مجلة الرسالة/العدد 155/من الأدب الإنكليزي
مجلة الرسالة/العدد 155/من الأدب الإنكليزي
2 - برسي شلي -
بقلم خليل جمعة الطوال
كان بروميتس هذا - كما تحدثنا عنه الأساطير الإغريقية - شخصاً سولت له نفسه الشريرة أن يسرق من السماء قليلاً من النار، ولما استجاب للتجربة وارتكب جريمة السرقة، غضب عليه إله أولمب زيوس وهو عظيم آلهة اليونان وابن الآلهة (كرونس) والآلهة فيا وشقيق نبتون. وكان من جراء غضبه عليه أن فصله عن زوجه آسيا وأمر بشد وثاقه وتقييده إلى صخرة عظيمة، حيث كانت العقبان تأتي في كل يوم وتذيقه سوء فعلته وشر صنيعه بمخالبها المحددة ومناقيرها القوية. ثم ما لبث (زيوس) أن رجع عن غضبه لأسباب عديدة، وأمر بحل وثاقه وبإرجاع آسيا إليه ثانية. وهكذا امتزجت روح المحبة في الإنسان بروح المحبة في الطبيعة، وتلخص كلاهما من الفناء الذي استحقاه بسبب جريمة بروميتس
تناول شلي هذه الأسطورة فوضعها في قالب شعري، وكان قد تناولها من قبله وليم ورودزورث، إلا أنه بينا يمتاز سبك وليم بما فيه من التحليل المنطقي وعمق الفكر الفلسفي. يمتاز شلي باتساع أفق الدائرة التي يسرح فيها خياله.
ولعل قصيدة بروميتس هذه هي خيرُ القصائد من نوعها التي تمثل لنا فكرة هدى البشرية بعد ضلالها. كانت شائعة عند اليونان وكثيراً ما ضمنها الشعراء أشعارهم، ناهيك بما فيها من الكيانات والاستعارات ومن التشابيه والمجازات التي رمى بها الشاعر من وراء ستر كثيف إلى أغراض بعيدة تجنباً لما كانت تلاقيه حرية الأفكار في العصر الفكتوري من الإرهاق والإذلال. وفي عام 1817 نظم قصيدة ثورة الإسلام استفز فيها الشعور من ذلك السبات الذي تسرب إليها عن طريق ما مُنيت به الأفكار الثورية من الإخفاق، تلك الأفكار التي كان يُعلق عليها تحقيق مثله الأسمى، والتي كان ينظر من ورائها إلى ذلك العصر الذهبي الذي كونه له خياله. تطالع هذه القصيدة فتشعر بتيار ألفاظها السحرية، وبنبرات مقاطعها النارية، تجرى في مفاصلك بشدة وعُنف؛ وما ذلك إلا لأنه قد نظمها وعواطفه تنماث في قلبه من شدة تأثر حسه وثوب خياله.
وفي عام 1815 طرق شلي باب الأساطير لا اعتقاداً منه بصحتها بل ليرفه عن نفسه من جد الدرس، وليدفع عنها سأم الحياة. ونذكر له من أمثلة هذا الشعر قصيدتين غنائيتين هما غاية في الإبداع وحسن الأداء وهما: القبرة والغيوم
ومن قصائده الغنائية الأخرى: أبولو، إلى النيل، نابولي، هيلين، الريح الغربية، الثور، المتجولون في العالم، الوقت، ثم هيلاس التي تمثل لنا يقظة اليونان وثورتهم على الأتراك واستقلالهم.
وعندما توفي صديقه كيتس عام 1821 نظم في رثائه قصيدة عامرة الأبيات، ملأها بزفرات قلبه وفلذات كبده من شدة ما ناله من الحزن لفقده، ولا يحسب من يقرأها إلا أن شلي كان صنبوراً من الدمع لا ينضب معينه على صديقه.
