انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 183/عاصفة في الشرق الأقصى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 183/عاصفة في الشرق الأقصى

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 01 - 1937



حول حوادث الصين الأخيرة

بقلم باحث دبلوماسي كبير

بينما تواجه أوربا أزماتها الخاصة، في أسبانيا وفي حوض البحر الأبيض بنوع خاص، وتنظر إلى تطوراتها بحيرة يمازجها الجزع، إذا بحدث خطير يقع فجأة في الشرق الأقصى ويثير في الصين فتنة جديدة كادت تسفر عن أخطر العواقب لو لم تخمد في مهدها. وقد غدت هذه الفورات الفجائية ظاهرة الحوادث في الصين، وأضحى من الصعب أن نقف على بواعثها وغاياتها دون الرجوع إلى مثيلاتها من الحوادث والمفاجآت التي توالت في الصين في عشرة الأعوام الأخيرة، واستعراض الأوضاع السياسية الفريدة التي تعيش في ظلها تلك الإمبراطورية الشاسعة

وملخص الحادث المسرحي الجديد الذي كاد يثير ضرام الحرب الأهلية في الصين كرة أخرى، هو أن الماريشال تشانج هسويه ليانج الذي يرابط بقواته في سيانفو عاصمة إقليم شنصي، قد دبر كميناً للقبض على الماريشال تشانج كايشك رئيس حكومة نانكين الوطنية، والقائد العام للجيوش الصينية بينما كان يستشفي قريباً من سيانفو، واعتقله مع بعض حاشيته؛ ثم أذاع أنه يرمي بذلك إلى حل الحكومة الوطنية الحاضرة التي تمادت في خضوعها لليابان، وتأليف حكومة جديدة تعلن الحرب على اليابان، وتعمل على استرداد الأقاليم التي انتزعتها اليابان من الصين وفي مقدمتها إقليم منشوريا؛ وقد أخطر الماريشال الثائر أسيره بهذه المطالب، وأخطر بها حكومة نانكين، فرفض الرئيس المعتقل ورفضت الحكومة أن تبحث في شانها قبل الإفراج عن الرئيس، وإعادة الأمور إلى نصابها؛ وقد حاولت حكومة نانكين أن تصل بطريق المفاوضة والتفاهم إلى تسوية مؤقتة يفرج معها عن الماريشال المعتقل، فأبى الزعيم الثائر؛ واضطرت الحكومة أن تجرد عليه بعض قواتها؛ وقد زحفت القوات الحكومية فعلاً صوب سيانفو، وبدأت المعارك الأولى بين الفريقين ونحن نكتب هذه السطور

فمن هو هذا الزعيم الثائر تشانج هسويه ليانج؟ وما هي بواعث حركته؟ إن الماريشال تشانج هسويه ليانج هو ولد الماريشال تشانج تسولين زعيم منشوريا السابق الذي قتل غ في حادث قطار دست له القنابل سنة 1930؛ وكان تشانج تسولين مدى أعوام طويلة حاكما بأمره في منشوريا قبل أن تنتزعها اليابان؛ وكان يعمل بالاتفاق مع السياسة اليابانية، فلما قتل خلفه ولده في حكم الإقليم، ولكنه اختلف مع السياسة اليابانية، وكانت حكومة نانكين الوطنية قد قامت يومئذ باسم الصين المتحدة كلها، فأعلن تشانج هسويه ليانج انضمامه إليها؛ ورأت اليابان الفرصة سانحة لتنفيذ مشروعها الاستعماري في الصين، فاحتجت بوقوع بعض حوادث اعتداء على الرعايا اليابانيين، وغزت منشوريا في سنة 1931، واضطر الجنرال تشانج هسويه ليانج إلى الانسحاب بقواته دون مقاومة تذكر؛ وعسكر مدى حين في إقليم جيهول في جنوب منشوريا؛ ولما أتمت اليابان غزو منشوريا واحتلالها، دفعت قواتها إلى جيهول، فارتد أمامها الماريشال المنهزم بقواته؛ واحتلت اليابان هذا الإقليم في سنة 1933؛ وعسكر تشانج هسويه ليانج من ذلك الحين بقواته في بعض أنحاء إقليم شنصي. وفي سنة 1935، انتدبته حكومة نانكين، أوبعبارة أخرى انتدبه الماريشال تشانج كايشك لمحاربة القوات الشيوعية التي تقدمت جنوباً واحتلت ولاية ستشوان المجاورة لشنصي؛ ولكنه بدلا من أن يقوم بهذه المهمة فضل التفاهم مع الشيوعيين، واتخذ من ذلك الحين موقفه المريب من حكومة نانكين

