انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 190/في الأدب المقارن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 190/في الأدب المقارن

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 02 - 1937



الرحلة

في الأدبين العربي والإنكليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

كان الإنسان رحالة قبل أن يكون ذا وطن: كان يهجر جماعات جماعات بقاع الأرض الشحيحة ويقصد أصقاعها الخصيبة ووديانها الكريمة، طلباً للقوت والتماساً للغنم؛ فلما استقر في الأوطان والمساكن لم يستغن في حياته عن الرحلة، بل ظل يحفزه إليها ابتغاء الرزق تارة، وحب الاستطلاع والمتعة أخرى، وشهوة الغلب والفتح طوراً، ونشدان العلم آنة، وأداء مناسك دينه حيناً، والفرار من الظلم أو الذل أحياناً؛ وامتازت عصور نهضاته خاصة باشتداد حبه للرحلة: فإذا ما مشت نسمة الحياة بين الأمة، وتنبهت فيها ثقتها بنفسها، وامتلأت روحها بحب العمل والإقبال على أسبابه، تطلعت دولتها إلى الخارج تبسط سلطانها عليه، وراح أفرادها في أثر جنودها يبتغون الرزق ويتوسمون وجوه المعرفة، ويهجمون على ظواهر الكون وخفاياه

تلك النهضة الروحية التي تهب ريحها بين الأمة، وتدفع أبناءها إلى الارتحال وطلب المغامرة والمجد والعلم، وابتغاء الجديد والطريف، تصحبها عادة نهضة أدبية تعبر عن هذا الروح الوثاب، وتنعكس فيها آثار تلك الرحلات وما تبهر به الأذهان من روعة الكون وعظمته ورحب أقطاره، وما تحدث في العقائد الدينية والعلمية من ثورة، وما توسع به آفاق التفكير من حقائق جديدة وما تدخل في الأدب من عناصر أجنبية تخالط عناصره المحلية، من قصص وأوصاف وألفاظ؛ فيفيد الأدب بذلك كله فائدة كبرى، وينبغ فيه من أعلام النظم والنثر أنداد من ينبغون من أفذاذ المغامرة والقتال والرحلة

عرف قدماء المصريين هذه النهضة المصحوبة بحب المغامرة والاستطلاع على عهد إمبراطوريتهم في آسيا، فامتلأ أدبهم إذ ذاك بقصص الهجرة والمخاطرة والتجوال؛ وإلى أدب ذلك العهد ترجع القصة التي مازالت تتشكل على توالي الأجيال، حتى انتهت إلينا في شكل حكاية علي بابا واللصوص الأربعين. ومشت بين الإغريق روح المغامرة تلك نهضتهم قبيل الحروب الفارسية وبعدها، فكان كثير من أفذاذهم وعلماءهم أمثال لكرغ وصولون وهيرودوت وطاليس وأفلاطون رحالين جابوا مهود الحضارة الشرقية، وأخذوا عن المصريين والبابليين علومهم، وكتبوا مشاهداتهم في رحلاتهم، واصفين جغرافية تلك البلاد وتاريخها، وهبت ريح المغامرة شديدة على الممالك الأوربية في عهد إحياء العلوم، فدفعتهم إلى ارتياد العالم المعروف واكتشاف العالم المجهول، وبسط حضارتهم وثقافتهم في أطراف العالمين القديم والجديد. وكان من رادة هذه النهضة مركوبولو وداجاما وكولمبس

