مجلة الرسالة/العدد 189/جولات في الأدب الفرنسي الحديث
مجلة الرسالة/العدد 189/جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
لأستاذ الأدب في جامعة السربون (دانيال مورني)
بقلم الأستاذ خليل هنداوي
القصة الواقعية
أميل زولا
أصول مذهبه:
يتولد أدب زولا من إرادة قانونية ومن طبع لا يتلاءم مع هذه الإرادة. أما هذا النظام فهو يعود إلى تأثير (بالزاك) فيه و (فلوبير) وفلسفة (تين) والواقعيون هم الذين قالوا بأن القصة لا ينبغي أن تكون رومانتيكية إبداعية لأنها ليست وليدة خيال أو وهم، وإنما يجب أن تكون محاكاة حقيقية للحقيقة، ولكن زولا بما أوتي من الخصب وبما أفاد من مطالعة المتأخرين وجد إن هنالك مذهباً أجدر بالأخذ، يجب أن تخلق القصة المبنية على الامتحان الذي يصل إلى عرفان حقائق علمية. وقد آلت بزولا مطالعته للدراسات النفسية التي نشأت في جيله كنظرية ولادة العواطف ونظرية الوراثة الطبيعية فلسفياً وفسيولوجياً إلى أن يرى أن الطبائع في الرواية المدرسية إنما كانت عقداً بسيطة، على أن كل ما في الإنسان وكل ما في القصة يخضع للجبلة الطبيعية أو للطبع. وهذا الطبع إنما هو وليد الوراثة ووليد تأثير الأوساط والظروف، فواجب القصة إذن ألا تقف بحثها على دراسة حالات نفسية ما هي إلا كلمات مصفوفة، وإنما على حالات واقعية. فتأنيب الضمير مثلا ما هو إلا اضطراب بسيط عضوي، (وإنما غايتي أن أكون كاتباً واقعياً وطبيعياً) ولكن القصة الامتحانية يجب أن يكون لها هدف أبعد، إنها ستكون درساً. فقد يجلس القصصي وتحمله ملاحظته وتأملاته إلى حالة من حالات كل يوم، فيرى مثلاً حالة جنون التصوف أو هلاك المدمنين للكحول، أحل بهم هذا عن مصادفة، أم نتيجة شريعة معلومة؟ إذا أردنا أن نعرف ذلك فلنقم أشخاصاً وأنفسنا مقام من تخيلهم فكرنا المؤلف على الطريقة الامتحانية، ولنتأمل مجرى هذه الأشياء، فإذا وصلنا في النهاية إلى النتيجة التي أدركناها بالتأمل الأول كان لنا أن النتائج الواحدة تتبع الأسباب الواحدة، وهكذا أوجدنا قانوناً، وعملنا علماً!
على أن أهواء (الرومانتيكيين) لم تكن أبسط ولا أسهل من هذه البحوث العنيفة التي يشبهها زولا بحقائق علمية يختلقها رجل الأدب كما يشاء هواه لكي يصل إلى النتائج التي تلائم فكرته وغايته. وأحكام زولا العلمية لم تكن أكثر جداً من بحوثه.
وقد وضع زولا قصصه سائراً على طريقته بصبر وجلد، لا يعرف الملل، وقد عمل على الذهاب من المبدأ إلى النتائج، فبعض أشخاصه تؤثر فيهم عوامل الوراثة، وبعضهم لا يستطيعون فراراً من تأثير الأوساط والظروف وبهذا لم تظهر الفضيلة عنده كمثل مستقل وإنما الفضيلة تحتاج إلى الوراثة والى تأثير الأوساط والظروف كما هو الحال في الرذيلة التي تنشأ بهذا التأثير.
