مجلة الرسالة/العدد 17/ظلم العدالة!
مجلة الرسالة/العدد 17/ظلم العدالة!
للأستاذ حسن جلال. القاضي بالمحاكم الأهلية ومؤلف حياة نابليون
والثورة الفرنسية
أصبح معنى العدالة في البلاد التي لها (قوانين) كمصر غير معناها في البلاد التي ليست لها قوانين مكتوبة كإنجلترا مثلا. ومعنى العدالة في مصر أن تطبق القوانين على الناس بالسواء. ولذلك أمكننا أن نسمع هنا من يقول (إن المساواة في الظلم عدل!) وكان ينبغي البحث عن وسيلة أخرى لضمان العدالة الحقيقية لا العدالة التي كل أساسها تساوي الناس ولو عند توزيع الظلم. لأن من القوانين ما لو طبق بحرفه لكان الظلم بعينه. وكل حالة من الحالات التي يراد تطبيق القانون عليها لها ظروف خاصة تجعلها تختلف عن غيرها من الحالات. فتطبيق نص القانون حرفياً على كلا الحالين دون مراعاة لهذهالظروف هو الإجحاف بعينه. وإن كان يتسير تحت اسم تطبيق العدالة باتباع نصوص القوانين. ولهذا السبب قال الفرنسيون وهم أئمة القانون المكتوب في العالم: ,
(القانون يقتل بحرفه ويحيي بروحه). والمعنى أن القاضي الذي يطبق نص القانون بالحرف دون مراعاة للظروف قد ينتهي إلى عكس النتيجة التي يصل إليها القاضي الذي ينظر إلى روح القانون ويراعي ظروف الأحوال.
هذه مقدمة جافة ربما كانت غير شائعة عند من لا يهمه الدخول في تفصيلات علمية. ولكني أسوق مثالا للإيضاح يتبين أنه معنى ما أردت أن أصل اليه:
رجل يبيع الفاكهة على عربة يدفعها بيديه يطوف بها الأسواق والطرقات. هذا رمان، وهذا بلح، وذاك عنب، وذلك غير ذا وهذا وذاك. والرجل له زوجة صغيرة السن لم تفرغ بعد من سلخ عقدها الثاني، وللزوجين طفلة رضيعة تحملها الأم على كتفها لأنها لا تزال في ذلك الدور الذي يكون فيه الأطفال أقرب إلى الطفيليات منهم إلى الكائنات الآدمية المستقلة.
هؤلاء الثلاثة هم أشخاص القصة. . .
أما القصة فتبدأ كما يأتي:
تقدمت للمحكمة هذه الأسرة بأفرادها الثلاثة وتهمتها أن الأبوين أحرزا مادة مخدرة (أفيون) بدون مسوغ قانوني، وطلبت النيابة فيما طلبت تطبيق نص المادة 35 من قانون المخدرات الجديد الذي قصد به محاربة المخدرات حربا رادعة
ونص المادة المذكورة هو كما يأتي:
(يعاقب بالحبس مع الشغل من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 300 جنيه إلى1000 جنيه. . . كل شخص ليس من الصيادلة أو من الأشخاص المرخص لهم بالاتجار بالجواهر المخدرة يكون قد حاز أو أحرز أو اشترى جواهر مخدرة ما لم يثبت أنه يحوز هذه الجواهر بموجب تذكرة رخصة أو تذكرة طبية بموجب أي نص من نصوص هذا القانون)
أما الوقائع فتتلخص في أن جماعة من رجال البوليس الملكي خرجوا على عادتهم يجوسون خلال الأسواق والطرقات يبحثون عمن يتجر في المخدرات أو يتعاطاها لضبطه واتخاذ الاجراءات القانونية قِبَلهَ. فصادفوا الزوج يتغنى ببلحه ورمانه وفاكهته فدهموه إذ كان يعلم أحدهم أنه ممن يشتبه في أمرهم لسابقة ضبطه ومعه مقدار من الأفيون. وأخذوا يفتشونه فتولى بعضهم شخصه وملابسه. وتولى آخرون أقفاصه وبضاعته. وبينما هم في عملهم إذ أبصر أحدهم زوج الرجل مقبلة من بعيد. فلما رأتهم محدقين بزوجها يفتشونه عادت أدراجها مسرعة، فأوجس رجل البوليس منها ريبة وتبعها في تلصص، حتى دخلت بينها اقتحمه عليها فإذا هي تلقي من يدها شيئا فالتقطه، فإذا هو قطعة من الأفيون فضبطها هي الأخرى وعاد بها إلى زوجها وطفلها على كتفها. واقتيدت الأسرة إلى مركز الشرطة حيث حرر ضدها (المحضر اللازم) وتحدد يوم للمحاكمة، وأحيل المتهمان على المحكمة (بعد أن القي القبض على الزوج وأفرج عن الزوجة بالضمان).