ويجب أن نذكر كلمة عن الشيوعية في الصين؛ ففي الصين الآن حزب شيوعي كبير يسيطر على قوات عسكرية كبيرة بقيادة زعيم الشيوعية الصينية ماو تسي دون؛ فقد كانت الشيوعية من قبل عضد الحركة الوطنية، ومنذ سنة 1924 إلى سنة 1927 وهي فترة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، تعمل الحركة الوطنية بمعاونة الشيوعية، ويندمج الحزب الشيوعي في الحزب الوطني الصيني (الكومن تانج) وتستمد الحركة الوطنية كثيرا من القوة والتنظيم من روسيا البلشفية ودعاتها في الصين. ولكن الماريشال تشانج كايتشك بعد أن تم له الظفر على قوات الشمال في سنة 1927، واستطاع أن يقيم حكومة نانكين الوطنية رأى أن يضع حدا للتعاون مع الشيوعية، وقضى على عناصرها من (الكومن تانج) ومن الحكومة والجيش، وبدأت الخصومة من ذلك الحين بين حكومة نانكين وبين الشيوعية؛ ومنذ عدة أعوام تعمل قوات الحكومة لمطاردة قوات الشيوعية ومحاصرتها في الأقاليم الوسطى التي تسيطر عليها ولكنها لم تستطيع حتى ألان أن تقضي عليها وفي تلك الفترة استطاعت اليابان أن تنتزع منشوريا وجيهول وبعض الأقاليم الأخرى من الصين، وان تمهد تمهيدا قويا لسياستها الاستعمارية في الصين؛ وهنا حدث تطور واضح في سير الحركة الوطنية، فقد رأى كثير من الزعماء والمستنيرين أن استمرار الحرب الأهلية على هذا النحو يقوي نفوذ اليابان ويفتح أمامها أبواب الصين، وانه من الحكمة والضرورة أن تتضافر القوى المشتتة لمقاومة الاعتداء الأجنبي؛ ولوحظ أيضا أن الماريشال تشانج كايتشك رئيس الحكومة الوطنية يتبع إزاء الغزو الياباني سياسة الضعف والتسليم، وانه لم ينفك عن التصريح بأنه يريد التفاهم والاتفاق مع اليابان، ولكن على أي الأسس؟ إن اليابان تسير مسرعة في تنفيذ برنامجها الاستعماري، ومازالت تنتهز كل فرصة للتوغل في قلب الصين واحتلال أراضيها. ويرد زعماء (الكومن تانج) على ذلك بأن الحكومة الوطنية مرغمة على اتخاذ هذا الموقف، وأن الصين لا تستطيع في ظروفها الحاضرة أن تقف أمام الغزو الياباني، وأنه يحسن التفاهم مع العدو المغير حتى تقوى الصين نفسها وتستطيع أن تقاوم الاعتداء بصورة فعلية؛ وقد اضطر تشانج كايتشك نفسه أمام هذا التيار الجديد أن يؤكد في تصريحاته الرسمية أمام مؤتمر اللجنة التنفيذية للحزب الوطني (الكومن تانج) في الصيف الماضي أن الحكومة المركزية لن تتنازل قط عن التمسك بوحدة الصين وسلامة أراضيها ولن تعقد أي معاهدة تخالف هذا المبدأ، ولن تنزل عند أي رغبة أو وعيد بإرغامها على إقرار الحالة في منشوكيو (منشوريا) أو أية حالة أخرى من حالات الاعتداء على الأراضي الصينية

