مجلة الرسالة/العدد 183/نظرية النبوة عند الفارابي
مجلة الرسالة/العدد 183/نظرية النبوة عند الفارابي
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 7 -
تعددت المدارس وتنوعت الفرق في العالم الإسلامي، فمن متكلمين إلى متصوفة، ومن شيعيين إلى سنيين، وتحت كل شعبة من هؤلاء طوائف شتى وأحزاب متفرقة. بيد أن هذه المدارس المتنوعة والفرق المتعددة تلتقي في نقط مشتركة ويقوم الخلاف بينها على بعض المبادئ العامة. وقد استطاعت التعاليم الفلسفية أن تنفذ إليها جميعاً، ولكن بدرجات متفاوتة. ففي حين أن الشيعة، وخاصة الإسماعيلية، يتقبلون بقبول حسن كثيراً من الآراء الفلسفية، نرى أهل السنة يقفون من هذه الآراء موقف الحذر والحيطة؛ وعلى هذا النحو يمكننا أن نلاحظ أن المعتزلة يدنون في اغلب أبحاثهم من الفلاسفة، في حين أن الأشاعرة يعارضونهم ويناقضونهم. وقد سبق لنا أن بينا مقدار تأثر فلاسفة الإسلام بنظرية النبوة الفارابية، ونريد اليوم أن نبين إلى أي مدى استطاعت هذه النظرية أن تؤثر في المدارس الإسلامية الرئيسية، وكيف استقبلت من معارضيها ومحبذيها. ولا نظننا في حاجة إلى أن نبين موقف الصوفية منها، فهي بما فيها من تصوف كفيلة بأن تنال حظوتهم، وهي فوق هذا تضع أساساً علمياً لآرائهم ونظرياتهم. وسنقصر حديثنا على المعتزلة والأشاعرة من علماء الكلام، والإسماعيلية والباطنية من الشيعيين
فأما المعتزلة فقد دالت دولتهم تقريباً وانقضى سلطانهم قبل أن تظهر نظرية النبوة الفارابية في ثوبها الواضح وشكلها الكامل. غير أن نظرية كهذه تتلاءم مع نزعتهم العقلية وروحهم الفلسفية، ولا نظنهم، لو أدركوها، كانوا يحاربونها ويقابلونها بالرفض والمعارضة الصريحة، ذلك لأن أكبر مأخذ يؤخذ عليها، كما أسلفنا، أنها تتعارض مع بعض النصوص الثابتة الواضحة، ولكن المعتزلة وقد فتحوا باب التأويل على مصراعيه لن يعدموا الحيلة في التوفيق بين هذه النصوص وبين فكرة تشرح النبوة شرحاً عقلياً فلسفياً. وأما الأشاعرة فقد نصبوا أنفسهم للدفاع عن التعاليم الإسلامية المأثورة، وجدُّوا في تفهمها كما وردت. حقاً إنهم يقولون بالتأويل، ولكنهم لا يتوسعون فيه توسع المعتزلة
ونظرية الفارابي في النبوة تناقض في رأيهم مناقضة صريحة طرق الوحي المسلم به في الكتاب والسنة ومما يؤسف له أن أبا الحسن الأشعري وهو من معاصري الفارابي لم يخلف لنا شيئاً يعتد به في هذا الصدد. إلا أن الغزالي وهو اكبر نصير للأشاعرة على الإطلاق، وفي النصف الأخير من القرن الخامس الهجري بوجه خاص، لم يغفل نظرية الفارابي في النبوة، وتحامل عليها كما تحامل على الآراء الفلسفية الأخرى، ولكنه في تحامله هذا لم يستطع أن يرد عليها رداً مقنعاً أو ينقضها بشكل واضح. على انه هو نفسه بالرغم من خصومته لها وتحامله عليها لم ينج من أثرها، وقال بآراء تقترب منها كل القرب؛ وخصومة الأفكار تختلف إلى حد ما عن خصومة الأشخاص، فقد تستطيع التبرؤ من كل ما يتصل بخصمك المادي مع انه يعز عليك أحياناً أن تنجو تماماً من سلطان فكرة تعارضها، ذلك لان النظريات والآراء بما فيها من قدر من الصواب يمكنها أن تؤثر في أصدقائها وأعدائها، بل وفي اشد الناس هجوماً عليها؛ ولا أدل على هذا مما نلاحظ في مسألتنا الحاضرة، فأن الغزالي يناقش في كتابه (تهافت الفلاسفة) نظرية النبوة الفارابية ملاحظاً أن النبي يستطيع الاتصال بالله مباشرة أو بواسطة ملك من الملائكة دون الحاجة إلى العقل الفعال أو قوة متخيلة خاصة أو أي فرض آخر من الفروض التي يفرضها الفلاسفة، ثم يعود في كتابه (المنقذ من الضلال) فيقرر أن النبوة أمر مسلم به نقلاً ومقبول عقلاً، ويكفي لتسليمها من الناحية العقلية أن نلاحظ إنها تشبه ظاهرة نفسية نعترف بها جميعاً، آلا وهي الأحلام والرؤى. وهاكم عبارته بنصها: (وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه أن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير).
