مجلة الرسالة/العدد 197/تلخيص وتعليق
مجلة الرسالة/العدد 197/تلخيص وتعليق
أسبوع الجاحظ
لمندوب الرسالة
أتينا في الرسالة (195) على خلاصة ما قيل في اليوم الأول من أسبوع الجاحظ الذي قامت به كلية الآداب، وقد كان هذا غاية ما أدركته الرسالة وهي تحت الطبع، ونعود فنقدم إلى قرائنا إجمال ما قيل في الأيام التي تعاقبت بعد ذلك.
اليوم الثاني
كان القول في هذا اليوم للأستاذين: أمين الخولي، وعبد الوهاب حمودة، وكان على الأول أن يقول في منهج التفكير عند الجاحظ وكان على الثاني أن يقول في أسلوب الجاحظ
وقد ابتدأ الأستاذ الخولي كلامه فقال: يقتضينا منهج البحث والتفكير ونحن نتكلم عن منهج الجاحظ في التفكير أن نعرف هل كان الجاحظ يقول بالمعرفة أم كان سوفسطائياً، لأنه كان يقول بالشيء وضده والحق انه كان يقول بالمعرفة وينتهجها، وله في ذلك من الآثار كتاب المعرفة وكتاب الجوابات وغيرها من الكتب التي لم تصلنا إلا أن موضوعاتها تدل على أن الرجل كان من القائلين بالمعرفة. قال الأستاذ: وطريق المعرفة عند الجاحظ للحواس والعقل على اتهام للحواس واطمئنان للعقل ولا شك أن الجاحظ كان له في الدين والأدب والحيوان وكثير من النواحي، وكان له في كل ناحية من هذه منهج تفكير ينتهجه، فهل كان في كل منهج منها على حظ واحد من الإجادة ودرجة متفقة في السير؟ أننا نرى انه كان في كل مناهج تفكيره متكلما أكثر منه أي شيء آخر، فقد كان الرجل من علماء الكلام، وكان يتخذ الكلام صناعة وتلك كانت شنشنة المعتزلة فإنهم أهل جدل وكلام ومناظرة، وقد أخذ الجاحظ منهجهم واحتذاهم، وقد امعن في ذلك حتى طغى منهجه الكلامي على تفكيره الأدبي. فكان يحفل بالجدل ويعنى باختلافات القوم يسردها وينقدها. ثم عرض لمذهب الرجل في الصدق والكذب وقال: انه كان يحتج للشيء وضده تطبيقاً على رأيه في الصدق!!
وتكلم على منهجه الرواية فأورد كلامه في كتاب الحيوان عن اصطناع الكتب ثم قال: ومنهج الجاحظ في ذلك مبني على العيان والخبر، ولكنه ينقد ما وصل إليه من الأخبار ويرده إلى اليقين العقلي كما انتقد الخطبة المنسوبة لمعاوية.
وأتى بعد ذلك على منهجه النظري فقال: انه كان يحترم العقل ولكنه مع ذلك لا يرى انه يكفي لسعادة الناس في دينهم ودنياهم؛ ثم هو يحترم أشياء قد جاءت على غير النهج العقلي وإنما هي نظرية سماعية كخلق عيسى وحواء وغير ذلك. وكان يرى أن الشرع إنما جاء حاداً للعقل وكان الجاحظ يشك فلسفياً ولكنه شك المتكلم يكتفي بالظواهر والمظاهر لأنه يعتد بعقله ويحترمه.
