مجلة الرسالة/العدد 17/الملك الشهيد000!
مجلة الرسالة/العدد 17/الملك الشهيد000!
في ليل يوم الجمعة الماضي سكت في (برن) قلب الملك فيصل! وما كان في حسبان أحد من دنياه أن هذا القلب الذي يجيش بالحياة، وينبض بالأطماع، ويستخف بالأمور الجسام، يسكت في وحدة الغريب ووحشة الليل الرهيب هذه السكتة المفاجئة!!
فلما نعاه البرق إلى الآفاق فزع الناس إلى الشك يدفعون به هول الخطب، ورجم بعضهم بالظنون يعللون بها بغتة الحادث، وتعذر على العقل أن يفهم الموت مقرونا إلى فيصل (صقر قريش) وقد كان إلى أمس يقطع بعزمه الجبار أجواء الشرق والغرب حاملا في يمناه العراق، وفي يسراه سورية، وفي قلبه (دولة العرب)!! ثم انجلى الشك وانجابت الظنون فإذا العراق وإذا سورية وإذا العرب أمام الفاجعة التي روعت النفوس وضرمت الأنفاس وقوضت حصون الأمل!!
لم يجزع العرب حين نعى إليهم فيصل على نفس كسائر النفوس
تغوص في لجج العدم، وانما جزعوا هذا الجزع الهالع على آمال أمة،
وجهود نهضة، ومستقبل فكرة؛ لأن ملك العراق كان مناط هذه الآمال،
ومبعث هذه الجهود، وعدة هذا المستقبل!
ومن العجيب أن يكون مصدر هذا الجزع كثرة الزعماء الأكفاء لا قلتهم! فِان هذه الكثرة كانت دائما وبالا على وحدة العرب إذا لم يقم على رأسها زعيم يعتمد في قيادتها على سلطان الدين وشرف النسب، وقد اجتمع الملك فيصل مع هاتين القوتين عقل كيس، وخلق نبيل، ونفس طموحة، وجاذبية قوية. فلا جرم أنه كان رجل الساعة لهذه الأمة الناهضة يجمع كلمتها حول رأيه، ويوحد وجهتها وراء خطاه!
عرفت جلالة ملك العراق أثناء مقامي ببغداد معرفة وثوق وخبرة. وكانت حال البلاد في ذلك الحين محنة ابتلت بها كفاية الملك النابغ: فالانتداب كان قبل الملكية يعمل في العلن ويحمل التبعة، فأصبح بعدها يعمل في السر ولا تبعة عليه، والحكومة كانت يومئذ بادية البلى ممزقة الجوانب لا تستطيع بخروقها أن تستر العرش، فالملك بحكم الوضع كان يستر الإنجليز، ولكن الوزارة بحكم الضعف كانت تكشفه. فكانت أوزار أولئك وأخطاء هؤلاء تحمل في رأي المعارضة والشعب على الملك، وكانت البطانة بعبثها تنفض ظالمة على ج البلاط ووقاره شيئا من العبث، والشعب العراقي على اختلاف منازعه وعقائده وأجناسه ناقد متمرد طموح لا يصبر على نقص، ولا يغفل عن خطأ. فقدر في نفسك كيف كان مصير الملك لو كان غير فيصل!
اضطلع الملك فيصل وحده بأعباء الملك والحكم والزعامة في هذه الحال المضطربة، فكفكف بحكمته من شرَّة الانتداب، وخفف بحنكته من عسف الوزارة، ولطف بحلمه من غضب الشعب، وصرَّف شؤون الدولة على قدر ما يسلم الرأي الحصيف من خبث الاستشارة وضعف الوزارة، ثم سهل حجابه لأمراء العشائر ورؤساء الطوائف وزعماء الأحزاب فاستل ما في صدورهم بالقول اللين والعتاب الهين والشخصية الجذابة، حتى كان الرجل منهم يدخل قصره وهو عليه، فلا يخرج منه الا وهو له! ثم نظر خارج العراق فرأى على حدوده دولا يتنزى في صدورها حقد الماضي وطمع الحاضر، فزار تركيا وفرنسا وإيران فأحال عداءها إلى صداقة وجفاءها إلى مودة! ثم اجتمع بملك الحجاز وأوفد إلى امام اليمن فأحكم أواخي المودة بينهما وبينه، ثم هداه تفكيره العملي المرن إلى أن يعالج الانتداب بالمصانعة والموادعة حتى انتهى به إلى نوع من الاستقلال يحفظ الكرامة ويعين على النهوض. دخل الملك فيصل العراق دخول الإمام الحسين! لا مال أمامه ولا جند خلفه! ولكن الحسين جرى على سياسة علي فهلك، وجرى فيصل على سياسة معاوية فملك! ثم اعتمد في تأثيل ملكه وإنهاض شعبه على الإخلاص العامل والجد النزيه، وتحامل في ذلك على دمه وعصبه وروحه حتى ذهب فيصل شهيد الواجب، كما ذهب الحسين شهيد الحق!!
كان الملك فيصل الأول ملكا من طراز خاص، ولعله كان أقرب إلى خلفاء الصدر الأول منه إلى ملوك اليوم! كان ناصع الظرف، جم التواضع، رحب الأناة، ظاهر الوداعة، زاهدا في أبهة الملك، عازفا عن مظاهر السلطان؛ فلا يخدج بتحية، ولا يمشي في حرس، ولا يتشدد في حجاب.
وكان من أجمل مظاهر ديمقراطيته الأصلية أن تراه غالبا في شارع الرشيد أو في طريق الصالحية يقود سيارته بيده، ويشق طريقه بنفسه، دون ربيئة من خلفه ولا طليعة بين يديه، فيسبقه أي سابق، ويزاحمه أي سائق!!
وقد تبكر ذات صباح إلى مدرستك أو ديوانك فتراه في ذرور الشمس قد طلع عليك بوجهه العربي المسنون، وقده السمهري الممشوق، ورشاقته الرياضية البارعة، فيسلم عليك ويتحدث اليك، ثم يتعهد المكان ويتعرف العمل، ويودعك بابتسامته الرقيقة، وملحوظته الدقيقة!
ودعا مرة مؤتمر المعلمين العراقيين إلى الشاي في حديقة قصره، فكان يجلس إلى كل منضدة من المناضد الكثيرة جلسة يفاكه أهلها بحلو الحديث، ويناقشهم في وجوه الاصلاح، ثم خطبهم في شؤون التعليم خطبة جامعة تمنى في سياقها أن يكون معلما مع المعلمين يؤدي إلى الأمة هذا الواجب المقدس. وفي صباح أحد الأيام غدا على المدرسة المأمونية الابتدائية فقضى ردحا من الزمن فيها، ثم سجل اسمه في ثبت مدرسيها! كان الملك فيصل في العراق ملك دولة، ورئيس حكومة، وزعيم أمة، وهو في الأقطار العربية مؤسس نهضة، وممثل فكرة، ورسول وحدة، وداعية سلام، ومعقد أمل! فإذا هفت النفوس جزعا لفقده، واستولى على العرب الوجوم والحيرة من بعده، فان في منطق الحوادث وطبيعة الأمور ما يسوغ هذا الجزع ويعلل هذه الحيرة. ألهم الله الأمة العربية على جلالة ملكها فيصل أجمل الصبر، وجعل لها في جلالة ملكها غازي خير العوض!
احمد حسن الزيات