ونحن في غنى عن أن نشير إلى أن هذه العبارة تحمل في ثناياها أفكاراً فارابية واضحة وبصرف النظر عما في موقف الغزالي من تناقض فان اعتراضه على نظرية الفارابي في النبوة لم يكن شديداً ولا قاطعاً. ولهذا لم يتردد في أن يعتنقها في مكان آخر محاولاً، كما صنع الفارابي، إدعامها على أساس من الفيض والإشراق. ولعل هذا هو الرأي الأخير الذي اطمأنت إليه نفسه، ولاسيما. والدلائل قائمة على أن المنقذ متأخر تأليفاً عن التهافت، ومشتمل على خلاصة أبحاث الغزالي ونتيجة دراساته السابقة
وإذا كانت نظرية النبوة الفارابية قد استطاعت التأثير في خصومها من الأشاعرة فهي على هذا أقدر لدى من ينتمون إليها من الإسماعيلية والباطنية. وإنا لنلحظ منذ أخريات القرن الرابع الهجري أن إخوان الصفا الذين لم يبق اليوم شك في أمر اتصالهم بالإسماعيلية يشيدون بذكر قوة المخيلة ويبينون ما لها من اثر في المظاهر النفسية المختلفة، وخاصة في المنامات والأحلام والوحي والإلهام. ويلخص لنا الغزالي في رده على الباطنية معتقدهم في النبوات قائلاً إنهم يذهبون إلى (أن النبي عبارة عن شخص فاض عليه من السابق بواسطة المثالي قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات كما قد يتفق ذلك ليعض النفوس الذكية في المنام حتى تشاهد من مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحاً بعينه أو مدرجاً تحت مثال يناسبه مناسبة ما فيفتقر فيه إلى التعبير إلا أن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة، فلذلك يدرك الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية، كما ينطبع مثال المحسوسات في القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجسام الصقيلة). ويضيف الغزالي أن هذه الآراء كلها مأخوذة عن الفلاسفة، وهذه ملاحظة لا تقبل الشك ولا الإنكار وقد تأثر الإسماعيلية بالأفكار الفلسفية في غير موضع، إلا أن نظرية النبوة على الخصوص راقتهم إلى حد كبير وصادفت هوى في نفوسهم. فإنها لا توضح النبوة فحسب، بل تشرح فكرة الإمامة التي قامت عليها دعوتهم، وقد قدمنا أن الفارابي يصرح بان الإمام والنبي والفيلسوف يرمون إلى غاية واحدة ويستمدون تعاليمهم من مصدر مشترك آلا وهو العقل الفعال. وإذا كان بعض الإسماعيلية قد أخذ على عاتقه أن يرد على منكري النبوة فهو في الوقت نفسه يدفع شبهاً يمكن أن توجه إلى الإمامة. فنظرية النبوة الفارابية أساس علمي متين بنى عليه الإسماعيليون كثيراً من تعاليمهم. ولم يزيدوا عليها شيئاً إلا انهم تأولوا بعض النصوص التي سكت عنها الفارابي فقالوا مثلاً إن جبريل هو العقل الذي يفيض على الأنبياء بالمعلومات، وإن القران تعبير عن المعارف التي فاضت على النبي ﷺ من هذا المصدر