قال: وكان الجاحظ يأخذ بالمنهج التجريبي ولكن منهجه في ذلك كان ناقصاً؛ ثم عرض لنظريته في المشابهة بين الإنسان والقرد، وقارن ذلك بنظرية (دارون) ليظهر الفرق بين التجربة الناقصة والتجربة الكاملة الممحصة وضاق الوقت عن أن يتكلم الأستاذ في منهج الجاحظ الفني فاعتذر وقد ختم كلامه بقوله: إن منهجنا في تكريم الجاحظ منهج ناقص، لأن آثار الرجل لم تصلنا كاملة، فلعلنا نعمل على إخراج آثاره للناس فبذلك نكون قد كرمنا الجاحظ حقا وذكرناه وانتفعنا به
وقام من بعده الأستاذ حمودة فقال: إن أسلوب الجاحظ مرآة نفسه وحسه، وصورة عقله ومزاجه، وقد عرف الجاحظ في أسلوبه بخصائص لم يسبق إليها، منها: مزج الفكاهة بالجد، والبرهان المقنع بالتهكم الموجع، وسبب ذلك دمامة شكله، فإن أهل الدمامة قوم تشيع فيهم الدعابة؛ واستدل على ذلك بما كان من حافظ وأمام العبد ونظير واضطرابهم. ثم تتطرق إلى دعابة الجاحظ في شيء من البسط والإفاضة ثم قال: وكان الجاحظ يتخذ التهكم أسلوبا من أساليب النقد والإقناع، ورسالة التربيع والتدوير نمط من ذلك، وبعد أن قرأ الأستاذ فقرات من هذه الرسالة قال: وكثير من المتأدبين يحسبون أن ابن زيدون هو أول من اتخذ الأسلوب التهكمي في رسالته الهزلية إلى ابن عبدوس، وإنما هو تلميذ الجاحظ في ذلك على إن فنه أشبه بالهجاء وابعد من التهكم والسخر
ثم وازن بين الجاحظ وبين ابن المقفع فقال: إن ابن المقفع حكيم يستمد حكمته من نفسه؛ فتجربة الدنيا هي التي كانت تملى عليه ما يكتب، ولكن الجاحظ كان ينهج نهج من درس خطابة أرسطو فتأثر بها إلى حد بعيد، ومن المشابهة بينه وبين أصحاب الخطابة في الأسلوب استعماله القياس المضمر وهو ما عرف عند البديعين بالمذهب الكلامي؛ وقد كان الجاحظ أول من قال بهذا المذهب واستخدمه وأنكر وجوده في القُرآن وتابعه ابن المعتز ورد عليه ابن أبي الإصبع. . . . قال وإنما أخذ الجاحظ ذلك من كتاب الخطابة لأرسطو. وهناك دلالة قوية تدل على أن الجاحظ قد انتفع بكتاب الخطابة، ولكن هناك يعترضنا سؤال وهو أن الجاحظ قد أنكر أن لليونانيين خطابة، والجواب: أن الجاحظ حينما قال ذلك قاله وهو يرد على الشعوبية الذين كانوا يقولون إن الخطابة عند كل الأمم تنقصا للعرب، فموقف الرد هو الذي ألجأه إلى ذلك الإنكار والجواب الثاني انه لم يطلع على نصوص خطابية لليونانيين والثالث التراجم والمترجمين وانتقد على الخصوص، كتاب المنطق بأنه قرأه في أسلوب سقيم مترجم!!
فالجاحظ لا شك قد تأثر بكتاب الخطابة لأرسطو كثيراً ومنطقه، ليس كتاب البيان والتبيين إلا صدى لذلك الكتاب. وكان الجاحظ على طريقة أهل الخطابة يستخدم التمثيل إذا أحوجه الدليل وأعوزته الحجة؛ ومن ذلك ما كان في رسالته تفضيل السودان على البيضان. . . ثم قال: ومن خصائص الجاحظ: قصر الفقرات والازدواج، وتعمد السجع دون أن يتكلفه، وكذلك الافتنان في الأسلوب، والتنقل، والاستطراد، والتقصي للمعنى حتى لا يترك فيه بقية. أما الخصائص التي يشركه فيها غيره، فالسهولة والسجع وما إلى ذلك من خصائص الكتابة الشائعة في ذلك العصر. وبعد فأسلوب الجاحظ نتاج عقله وفكره أكثر منه نتاجا لروحه وعاطفته؛ هذا في رسائله العامة، أما في كتاباته الخاصة فقد كان يقصد إلى التنميق والتنويق، ويحفل بالديباجة المشرقة، ويعتد بالشواهد والأمثال يقحمها في ثنايا كلامه
اليوم الثالث
وفي اليوم الثالث تكلم الأديبان شوقي ضيف وعبد اللطيف حمزة؛ فتكلم الأول عن الجاحظ بين النقد والبلاغة فقال: لقد كانت مكانة الجاحظ في ذلك كمكانة أرسطو في الخطابة عند اليونانيين، وكان الجاحظ لا يكتب للخاصة فكان يعرف أن كتاباته في حاجة شديدة إلى التوابل لتقريبها لأذهان الجمهور.