ظاهر القصة بنادي بأن الزوج وهو صاحب المنزل يحرز الأفيون المضبوط، إما لاستعماله الشخصي وإما لأنه يتجر فيه، ولا سيما وقد سبق للرجل أن حكم عليه بسبب إحرازه أفيونا في قضية أخرى.
وكانت المحاكم تجري في أحكامها على إدانة الرجل في مثل هذه الأحوال، وتبرئة الزوجة التي ينحصر كل عملها في محاولة تفادي الاتهام، وهو عمل مشروع من حق كل إنسان أن يأتيه، وفي السعي لتخليص زوجها ورب بيتها من مأزق وقع فيه وتوشك بسببه أن تحرم من حمايته ومعاشرته ورعايته. . .
ولكن محكمة النقض والابرام، وهي القوامة على قضاء المحاكم جميعها، فسرت نص المادة 35 المذكورة تفسيرا آخر أخذت فيه بحرفية القانون، ولها عذرها فيما فعلت: إن الشخص يجب أن يعتبر محرزا تنطبق عليه نصوص المادة 35 متى امتدت يده إلى المادة المخدرة، ولا عبرة بعد ذلك بالباعث له على تناولها، ويستوي في ذلك أن يكون إحرازه لها بقصد تعاطيها، أو الاتجار فيها. أو العمل على إخفائها لتفادي ضبطها معه أو مع شخص آخر قريب اليه.
وزاد الحالة حرجا أن هناك مادةأخرى هي المادة 40 من ذلك القانون الصارم ونصها كالآتي:
(لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذ الحبس لمن يحكم عليه في جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، وتكون الأحكام واجبة التنفيذ فورا ولو مع حصول استئنافها. ويحرم المحكوم عليه بناء على هذا القانون من استعمال حقوقه السياسية والانتخابية لمدة خمس سنوات تبتدئ من انتهاء مدة العقوبة)
يعني أن من يحكم عليه بسبب إحرازه مخدرا لا سبيل إلى استعمال الرحمة معه، فالحكم يقع عليه نافذا فورا. ولا يمكن تعليق تنفيذه أو إيقافه بحال من الأحوال، مع أن السارق والمزور وخائن الأمانة والنصاب كل أولئك وغيرهم أيضا تستطيع المحاكم أن توقف تنفيذ العقوبة التي تحكم بها عليهم إذا وجدت مبررا لذلك من جنس أو سن أو نحوهما.
وقد عرضت تلك القضية التي نحن بصددها على المحكمة فلم يكن أمام قاضيها الا طريق واحد: وهو أن يأخذ الزوجة بإحرازها المادي لقطعة الأفيون المضبوطة، فقضى عليها بالحد الأدنى للعقوبة المقررة وهي حبسها سنة واحدة مع الشغل وتغريمها200 جنيه وشمل حكمه أيضا بالنفاذ. أما الرجل فلما كان لم يضبط معه شيء وكان قضاء محكمة النقض يفيد قصر العقوبة على المحرز أياً كان السبب في إحرازه فقد قضت المحكمة ببراءته!
وهكذا انقلب الوضع!
فأصبح الرجل بريئا، وهو الذي ضبط الأفيون في بيته، والذي يفترض فيه الإحراز بحكم جنسه وبحكم السابقة التي له. أما الزوجة، تلك الصبية الغريرة الساذجة، التي هالها أن ترى زوجها بين يدي الشرطة يوشك أن يمنع من العودة إليها وإلى طفلته. والتي خشيت أن تمتد أيديهم إلى ما في منزل زوجها فأسرعت إليه تخفيه عن أعينهم. والتي لا يفترض فيها تعاطي الأفيون ولا الاتجار فيه بحكم جنسها وبحكم سنها، والتي كانت يدها وهي تمدها إلى الأفيون المضبوط يدا عارضة لا يقصد بها إحراز ولا حيازة ولا تعاط ولا اتجار، فهي التي أودعت السجن هي وطفلتها تبعا لأنها جزؤها الذي لا يتجزأ. وهي التي سوف تخرج من السجن بعد عام مدموغة بأنها (من أرباب السوابق) وكل ذلك باسم العدالة وباسم القانون!!
ان الإنسان ليفكر مرتين قبل أن يقرر أن القوانين قد كفلت العدالة.