي تتوقع بأشكال موجزة رقيقة ولوحات جميلة، قصور تتآلف من ضباب وحدائق تغرس من أحلام حيث يخيل إلينا أن يداً مفكرة شالت تماثيل من رخام أواني من البرونز وطاقة من الزهر. ووردة واحدة ساطعة خافقة.
جول لافورج
يختلف تأثير شعر (لافورج) عن تأثير (شعر هنري دي ريني) فهو لا يعمل على أن يحيا في مثل أعلى من البساطة والجمال اليوناني، لقد غره شك يائس قاتم تسرب إليه من الشك الرومانتيقي وملأ قلبه يأساً. وساعد على ذلك ما ابتلى به من صحة معتلة وحظ انكد، لقد كان يطمع في أن يحيط عقله بأسرار هذا الوجود. فدرس كثيراً والتهم الفلاسفة التهاماً ولكنه عاد خائباً لأنه لم يجد في هذه التعاليم التي درسها إلا ظلاماً اتهاماً ومتناقضات! ورسا في ذهنه أن اقرب هؤلاء الفلاسفة إلى عقله هم من علموا (الجهل الإنساني) والوهم الضروري وانسياق الإنسان إلى مقادير عمياء. هؤلاء هم فلاسفة (اللا شعور) والقدرية منهم (هارتمان وشوينهاور). العاقل يجرب أن يصل إلى التنسك بشعوره بزوال هذه الاخيلة، وبتأمله هذا العقل المضطرب اضطرابا أبدياً في هذه الجداول من الكواكب. إن هذا العقل لا يصرفه عن أن يكون شاعرا أي صارف والشعر - بين الأخيلة الباطلة - هو اقل هذه الأخيلة خداعا. وربما هبطت أغنية عليتا لحظة وهزت حظوظنا البائسة السوداء. يمكننا أن نفكر في يساء نواعم، لأن هذه الكائنات حسنة. أو أن نستدعي - كما فعل قيني - الأبواق: الأبواق الكئيبة. بشرط ألا نخدع بأوهامها؛ الشاعر ليس بإله ولا بساحر ولا بكائن يفارق البشر. الشاعر هو موقع، وموسيقي يحسن التوقيع والضرب على القيثار.
كل الشعراء أرادوا أن يترجموا الشعر، واختلفوا اختلافاً شديداً في كنه الشعر ولكنهم ظلوا على أرستقراطيتهم يحقرون الحقيقة لأنها حقيقة الشعب كما انهم خدعوا بالأوهام البهيجة. أما شاعرنا فهو لا يريد أن ينتقي أوهامه انتقاء هو يتقبلها كما هي وكما تتمثل له يتقبل منها على السواء ما ينير فيه كآبته وسامته. وما يذهله عن هذه الحياة في وادي الأحلام. يتقبل منها أوهام الحياة السطحية والأوهام التي تلتف بالكائنات لتسبر أغوارها وتكشف أسرارها
أن (لافورج) قد هدم قاعدة قوية في الفن هي قاعدة وحدة اللهجة الشعرية، وأثر تأثيرا كبيرا في بعض شعراء العصر الحاضر.
اتباع المدرسة الرمزية
تهاوت على المدرسة الرمزية سهام نافذة من النقد ونوزعت نزاعاً عنيفاً وما كاد القرن التاسع عشر ينصرم حتى فقدت هذه المدرسة مذهبها كمدرسة ولكنها مهما ذهب الأمر فيها فقد ساعدت على خلق أجواء جديدة من الفن والشعر تختلف عن الأجواء التي خلقتها المذاهب المدرسية والإبداعية والواقعية. هؤلاء تحروا عن مثلهم الأعلى في دلائل الحياة والأعمال والتجارب العلمية ووضوح الأشكال الفنية. هب علماء وفلاسفة يعلنون أن اليقين الذي حمله العلم إن هو إلا يقين الاصطلاح وأعمال الظواهر أما الحقيقة فلا تزال مكتومة. لم تنجح كل هذه الأسباب في إزاحة الستار عنها. وبهذا بدأ فشل العلم وبفشله فشلت الحقيقة الظاهرة. ولكي نجد الحقيقة سواء كانت الحقيقة الأخلاقية أو الاجتماعية أو الفنية ينبغي لنا أن نفلت من هذا العالم المحسوس الذي لا فائدة ترجى منه إلا الفائدة العملية هذا العالم الذي طالما خدعتنا مظاهره وبياناته الكاذبة وإذا كان للحقيقة وجود فهي موجودة في عالم خفي. .