وقد رأى الماريشال تشانج هسويه ليانج أن ينتهز فرصة هذا التطور لينزل إلى الميدان، والظاهر انه يريد أن يحاول استغلال الشعور القومي الذي آثاره اعتداء اليابان المتكرر على الصين، وأن يجعل من مطالبته حكومة يانكين لان تعلن الحرب على اليابان شعاراً قوميا يلتف حوله المعارضون لسياسة الحكومة الوطنية. بيد أن تشانج هسويه ليانج شخصية ثانوية في الواقع، وهو لا يشغل بين زعماء الصين أو قادتها مركزاً خطيراً يمكنه من تزعم مثل هذه الحركة الخطيرة؛ ومن جهة أخرى فان الأساليب التي لجأ إليها في اعتقال رئيس الحكومة وقائد الجيش الأعلى ومعاونيه، ليست مما يشهد له بالفطنة والكياسة، وليست مما يعاون على التمهيد للحسم لمشاريعه. وتقدر قوات الزعيم الثائر بنحو مائة وخمسين ألف جندي، وهي قوة ضئيلة بالنسبة للوحدات العسكرية الصينية، وبالنسبة لقوات الحكومة المركزية التي تقدر بنحو مليونين؛ وإذا كانت الحوادث لم تسفر حتى كتابة هذه السطور عن حل حاسم للمشكل فانه لا ريب أن حكومة نانكين لن تنزل عند وعيده، ولن تتخلى عن محاربته حتى يلقي سلاحه

هذا من الناحية الداخلية، بيد أن للمسألة ناحية خارجية في منتهى الخطورة. فنحن نعرف أن الصين ميدان للتنافس الخطر بين اليابان وروسيا، وان اليابان تسيطر على منشوريا، كما تسيطر روسيا على منغوليا الخارجية، وأن عوامل الاحتكاك بينهما لا تنتهي، وخصومة اليابان وروسيا خصومة طبيعية وتاريخية معاً؛ وكلتاهما تخشى الأخرى وترقب مساعيها في الصين بمنتهى الغيرة واليقظه؛ وقد ذهبت اليابان في توغلها في الصين إلى حد يثير مخاوف روسيا ويحملها على مضاعفة جهودها لصون أملاكها ومصالحها في الشرق الأقصى؛ ومن جهة أخرى فقد عقدت اليابان أخيراً تحالفاً مع ألمانيا ضد الشيوعية أو بعبارة أخرى ضد روسيا، ومن المرجح أن هذا التحالف الذي يقوم في الظاهر على هذا الأساس، يتضمن تحالفاً سرياً عسكريا بين الدولتين، وان غاية الحقيقة حصر روسيا بين نارين: نار اليابان من الشرق، ونار ألمانيا من الغرب إذا ما وقعت حرب عالمية. ذلك أن ألمانيا الهتلرية تعتبر روسيا البلشفية عدوتها المميتة، وتسعى إلى تحطيمها وسحقها بكل ما وسعت وتعتقد أن تعاونها مع اليابان على هذه الصورة يكون رداً بليغاً على الميثاق الروسي الفرنسي الذي اعتقدت انه موجه ضدها، وانه خطر دائم على سلامتها؛ والظاهر أن حوادث الصين الأخيرة لم تكن بعيدة عن آثار الميثاق الياباني الالماني، وانه يمكن أن نلمس فيها أثرا لإصبع روسيا، وأن الماريشال تسانج هسويه ليانج كان يعول في ثورته على معاونة روسيا الخفية إذا ما ساعدته الحوادث على تنفيذ برنامجه، وأن روسيا ترى في اضطرام هذه الثورة على حكومة نانكين وضد النفوذ الياباني، ما يمكن أن يكون رداً من جانبها على الميثاق الياباني الألماني؛ بيد أن روسيا لم تخرج عن تحفظها إزاء هذه الأزمة ولم يبد منها ما يدل على إنها تتصل بها أو تعلق عليها أهمية خاصة، هذا في حين أن اليابان قد أبدت استعدادها وتحفزها للتدخل إذا ما تطورت الحوادث تطورا يمكن أن يهدد نفوذها أو مصالحها ثم هنالك الدول الغربية وعلى رأسها إنكلترا، وهي تعلق أهمية خاصة على سير الحوادث في الشرق الأقصى؛ وهنالك أمريكا، وهي تخشى ازدياد النفوذ الياباني في الصين وفي المحيط الهادئ. ومن الواضح أن بريطانيا العظمى، والدول الأخرى التي تسيطر على أملاك عظيمة في الشرق الأقصى مثل فرنسا وهولنده، يهمها كبح التوغل الياباني ومقاومته، لأنه يزداد كل يوم خطراً على أملاكها ومصالحها؛ والسياسة البريطانية تميل بلا ريب إلى تأييد كل حركة تؤدي إلى تحقيق هذه الغاية؛ بيد أنها لا تميل في نفس الوقت إلى نهوض الشيوعية وتقدمها في الصين، لأنها تعتبرها خطراً عظيما على أملاكها ونفوذها؛ وهي ألان في موقف انتظار وتريث واستعداد للطوارئ؛ وأما أمريكا فهي تسير في ذلك على سياسة مستقلة، وكل ما يهمها هو الاحتفاظ بنفوذها وسيادتها في المحيط الهادئ، وهي تعتقد أنها تستطيع تحقيق هذه الغاية بالتفاهم مع اليابان وعقد اتفاق يصون مصالح الفريقين