وقد كان أكثر العرب في جاهليتهم رحالين لا ينزلون أرضاً إلا ريثما يتحولون عنها، يطلبون الكلأ أو يبتغون القتال أو ينقلون التجارة؛ ومن ثم شغفوا حباً بإبلهم وجيادهم، وترنموا بوصفها، وكثرت في لغتهم أسماؤها وأسماء سيرها، وقدموا الحديث عنها بين يدي قصيدهم، وأدمنوا ذكر ارتحال أحبتهم، وتمدحوا بطول التنقل وإنضاء الرواحل وإباء المقام بأرض الذل. وكان بعض سادتهم يسفرون إلى ملوك الروم والفرس؛ وإلى تلك الرحلات المختلفة الأغراض يرجع الفضل في انتشار بعض أسباب الحضارة والرقي الفكري والكتابة الخطية بين العرب قبيل الإسلام. ولا ريب إن الرحلات التي قام بها الرسول الكريم كانت من أهم عوامل تكوينه الروحي والعقلي، حتى تهيأ له أن يضطلع برسالته العلوية؛ فالرحلة عادة من أهم العناصر المكونة لشخصية العظيم؛ كما أن الرحلات التي قام بها في الجاهلية أفذاذ القواد أمثال عمرو بن العاص إلى الممالك المجاورة كانت عظيمة النفع للجيوش العربية حين توجهت لغزو إمبراطوريتي الفرس والروم. ومن تمدح العرب بالرحلة عن موطن الهوان قول الشنفري:

ولولا اجتناب الذام لم يلف مشرب ... يعاش به ألا لدي ومأكل

ولكن نفساً حرة لا تقيم بي ... على الذل ألا ريثما أتحول

وقول الشاعر الإسلامي أوس بن معن:

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل

ونهض العرب نهضتهم الحربية العظيمة فرأوا من أقطار الأرض وصنوف الخلق ما لم يكن يخطر لهم ببال وكان لذلك كل الأثر في أذهانهم وآدابهم، والتقت تحت رايتهم شتى الحضارات والأجناس، وشدت الرحال من أقصى إمبراطوريتهم إلى أقصاها: وهدأت ضجة الحرب فمشى التجار حيث مشى الجنود من قبل، وسار العلماء والأدباء في شرقي الأرض ومغربها يطلبون العلم والأدب، ويلتمسون الرزق والحظوة، وأظهر العرب من حب الرحلة لشتى الأغراض ما لا تبذهم فيه أمة أخرى: هاجروا جماعات فأنشئوا الأساطيل يفتحون بها سواحل البحر وجزره، وأفراداً فبثوا الدعوات وأنشئوا الدول، وسافروا تجار فنشروا الإسلام وحضارته في الأطراف والمجاهل التي لم تبلغها سنابك خيول الفاتحين، وتجشم علماؤهم متاعب الأسفار طلباً لتحقيق العلم والمشاهدة والتثبت من صحة الأحاديث الشريفة. وحرص الكثيرون على حج بيت الله الحرام مهما بعد، وزيارة عاصمة الإسلام حيث كانت

وظهر من أعلام الرحالين الذين طافوا أنحاء الإمبراطورية الإسلامية وجاوزوها إلى الأقطار الأجنبية شغفاً منهم بحب الاستطلاع والتجوال، أو ولوعا بعلم تقويم البلدان وطلباً لغرائبه، أمثال المسعودي وابن جبير وابن بطوطة، طوف أولئك الرحالون تدفعهم الروح التي كانت تدفع هيرودوت وديودور قديماً، والتي حثت ماجلان وكوك وأضرابهما فيما بعد، وما تزال تدفع العلماء إلى قرع أبواب العلم المغلقة، وطرق سبله المجهولة، ودون أولئك الرحالون المسلمون مشاهداتهم، فنالت كتبهم الذكر والأهتمام، ودرست لا في البلاد العربية وحدها، بل في أوربا حيث ظلت زماناً من أكبر مراجع التاريخ والجغرافيا؛ ولم تكن رحلات كولمبس غرباً وداجاما شرقاً في الحق إلا إتماماً لما بدأه العرب وحذقوه من التجوال في البحار وارتياد الأقطار. وقد انتفع كلا ذينك الكاشفين وغيرهما بآثار العرب في الرحلة والجغرافية، واستفادوا بخبرة الملاحين المسلمين