طبع المؤلف وعبقريته
لقد كان طبع زولا أشد وأقوى من تعاليمه الفلسفية، وقد كانت آثاره الأولى تفيض عاطفة ورقة. لق كان كاتباً رومانتيكياً! وهو لا يجهل ذلك في نفسه. فلقد أخذ عهداً على نفسه بأن يكون واقعياً وطبيعياً، وطلب إلى القصصي أن يكون ذا عاطفة، تموج في صدره كل العواطف حيث لا تغنيه عاطفة التأمل والتحليل وحدها. ولقد كانت تموج في صدر زولا العواطف على اختلافها: العواطف الاجتماعية، والعواطف النبيلة. ولقد كان جمهورياً ثم صار اجتماعياً فاشتراكياً. وله هذه الجملة المأثورة (الجمهورية ستكون واقعية أو لن تكون). فكان من وراء ذلك إن رأى في الأغنياء والأسياد والمثرين رجالاً لؤماء وأرواحاً قاسية وعقولاً منحطة، ولا ينزل النبل والشرف والحقيقة إلا منازل رجال الشعب والفنانين والمفكرين المؤمنين بالجمهورية الواقعية. وفي استطاعتنا أن نناقش هذه الأفكار ولكنها بجملتها تصل بنا إلى بعض الأنانية والحمق، والى الإشفاق على البؤس والبؤساء.
إن الصورة التي صور بها - زولا - الإنسانية صورة مظلمة الألوان، تحمل في طياتها اليأس والوجوم، تتلخص هذه الصورة في أنها مجموعة مظلمة للعيوب والخبث والرياء، وجهود دائبة تبعث على الإشفاق تذهب مذهب العنف في قتال الفاقة الروحية والجسدي؛ على أن زولا برغم ذلك كله يعتقد أن هذا النضال شريف وعظيم، يبشر بمستقبل خير من الحاضر ويعلن أن الحياة الحرة المخصبة هي التي ستظفر وتنتصر. وتراه قبل كتابة (أناجيله العاطفية) كان يعتقد بجمال الحياة، هذا الجمال الذي هو عنوان قصه له، إن جمال الحياة سينتصر على كل شناعة فيها، وسيغلب على كل مناسك وشعائر لا تبعث إلا على الزهد والفرار من الحياة وسيقهر المذاهب المسممة. الحياة وحدها ستكون جميلة لأنها ستكون صادق مبدعة. وهكذا تجد زولا يتشاءم ويطغي عليه تشاؤمه تلوح خلاله لمعات الرجاء، ويمشي فيه شعاع التفاؤل
ولزولا مخيلة قوية وثابة. إن الشيء الذي يحبه حباً جماً هو مشهد الحياة. يحب الشناعة فيها والرذيلة والفساد أيضاً، أليس هو مشهداً من مشاهدها؟ وإن مشهد الحياة يجمل بنفسه حيث يبدو مجموعة صور تتجلى فيها لجبة الحياة، وفي الحق لا تظهر عبقرية زولا وفي الحق لا تظهر عبقرية زولا إلا في هذا القدرة على التخيل. وان هوجو وفلوبير قد وصفا الجماعات في حركتها، وفي عراكها وصراعها، ولكنه وصف ينشأ حول أبطال القصة ولا يدخل في أنفسهم. أما زولا فقد بدل هذا النظام، وترك الحياة المضطربة المبهمة تسود جو القصة كلها. فهنالك صور كبيرة تهيمن على الجماهير، وهنالك كائنات سرية عظيمة كأنها تحيا باضطراب الجماعات، وأن عالماً ضخماً واسع الحدود، ذا لجب وصخب، مبهم التفسير، يفتش ويتحرى ويجد تأويل نفسه في هذا الرمز يبدو - طوراً - كصورة عنه، وتارة كوهم باطل!