هذا وقد صح ما توقعناه من أن حكومة نانكين لن تخضع لوعيد الزعيم الثائر، وإن الثورة لن يرجى لها النجاح المنشود؛ فقد وردت الأنباء الأخيرة بأن المارشال تشانج هسويه ليانج قد أذعن للإنذار الذي وجهته إليه الحكومة المركزية، واستمع لنصح زملائه حكام الولايات المجاورة، وأفرج عن الماريشال تشانج كايشك؛ وقد عاد الماريشال إلى نانكين عود الظافر في مظاهرات حماسية، واعتذر الزعيم الثائر على فعلته؛ ولم تعرف شروط التسوية بعد؛ ولكن الظاهر أن تشانج هسويه ليانج سيغادر الصين مدى حين، وان الحكومة ستمنحه معاشاً حسنا، وانه تعهد بعدم التدخل في الشؤون العامة العسكرية أو السياسية

على أنه يبقى لنا أن نتساءل، هل انتهت الفتنة وأخمدت نهائياً، أم أنه يخشى أن تكون بذورها قد تمكنت في القوات المتمردة، وإن الشيوعية المحلية لا تزال تغذيها؟ هذا ما لا يتضح الآن: بيد أنه يمكن القول أن حكومة نانكين ستنشط إلى محاربة الشيوعية والقضاء عليها، لأنها تخشى منها على نفوذها واستقرارها. ولا ريب أيضاً أن الحكومة الوطنية ستعنى بأمر هذا التطور العميق في شعور الشعب الصيني واتجاهه إلى وجوب الوقوف في وجه اليابان ووضع حد لمطامعها؛ وربما اضطر الماريشال تشانج كايشك غير بعيد إلى أن يتخذ سياسة اشد حزماً إزاء المطامع اليابانية، إذا وجد في مثل هذا الشعور ما يكفي لتوحيد الصفوف، وشد أزر السياسة الوطنية المتطرفة التي يجب اتباعها يومئذ وتدعيمها بقوة السلاح إذا اقتضى الأمر

(* * *)