ثم قال: والنقد لم يبدأ كفن إلا في العصر الأموي؛ وقد كانت الشعوبية هي أول حافز على النقد لأنها كانت حركة هدامة تشك في كل شيء، وكانت تشك في بلاغة الأدب العربي، والشك في بلاغة الأدب العربي شك في بلاغة القرآن!
ثم جاءت بعد ذلك بيئة الأدباء واللغويين في المربد وغيره من أندية الثقافة فأدوا كثيرا في خدمة النقد والبلاغة، وقد اتصل الجاحظ بكل هذه البيئات واخذ عنهم. ونحن يصعب علينا أن نحدد ما للرجل في ذلك وان نميز أقواله من الأقوال التي اقتبسها
ومهما سكن من شيء فالجاحظ قد فصل الأدب عن الأخلاق وروى كثيرا من الأدب العاري. وكان يطلب من الكتاب أن يتثقفوا ولكنه لم يطلب من الشعراء ذلك. والحق أن الجاحظ كان ناقدا ممتازا، وكانت له طبيعة في ذلك؛ وكان حر الرأي فلم يقدم القديم لقدمه، ولم يرفض الحديث لحداثته. وكان عربيا ولكنه كان يحترم شعراء الشعوبية ويقدمهم فمدح بشاراً وأبا نواس وأمثالهم. ولقد كان الجاحظ بآرائه حرياً بان يخلق من حوله حركة أدبية حافلة لو أن النقاد تابعوه، ولكنهم انصرفوا عن ذلك واكتفوا بنقد النصوص نقداً لفظياً نحوياً ولغوياً.
وليس كتاب البيان والتبيين فيما أرى صدى لخطابة أرسطو وأنا لا أشك في أن الجاحظ لم يره، وما ذكره ابن النديم لا يفيد ذلك، وأن كان العرب قد وقفوا على شيء من الثقافة اليونانية والجاحظ لم يكن من رجال المنطق. وقد عابه قدامة بأنه لم يذكر أقسام البيان!!
وقد أثرت آراء الجاحظ فيمن جاء بعده، ولعل أهم هذه الآراء مسألة اللفظ والمعنى وقد أطال الجاحظ القول في هذه المسالة وهي عنده قبل كل شيء مسالة دينية لاتصالها ببلاغة القران. وقد اسقط الجاحظ قيمة المعنى وجعل اللفظ هو كل شيء؛ وقال إن المعاني مطروحة في الطريق لكل الناس يلتقطها العامي وغيره وقد فتن العلماء بعد الجاحظ بهذا الرأي ووافقوه عليه. وقلما نجد فيهم واحدا اهتم بالمعنى والبحث فيه، بل انهم اسقطوا المعنى ولم يروا له فضلا!!