وقام لزولا منتمون لمدرسته، أخذوا بمبادئه الأدبية وهجروا مبادئه الفلسفية، فلم يشاءوا أن يجعلوا تأريخ البشرية مقيداً بتاريخ الوراثة والأدواء الكحولية، ولم يعتقدوا بأن القصة إنما تكون تجربة فسيولوجية اجتماعية. . . فعادوا إلى المصادر التي صدر عنها زولا، والى الواقعية التي أقتبسها من فلوبير وكونكور، ورأوا أن كل ما فيه اختلاق هو افتراء، ورأوا ألزم شيء التحدث عن شيء لاحظناه، ولو أن الحياة قدمت لنا مشاهد نادرة الوقوع فمن الواجب أن نهملها لأنها افتراء! مادة الرواية هي مادة كل يوم، هي مادة كل شيء لا ابتداء له ولا انتهاء، مادة كل ما يمكن وقوعه كل يوم في كل كون، والحياة التي تتمثل لنا كل يوم وفيكل كون هي حياة فيها القبح والشنيع، أما الجمال والفضيلة فهما صفتان نادرتان، أو أقل هما مستحيلان، وهما مما لا يصح اتخاذه موضوع القصة، القصة التي تعرض الشناعة والرياء الضعيف الممتثل في مجتمع بنيت أسسه على رذائل مشتهرة وأنانية متبجحة. وإنما قيمة القصة وحسنها يتوقفان على مقدار صدقها في وصف هذه الشناعة والرياء
هذه مبادئ جهد بها هؤلاء ولكنهم لم يكونوا أمناء لمبادئهم، فقد كانت فضيلتهم زاهية مختالة، قتلوا كبرياء وخلقوا كبرياء، وكرروا موضوع (كتلة الشحم) تحت مظاهر متحدة الغرض، وكل رواياتهم تعود إلى وصف فئة تتظاهر بنصر الفضيلة، تمدح جماعة سافلة إذا افترقت إليها، وتعود إلى إهانتها إذا فرغت منها. ولهذا لم يبق من (الواقعية) إلا مبادئ عامة قد تتلاقى بالمذهب (المثالي) حيث تكتب القصة بإسناد وأدلة، والروائي لا يحيا إلا في العالم الباطن، عالم نفسه، وإنه ليخرج منه ليلتقط من الحياة اليومية ألف مشهد، ويتحرى في هذه المشاهد عن الغرائز والهواء التي تتمثل هذه القصة. الحياة الحقيقية ليست هي حياة صفوة مختارة، وقد تكون هذه الحياة كاذبة مرائية، إن الحياة في حياة المجموع، حياة الشعب الصادقة، والفن يكون في تصوير هذه الحياة الشعبية
جي دي موباسان
جمال الحياة ومذهبه الواقعي:
عاش موباسان للحياة ولجميع لذائذ الحياة. لقد كان فتى (نورماندياً) له مظهر يملأ العين ونفس لا تعرف الكلال. كان يهيم شغفاً بالطبيعة وجمالها وهو القائل (إني أحب السماء كعصفور، والغابات كذئب شرس، والصخور كوعل أحب حباً وحشياً عميقاً قدسياً وحقيراً - كل شيء يحيا). ولقد كان له في فنونه حواس لا للتمتع فحسب، بل للملاحظة، وقد كان الصديق المقرب الوفي للكاتب (فلوبير) إذا هم بأن يكتب قيد بانتباه ودقة لا كل ما شاهده، بل كل ما يقدر أن يشاهده. ولقد أعطى صوراً كثيرة قوية عن مناظر السين والمارن ومقاطعة نورمانديا وعن حياة القرويين وطلاب الجامعات. وفي قصصه الأولى سخر من معايب نفسه ومخازيها، وسخر من كل ما يراه كاذباً في المجتمع في الأديان والشرائع والعادات.