كان لكل هاتيك الكتب والرحلات والأخبار أثاراها في الأذهان والآداب؛ غير أنه لما كان الأدب العربي قد نفى من حضيرته القصة وازدرى الخرافة، وزهد في كثير من منادح القول، فقد أهمل الكثير من ثمار تلك الأسفار وطرائف تلك الأخبار التي تحوي أنفس المواد لخيال الأديب وفنه، فلم تبد آثار الرحلات والمخاطرات في الأدب العربي الفصيح إلا ضئيلة متفرقة: ففي المقامات شيء منها، إذ تدور المقامة حول أفاق يذرع الأرض ويهبط كل يوم بين قوم؛ وإنما استأثر بالتحدث عن الرحلة والمخاطرة والبلاد البعيدة الأدب العامي: تجمعت أقاصيص الأمم القديمة، وأضيفت إليها أخبار الرحلات الجديدة، وذاع كل ذلك في العامة، ودون بعضه في قصص ألف ليلة وأشباها، وظل بعضه غير مدون يتداول شفاها

ولم يكن الأدباء أنفسهم أقل من العلماء والتجار حباً للتجوال وجوباً للأقطار، بل كانت الرحلة عندهم جزءاً من منهاج الدرس والتأدب لا غنى عنه. فكانوا يشدون الرحال إلى العواصم، ويشخصون إلى العلماء والأدباء المتقدمين ويقصدون دور الكتب التي أولع بإنشائها الأمراء، فإذا ما قضوا من ذلك وطراً التفتوا إلى طلب الحظوة والنوال، فنصوا المطايا إلى أبواب الملوك والخلفاء. فإذا تمت لهم الحظوة وأضواهم الملك تحت ظله صحبوه في قليل أو كثير من رحلاته وغزواته، كما صحب عباس بن الأحنف الرشيد وابن هانئ الأندلسي المعز. فحظ أدباء العربية عامة من الرحلة لم يكن بالضئيل حتى أبو العلاء الكفيف لم يقعده عماه عن ركوب مشاق الأسفار والشخوص إلى العواصم

وقد ضرب كبير شعراء العربية المتنبي في الرحلة بسهم وافر: قضى شطراً من شبابه في البادية، وجاب أطراف العالم العربي، وقصد الأمراء ما بين فارس ومصر، وصحب سيف الدولة في حروبه، ومات وهو على سفر، وامتلأ شعره بذكر الرحلة والشغف بها والتمدح بتعوده إياها، ووصف الخيل والإبل وذكر الليل والفلاة وتفضيل النياق على الغواني. وقد كان يحب الرحلة حباً أصيلا لا تكلف فيه ولا ادعاء للبأس والفروسية: كان دوام التأهب والنقلة يشفي من نفسه الطامحة إلى جلائل الأعمال صداها، ويستوعب نشاط جسمه المتحفز للنضال وحمل الأعباء. لم تتهيأ له الفرصة لمجالدة الأبطال وتضريب أعناق الملوك فاعتاض عن ذلك مجالدة قوارع الطبيعة ومجابهة شدائدها. ومن رصين أشعاره في ذلك قوله:

ذراني والفلاة بلا دليل ... ووجهي والهجير بلا لثام

فإني استريح بذا وهذا ... واضوي بالاناخة والمقام

وقوله:

غني عن الأوطان لا يستفزني ... إلى بلد سافرت عنه إياب

فحب الرحلة كان أمراً شائعا في الدولة العربية، يدعو إليه توطيد الملك وبسط السلطان وابتغاء الرزق، ونقل التجارة ونشدان العلم والأدب وتأدية مشاعر الدين. وقد أدلى الأدباء في ذلك بدلوهم، وقل منهم من لم يرحل عن وطنه ولم يتغرب في بعض الأغراض؛ واثر ذلك ملحوظ في الأدب، غير أنه ضئيل محصور في مواطن قليلة: كوصف الرحلة إلى بلد الأمير الممدوح يقدم في صدر المدحة، وكالحث على الارتحال في طلب العلم والرزق والمنفعة وصحبة الماجدين في أشعار مشهورة سار كثير منها أمثالاً: يشبه فيها المرء في وطنه بالأسد في غابة لا يصيد، والماء في مستقره يأسن، والعود في أرضه لا ينفق ولا يزكو، والشمس في دارة الحمل لا يغني عنها شرف المحل؛ ومن جيد ما قيل في ذلك قول أبي تمام:

ولكنني لم أحو وفرا مجمعا ... ففزت به إلا بوفر مبدد

ولم تعطني الأيام نوما مسكنا ... ألذ به إلا بنوم مشرد

وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وكثير مما قيل في الرحلة في هذا الباب متشابه لا يمتاز بعضه من بعض إلا في قوة الأسلوب أو ضعفه، وكثرة ما به من محسنات أو قلته، وكثير منها يتفق في تداول نفس المعاني والاستعارات، جرياً على عادة المحافظة على تقاليد المتقدمين الأدبية، التي أتبعها الأدباء في كثير من فنون القول. أما الوصف المسهب لروائع المشاهدات التي تمتع بها الأديب في سفراته، وأثرها في ذهنه وقلبه، وتحويلها لنظرته إلى الحياة والكون، وما أثارته فيه من تأمل طويل، وما نازعه من حنين عميق إلى أوطانه، وما استرعى نظره من محاسن الطبيعة، وراع نفسه من آثار الأقدمين وبدائع فنون الإنسان؛ أما الوصف المسهب المفصل لكل ذلك، وتصوير أثر الرحلة في تكوين شخصية الأديب - فهي من أم عناصر ذلك التكوين - فقلما يبدو في الأدب العربي، فهذا باب آخر من أبواب الأدب الصميمة تغاضى عنه الأدب العربي، وتركه بين أيدي كتاب التاريخ وتقويم البلدان، وتخلى للأدب العامي

فالرحلة عن الموطن في نظر الأديب المثقف ليست فقط وسيلة لابتغاء الرزق أو اصطحاب الماجد أو قصد الملوك، ولا هي وسيلة لطلب العلم والأدب المدون والمحفوظ فحسب. بل هي قبل هذا وذاك وسيلة للمشاهدة واكتشاف الجديد والاطلاع على المجهول والوصول إلى البعيد. فطول مقام المرء في الحي لا يبغضه إلى معارفه ولا يحرمه من الوفر المجمع فقط، بل هو يضيق أفق ذهنه ويخمد قوى نفسه ويكفكف وثبات مطامحه؛ والرحلة تثير عزيمته وتزيد نشاطه وقدرته على التفكير والإنتاج، وتطلعه على أحوال الأمم الأخرى التي تزيده بصراً بأحوال أمته ومجتمعه ونفسه، وتشهده بدائع الطبيعة التي تتجدد حلاها في كل خطوة، وتتبدل محاسنها من بقعة إلى بقعة، وتبدي من أسرار جمالها صورة في أثر صورة، وفي ذلك من متعة النفس وغذاء الخيال والفن ما فيه. كما أن الوحدة التي هي نصيب الغريب في كثير من أوقاته تعوده الوقوف عن العالم المضطرب بنجوة، وإدمان الفكرة فيما يشاهد من أمور بنيه، وبالكثير من هذا يعج الأدب الإنجليزي

كان الإنجليز كما كان العرب في أول أمرهم رحالة دائبي التجوال والهجرة والمقاتلة، بيد أنهم كانوا منصرفين إلى البحر مزاولين للملاحة، فلما استوطنوا الجزيرة جنحوا إلى حياة الاستقرار رويدا رويدا، وإن لم ينفكوا عن حبهم للبحر وركوب أثباجه، وساهموا في النهضة الأوربية فأولعوا بالرحلة والمغامرة والكشف في عهد اليزابيث وما يليه، ونبغ من رحاليهم ومغامريهم أمثال رالي ودريك من رفعوا مكانة إنجلترا في البحر وما وراءه، وتلاهم التجار ورجال الأعمال والمهاجرون اتباع المذاهب الدينية المضطهدة، وانتشر الشعب الإنجليزي شرقا وغربا، وانتشر العلماء والأدباء في اثر ذلك يكثرون معارفهم ويستقصون مباحثهم، وصار من تقاليد خريجي الجامعات أن يطوفوا في بعض أنحاء القارة الأوربية عقب إتمام دراستهم، ليعرفوا أحوال الأمم ويزوروا خاصة إيطاليا واليونان مهدي الحضارة القديمة، وفرنسا التي ظلت زعيمة الثقافة والمدنية في أوربا مدى حين