الآن وقد لخصنا في اختصار أثر نظرية النبوة الفارابية في القرون الوسطى الإسلامية، يجدر بنا أن نولي وجهنا شطر القرون الوسطى اليهودية والنصرانية لنبين ما إذا كانت هذه النظرية قد تمكنت من النفوذ إليها أم لا. وسنكتفي من بين مفكري اليهود بموسى بن ميمون الذي يعلن في صراحة تلمذته للفارابي وابن سينا. وسنشير بين المسيحيين إلى (ألبير لجراند) فقط الذي كثيراً ما ردد اسم الفارابي في مؤلفاته اللاتينية. فأما ابن ميمون فلا نظن أن واحداً من رجال الفلسفة المدرسية - اللهم إلا ابن سينا - قد أستمسك بنظرية النبوة الفارابية وعنى بها مثل عنايته، فقد وقف عليها في الجزء الثاني من كتابه (دلالة الحائرين) نحو مائة صفحة أو يزيد، وبذل جهده في التوفيق بينها وبين الديانة الموسوية وترجع الآراء المتعلقة بالنبوة في نظره إلى ثلاثة أقسام. فطائفة ترى أن النبي مجرد شخص اصطفاه الله من بين خلقه وكلفه بمهمة خاصة سواء أكان عالماً أم جاهلاً صغيراً أم كبيراً، فلا يشترط فيه أي شرط ما دام الله قد أختاره، اللهم إلا أن يكون حسن السلوك سامي الأخلاق؛ ويرى المشاؤون - ويعني بهم ابن ميمون فيما نعتقد الفارابي وابن سينا - أن النبوة تستلزم كمالاً في الطبيعة الإنسانية وسموا في المواهب العقلية والاستعدادات الفطرية، فليس لكل شخص إذن أن يكون نبياً، بل من اكتملت فيهم صفات نفسية وعقلية معينة. والرأي الأخير الذي ينحاز إليه الفيلسوف اليهودي هو أن النبي إنسان كامل من الناحية العقلية قد فضله الله واصطفاه على عباده الآخرين. ولا بد له من مخيلة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال وتقفه على الأمور المستقلة كأنما هي أشياء محسوسة ملموسة. وعلى قدر ما تعظم المخيلة ويزيد اتصالها بالعالم العلوي تسمو الإلهامات النبوية وتتنوع، ومن هنا تفاوت الأنبياء فيما بينهم بتفاوت مخيلاتهم، وأختلف ما يوحي إليهم تبعاً لذلك. فقوة المخيلة إذن ذات اثر كبير في الكشف والإلهام وشرط أساسي في كل من يرقى إلى مرتبة النبوة. بيد انه يجب أن يضم النبي إلى مخيلته قوى عقلية عظيمة، لأن المخيلة لا تستطيع أن تصعد إلى درجة العقل الفعال إن لم يكن في معونتها قوى فكرية ممتازة. هذه الملاحظات على اختصارها تكفي للبرهنة على أن ابن ميمون اعتنق في إخلاص نظرية الفارابي في النبوة
وأما ألبير لجراند فقد أثرت فيه الآراء الفارابية عامة من نواح كثيرة. فهو يقول بنظرية في السعادة لا تختلف كثيراً عما ذهب إليه الفارابي، ويقرر إن الإنسان متى وصل إلى مرتبة العقل المستفاد اصبح على اتصال دائم بالعالم الروحاني، وأضحى إلى حد ما شبيها بالله، ووقف على المعارف المختلفة، وفاز بغبطة لا نظير لها. ويحلل من جهة أخرى نظرية النبوة تحليلاً سيكولوجيا يتفق اتفاقا تاما مع ما جاء به الفارابي. كل هذا يثبت، كما لاحظ رينان من قبل، إلى أي حد نفذت اللغة العربية والنظريات الإسلامية الخطيرة إلى المدرسة الألبيرية. وسهل علينا أن نحدد على وجه التقريب المصدر الذي استقى منه ألبير نظرية النبوة الفارابية، فإنه لا يبعد أن يكون قد قرأ عنها شيئاً فيما ترجم من كتب ابن سينا إلى اللاتينية، أوفي كتاب دلالة الحائرين الذي أحرز منزلة عظيمة في مختلف المدارس المسيحية
يتبع
إبراهيم بيومي مدكور