لقد كان ماجناً مرحاً ولكن لم يطل عهد مجونه ومرحه. فقد تألم وغزا الألم جسمه ونفسه فبدل كل نظراته الواهمة في الحياة لقد كان مسرفاً جد الإسراف في التمتع بالحياة، وقد أساء لنفسه وجسده بهذا الإسراف، إسراف عنيف في لذته وصناعته كأنما كان طبيعة شاذة عنيفة في ميولها! فبكرت إليه الاوصاب وتناوشت جسمه العلل، فأراد أن يقاوم سلطانها فعكف على الخمر والمورفين والمخدرات وما لبث قليلاً حتى أثر ذلك في نفسه فولد فيها الاضطراب فتبدلت ألوان الحياة في وجهه، واستحال نورها ظلمة حالكة، وأخذت هذه الروح المرحة تشك في فرح الحياة وبدأت تحقر معانيها، وآزره على ذلك عقول أوى إليها كان تفكيرها متجهماً، فهو يحب شوبنهاور ممن وجدوا الحياة صفحة سوداء. ومنذ ذلك الحين إذا كل شيء في عينه زهواً باطلاً وجنوناً وعدما: (سعداء همة أولئك الذين لا يبصرون بسأم كبير: لا شيء يتبدل، ولا شيء يتحول، وأن كل شيء يغمره سأم طويل. . فكرة الإنسان ساكنة لا تتحرك وإنما تدور ضمن حدودها المتقاربة كذبابة في قارورة مسدودة) وهذا الضجر الذي عراه يظهر على صور مختلفة في ثنايا مواضيعه ورواياته؛ على أنه لم يجعل من هذه الإنسانية الكئيبة المحزنة صورة فتانة، وهو إذا لم يجل هذه الصورة بوجه صحيح فانه كان مفعماً شفقة وحناناً عليها، فهو في المواطن التي تهتز فيها الغرائز وتملك على المشاعر يبصر فضائل خفية وجمالاً متوارياً ونزوعاً عنيفاً متألماً نحو المثل الأعلى، تراه يعود إلى حديث من أحاديث الحياة حيثما كان مصدره، يسكب عليه الحنان والرقة، ويسبغ عليه الجمال؛ على أن فوزه الأدبي والثروة التي نالها قد بدلاه وأثرا في نفسه، فقد كان يغشى الأوساط الأرستقراطية ويتمتع بما تخلقه هذه الأوساط من الفنون والمرح العنيف في الحياة، فلم يعد يقنع بطريقته وفنه الأول في وصف الأشياء البسيطة وتصوير الحوادث القريبة. إنه نشط إلى ما تدعوه طبيعته الصافية إلى تحليل نفوس مركبة يستحوذ عليها القلق ويهديها الشقاء، ومن جملة هذه الأنفس نفسه. كتب قصة (قوى كالموت) و (قلبنا) و (بطرس) و (حنا) وما هي قصص تحليلية. هو يريد فيها أن يخفي التحليل بدلاً من نشره. وأشخاصها يريدون أن يخدعوا الناس أسرار نفوسهم بهذه الفصول والحركات التي يأتون بها. وأكثر قصصه تجري على طريقته، القصة الشخصية التي تدور حوادثها حول بطل هو صاحب القصة، تجري على طريقة الاعترافات التي تعبر عن الحياة الباطنة والتحليل الخلقي.
على أن موباسان كانت جهوده بارزة في تطور المدرسة الواقعية وهو في خير قصصه تبدو واقعيته في ذوق حاد مشبوب يسمو إلى فتنة الحياة الشعبية وهجو الحياة الاجتماعية هجواً لا فظاظة فيه ولا مرارة في انتقاء هذه الحقائق التي تمثل الحقيقة الأكثر ارتباكاً في الحياة. كل شيء في أسلوبه يدل على صرامة واتزان. ولا يمل (موباسان) من قول كل شيء. ولكن من قول كل ما يوحي إليه عقله بقوة وبيان. وقد تفتنه الطبيعة وتأسره وتؤثر فيه، ولكن القصة تخون نفسه، وأخيراً تراه لا يتردد في التحري عن الحقيقة الإنسانية التي تعكس في لحظة واحدة من هذه الحياة المتغيرة العابرة شيئاً من حقيقة النفس الخالدة للناس.
(يتلوه بحث تأثير العلم في الرواية)
خليل هنداوي