وكان لأكثر أدباء الإنجليزية ولع بالرحلة لا ينقضي، وشغف بالبعيد لا يهدأ، وغرام بالاستطلاع لا يحد، واشتغال بمظاهر الطبيعة المتجددة ومحاسنها المتعددة، وتطلع إلى أحوال الأمم قاصيها ودانيها حاضرها وماضيها، ومن ثم أولعوا بالرحلة يقضون بها مآرب أرواحهم: فطوفوا في أنحاء جزيرتهم ولاسيما منطقة البحيرات ومرتفعات اسكتلندا وجزرها، وشخصوا إلى أصقاع أوربا المشهورة كباريس وإسبانيا ورومة والبندقية وأثينا، وجول بعضهم مثل كنجليك ولين بول في الشرق، وأودعوا أوصاف رحلاتهم تلك مذكراتهم أو رسائلهم إلى أصدقائهم في الوطن أو قصصهم أو قصيدهم ومن أدبائهم الذين طوفوا كثيراً ديفو الأفاق صاحب روبنسون كروزو. وجولد سمث الذي ضرب في أنحاء أوربا على قدميه وهو لا يملك شروى نقير، وكان يتكسب بالعزف على مزمار، وسبنسر الذي قضى ردحا طويلا في أرلندة، وبيرون الذي جول مراراً في أواسط أوربا وسواحل البحر الأبيض، وانتهى به المطاف إلى اليونان حيث استشهد في حرب الاستقلال، وشلي الذي قصد إلى إرلندة ليقودها إلى الحرية ويحقق فيها مجتمعه الفاضل، ثم آب إلى إنجلترا ومازال في ترداد بينها وبين أوربا إلى أواخر أيامه، تركت هذه الرحلات آثارها واضحة في الأدب، فمن سفراته اتخذ بيرون مادة لقصيده ولاسيما قصيدتيه الطويلتين: (تشايلد هارولد) و (دون جوان)، وفيهما يصف مشاهداته براً وبحراً وأثرها في ذهنه. وكتب شلي وكيتس وبروننج وهاردي الكثير عن آثار رومة وفنون إيطاليا عامة. وكان تنيسون في رحلاته يدون ملاحظاته لدقائق المناظر الطبيعية كي يعود إليها وقت النظم. وهيهات أن تتتبع آثار الرحلة ومظاهر الشغف بها في الأدب الإنجليزي، فهي مبثوثة في كل موضع منه

لم يقنع أدباء الإنجليزية بتدوين أوصاف رحلاتهم في آدابهم تدويناً مسهبا نابضا بالحياة، بل عمدوا - ولاسيما من قعد بهم الجد عن القيام بالرحلات الطوال التي يحلمون بها - إلى تخيل الأقطار البعيدة والمشاهد الغريبة والأمم العجيبة والحوادث الجسيمة وأودعوا كل ذلك قصصهم وأشعارهم ليشفوا غليل نفوسهم الظامئة إلى الجدة والحركة والجمال الطبيعي، فتخيل شكسبير وقائع رواياته في شتى بقاع الأرض والبحر، وتخيل كولردج مشاهد (الملاح القديم) في جهة من المحيط نائية مملوءة بالأسرار والألغاز، وتصور ستيفنسون في قصصه الحوادث الجسيمة في أقاصي الجزر والبحور، وهي الحوادث والمناظر التي كان يقعده الداء الممض عن مباشرتها بنفسه

ولجأ الأدباء إلى تاريخ ملاحيهم وجوابيهم يقصونه، وإلى الخرافة القديمة يستعينون بها على تصوير نزوعهم إلى الرحلة والمشاهدة في شتى الطور، كما استعانوا بتلك الخرافة في الكثير من فنون الأدب. ومن أبدع آثار ذلك قصيدة تنيسون المسماة يوليسيز باسم البطل اليوناني الذي تقص الأوديسا أخبار مغامراته، وقد أصبحت قصيدة تنيسون تلك عنوانا في الإنجليزية على حب الرحلة. تبدأ القصيدة ويوليسيز ملك في جزيرة إيثاكا، يتململ من الإقامة، ويتذكر سالف مخاطراته ومشاهداته ووقائعه حول طروادة، ويحن إلى معاودة حياة التجوال في البر والبحر واكتساب المعارف بلا انقطاع، فيعول على ترك ابنه تليماك ملكا مكانه، ويهيب بصحبة الأقدمين الذين شيبتهم الأهوال في صحبته، أن يأخذوا مقاعدهم من السفينة، ويهووا بمجاديفها على الأمواج المصطفقة، فتنطلق بهم إلى حيث لا يعلمون، إما إلى الردى وإما إلى جزائر الفردوس حيث يلقون البطل أخيل. يصف تنيسون كل ذلك في أسلوبه الشعري الممتاز، وفي خيال معجب أخاذ، ويرصعه بوصف مطرب لمناظر الطبيعة جملا وفرادى، من سهول طروادة إلى أثباج اليم وهبوط حواشي الليل عليها، إلى تلألؤ النجوم على صخور الشواطئ البعيدة، وصعود القمر منها وئيداً.