وإنما على الفنان أو المبدع أن يذهب متحريا عنها في أطواء هذا العالم الخفي.
ولقد كان للمدرسة الرمزية اتباع وأنصار، اتخذوا الصحف الخاصة والمجلات الخاصة، يذيعون بواسطتها عن مدرستهم وآثار مدرستهم، ويردون بمكرهم مكر خصومهم واكبر هؤلاء الأنصار وأكثرهم ذيوعاً:
غوستاف كاهن: ومن آثاره الشعرية (القصور البدوية) وأغاني الحب ومسكن الجنية وكتاب الصور، وهو أول من كتب بلغة الشعر المنثور وجعل للشعر المنثور حدوداً وقواعد! وظل أسلوبه يغلب عليه الأسلوب المدرسي. وقيمة الرمز في شعره نشأت عن عواطفه التي أراد أن يتغنى بها، والتي تعبر عن ألوان النفس الناشئة كأنها رغبة محيطة مبهمة أو قلب دفين! ولكي يعبر عن هذه الألوان المختلفة لجأ إلى الرموز والتعابير المبهمة وكل ما فرضته الرمزية من أنواع التلقين.
و (جورج رودانياخ) الشاعر البلجيكي وهو ممن غلب على أسلوبهم الأسلوب المدرسي برغم ما تناول أسلوبه من معاني الرمزيين ومن آثاره التي نمت بالمدرسة الرمزية (مملكة الصمت) والحياة المسورة. هي مقاطيع تحف بها غفوات حالمة وهدءآت خفية. ونفوس يؤذيها الضجيج ومناظر قد يزورها الطرب أو الكابة تتمشى خلالها أخيلة النسيان والموت. ولقد كان لهذا الشعر الناحل المتزهد تأثير كبير.
و (بول فور) الذي أبدع (المسرح الفني) صاحب (الارانيم) وصاحب طريقة الشعر المنثور التي عاناها كثيرون قبله، فلم يستطيعوا أن يمرنوا على هذه الطريقة حتى جاء ابن بجدتها والضارب فيها كيف يشاء ولقد اخضع الإيقاع لوحي شعري حيث تتعالى الصور بدون أن تنفد طورا واضحة وتارة سرية محزنة، فيه شيء من الواقعية يمتزج مع التلقين الرمزي فتبقى المقطوعة الشعرية معلقة بين خيال الواقع وخيال الاسم كما أن (الإيقاع) يعلق بين الشعر والنثر.
(وفرنسيس جامس) صاحب ديوان (من صلاة الصبح إلى صلاة المساء) وانتصار الحياة. يغلب على أسلوبه هذا القتام الرمزي حيث ترى الرمز يدخل في السر والظل، ويغيب في الأحلام وجامس يرى الشعر - بخلاف غيره - في الأشياء البسيطة التي يلمحها وفي الحظوظ المتواضعة. وتظهر على شعره آثار الفاقة والمسكنة وها هو ذا يقول: (الهي! دعوتني من الناس فها نذا جئت!
وكتبت بالكلمات التي ألهمتها أبي وأمي. . .
وقد يسخر القارئ من هذه البساطة في المعاني ولكن (جامس) اكتشف ينابيع حية ندية من الشعر. بساطة عميقة مؤثرة. فهو يحب ويجعلك تحب مثله سلامة السريرة والنفوس الشاقة، والحياة الهادئة الضعيفة للأشياء. والموسيقى الباطنة في وزنه وصورة حية من صوره وكلمة ملونة.
كل هذا تراه يعبر بك عن هذه الرقة التي لا تلمس، وعن الجمال الخفي في كل أثر من آثار المبدع الخلاق.
خليل هنداوي