ومن بعد ذلك أخذ الأديب عبد اللطيف حمزة في الكلام عن (الجاحظ المعتزلي) فابتدأ القول في نشأة الاعتزال، فعرض لحركة الحسن البصري في مسجد البصرة وما كان بينه وبين وصل، ثم قال: ومضت الدولة الأموية، واتت من بعدها العباسية، وجاء الفرس بمزاياهم وببلاياهم، وأقول ببلاياهم لأنهم جاءوا بالإلحاد والزندقة ورفعوا لواء الشعوبية ولا شك أن المعتزلة هم الذين استطاعوا أن يردوا هجمات الفرس وان يكبتوا الشعوبيين لأنهم تدرعوا لذلك بالنقل والعقل والفلسفة والكلام فكان المعتزلة قوة كبيرة تجاه الزنادقة والملاحدة.
وبعد أن أورد الأصول المعتبرة عند المعتزلة وشرحها وحدد العلاقة بينها وبين غيرها من الفرق قال: وكان للمعتزلة مدرستان واحدة في البصرة والأخرى بالكوفة، وقد كان من أقطاب الأولى النظام ثم تلميذه الجاحظ، وكان المعتزلة على مقتضى تعاليمهم يتوارثون حرية الفكر فهم ولا شك جماعة أحرار الفكر كما يسميهم المستشرقون. وكان يطلق على كل اتباع رجل منهم اسم هذا الرجل فيقال النظامية لاتباع النظام والجاحظية لاتباع الجاحظ، ولقد كان لهم بحكم مهمتهم في كل ناحية من نواحي الفكر، فكانت حركتهم كما يقول الأستاذ احمد أمين - إرهاصاً لحركة فلسفية منظمة تولاها الكندي والفارابي وابن سينا وأشكالهم.
ولقد أخذ الجاحظ عن المعتزلة جميع مزاياهم، وكان بوقاً عظيماً لآرائهم يذيعها في الناس ويشرحها وقد ينتقدها ثم أشار إلى آثاره في ذلك فقال: إن اكثر رسائله قد ضاعت في أجواء العصور الخالية، وقد وصلنا بعض نصوص تدلنا على أن الجاحظ كسائر المعتزلة يطعن على أهل الحديث الحشويين وله رسالة في مدح النبي ورسالة في الاحتجاج للنبوة، ورسائل أخرى في الرد على اليهود والنصارى والرافضة وقد كانوا أعدى أعداء المعتزلة ثم له رسالة في فضيلة المعتزلة رد عليها ابن الراوندي برسالة سماها فضيحة المعتزلة وهي التي عنى بدحضها ابن الخياط في الانتصار.
ولكن مهما قيل في الجاحظ المعتزلي وأخذه بحرية الرأي لابد أن يكون له نظر في حرية الإرادة وهي مسألة المسائل بين علماء الكلام ومبعث الخلاف بين الفرق المختلفة، وقد كان الجاحظ كما عرفنا معتزلياً شديد الإخلاص لفرقته واكبر الظن أن الرجل قد وجد حلا لهذه المسالة في نظريه الطبيعيات. والظاهر أن الجاحظ قد طبق هذه النظرية على العالم الأخروي، وقد حمله هذا على الكلام في مسالة المعارف أو المدركات على أن مسألة الطبيعيات لم تكن من ابتداع الجاحظ ولكنه شرحها وبسطها وطبقها، وإنما هي لأستاذه النظام؛ وقد جاءت هذه النظرية عند بعض الفرق الأخرى، حتى نظرية العوارف التي أشرنا إليها قد انتهج الجاحظ فيها نهج أرسطو فالمظاهر التي يتجلى فيها اعتزال الجاحظ تبدو في تعصبه للمعتزلة والدفاع عن آرائهم والإشادة بفضلهم، وخصوصاً بفضل أستاذه النظام، ثم في الأشياء التي عرف بها وخاصة رأيه في حرية الإرادة، وأخذه بحرية الفكر إلى ابعد حد، فان الدولة كانت لا تشجع على حرية الرأي لغير المعتزلة، ومن ثم نعرف أن الجاحظ لم يضف كثيرا لآراء المعتزلة ولكنه تولاها بالشرح والإذاعة.
(البقية في العدد القادم)
م. ف. ع