ومن أجمل أشعار الحنين إلى الوطن ومناجاته قول جولد سميث في (القرية المهجورة): (قد كنت آمل دائماً - في جميع جولاتي في هذا العالم الرحب المملوء بالمتاعب وفي جميع أشجاني، وقد حباني الله نصيبي منها - أن أتوج ساعاتي الأخيرة بالقرار بين هذه المغاني البسيطة المتواضعة؛ وكنت آمل - إذا ما تقشعت همومي - أن أعود إلى الوطن، وفي الوطن أقضي نحبي، كما يعود الأرنب البري الذي تجد الكلاب والأبواق في أثره، إلى الجحر الذي أنطق منه أول مرة)

ومن أعذب الأشعار المترجمة عن حب الرحلة في الأدب الحديث مقطوعة الشاعر المعاصر جرالد جورلد: (الشمس طالعة في المشرق وفي المغرب البحر، وسيان أن كنت في الشرق أو في الغرب فهذا الظمأ إلى الرحلة لن يدعني أقر، بل يعصف بي كالجنون، ويحملني على توديع موطني، فالبحار تدعوني، والنجوم تدعوني، ويا شد ما تدعوني السماء! ولست أدري أين ينتهي الطريق الأبيض، أو اعلم ما تلك الجبال الزرقاء، ولكن كفى للمرء بالشمس زميلا، وبالنجم دليلا، ثم لا آخر للمطاف إذا ما هتف الصوت، إذ الأنهار تدعوني، والطريق يدعوني، ويا شد ما يدعوني الطائر! ذلك هو الأفق ممتدا، وهناك ليل نهار تعود السفن القديمة إلى أوطانها، وتنطلق السفن الصغار، وربما أعود أنا، ولكن لابد أن أذهب. فإن سألك سائل ما السبب، فالق اللوم على النجوم، والشمس، والطريق الأبيض والسماء!)

فحب الرحلة كان أمراً شائعاً في الأمتين، وقد نال أدباؤهما منها بنصيب، وظهر أثرها في أدبيهما؛ بيد أنها في الأدب الإنجليزي أظهر أثراً، وأدباء الإنجليز بها اشد شغفاً وأكثر تغنياً، ونظرتهم إليها أوسع أفقاً من نظرة أدباء العربية: فهؤلاء كانوا ينظرون إليها نظرتهم (الاجتماعية) إلى شتى الأمور، يرونها وسيلة من وسائل فهم المجتمع الذي يعيشون فيه ويطلبون الرزق في مضطربه، وذريعة من ذرائع استيعاب معارفه والتذرع باسبابه، على حين كانت نظرة أدباء الإنجليز إليها كنظرة الإغريق إنسانية شاملة، وفنية حرة خالصة من كل غرض خارجي: كان يريدون بها المعرفة المطلقة بشؤون الكون والإنسان، وإن لم تجدهم تلك المعرفة في معركة الحياة فتيلا، ويريدون ري غريزة الاستطلاع الكامنة في الإنسان والتي تظل متيقظة مادامت النفس مقبلة على الحياة، ويبغون إرضاء نشاط جسومهم وأرواحهم والتثبت من بقاء نشاطها وحيويتها، ويسعون لاستجلاء محاسن الطبيعة التي لا تفنى مجاليها ولا تحد آفاقها

فخري أبو سعود