الدرامة
وقد حاول أن يؤلف درامة يصف فيها أحوال المجتمع ونظمه وعادات البيئة وطبقاتها، فوضع لأول مرة رواية سنسي ثم رواية ريشارد الثاني، إلا أن محاولته هذه باءت بالفشل وارتدت بالأخفاق، ولا سيما إذا قيست بأولى محاولات شكسبير ونجاحها
ومع كثرة ما لشلي من الأشعار الغنائية، فلا نكاد نجد له قصيدة واحدة تجمع إلى رقة العاطفة وقوة الخيال انتظام الفكرة وابتكار المعنى. ونستطيع أن نقول خلاصة لهذا الموضوع: إن خير ما نظمه شلي ظهر في ست السنوات الأخيرة من حياته
أما القالب الذي كان يستوعب أفكاره وأخيلته ففي غاية السبك والإبداع، بل كثيراً ما يُقوم من خياله المستكره الفسل، ومن عواطفه النافرة المستعصية. ولقد شهد له بجمال الأسلوب وروعته وليم وردزورث بقوله: (كان شلي خيرنا أسلوباً وأكثرنا ملاءمة بين موسيقى اللفظ وجمال المعنى). وشعره إلى جانب ذلك لا يكتظ بالكلمات اللاتينية التي يكتظ بها شعر ملتون وغيره. هو أبعد الشعراء عن الأساليب الكلاسيكية، وعن استعمال حوشي الكلام وغريب الألفاظ ومهجور التراكيب وأكثرهم جنوحاً إلى سهولة الأداء وإلى الألفاظ الجميلة المخارج والموسيقية الجرس، يتناولها فيجعل منها مع المعنى لحناً موسيقياً بديعاً.
وقد جمع معظم أشعاره في ديوان عنوانه ظهرت الطبعة الأولى منه سنة 1819 فنفدت لسنتها لما كان لها من الرواج. ثم ظهرت طبعته الثانية عام 1821 حاوية لقصيدته الشهيرة أَلستور، وهى ترجمة دقيقة الوصف لحياته وعواطفه التي كانت تختلج في قلبه إذ يصف فيها مقدار ما يلقاه كل شاعر حر أمام نبوغه من العقبات الكأداء التي تفل من عزيمته وتحط من شاعريته. فهي صورة جلية نتعرف منها خبايا نفسه ومنبع شاعريته. وقد ضمن هذه الطبعة دفاعه عن الشعراء والشعر ضد مهاجمة (توماس بيكوك) أتى فيه على تعريف الشعر وتاريخه وفائدته في اجتثاث سوءات المجتمع وتشذيب النفوس وصقل الذوق، بعد أن فند آراء بيكوك بلهجة يملؤها الحماس ونبرات تصحبها الثورة.
وفي شلي يقول المؤرخ المشهور والكاتب المأثور ماكولي: (لم أر في حديث الشعراء من تقرأ أشعاره فتعلق بجملتها بشغاف قلبك إلا شلي. أما والله لقد جمع بين جزالة السلف ورقة الخلف، وتعمد الإجادة فأصاب شاكلتها وبلغ غايتها، في حين أنه قصر دونها شعراء كثيرون من أترابه.) ومهما يكن في هذه الشهادة من الغلو والإسراف، فليس لنا سبيل إلى دفعها ودحضها، ذلك لأن شلي قد توفي وهو في سن الثلاثين قبل أن تنضج مواهبه
شلي والحركة الابتداعية:
ترجع هذه الحركة في تاريخها إلى تلك البذرة التي بذرها السير فرنسيس باكون (1561 - 1626) حين أهاب في الأدباء منادياً بأن نظم الحضارة الأرستقراطية تفسد عاطفة الأدب الصالحة، وتبهم عبارة البلاغة الواضح، وأن ليس لهم إلا الخروج عليها واقتفاء أثر الطبيعة في جميع أغراض الأدب نظماً ونثراً، بل وفي أنظمة الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ هي وحدها منبع جميع مشاعر الأديب الحسية ومُسْتفَز ملكاته الخيالية: وإذ كان بيكون غارس بذرة هذه الحركة، فقد كان جان جاك روسو هو الذي تعهد تربتها، وترعرعت في عصره غرستها، حتى آتت أكلها على يد وليم وردزورث ورفاقه، وهم كيتس، ووسلي، وبيرون، وشيلي. وجميعهم يعنى بجمال الأسلوب قبل الفكرة، ويعتمد على الخيال أكثر من الحقيقة، ويهتم في البحث عن أصول الأشياء واستجلاء غوامضها، لا في ذاتها، بل في الطبيعة على اعتبار أنها أجزاء منها، وهم يجعلون موضوع دراستهم الرجل العادي لا الأرستقراطي، ويمارسون الأدب على أنه من وسائل إصلاح المجتمع واجتثاث سوءاته لا على أنه فنّ قائم بذاته لا علاقة له بالهيئة الاجتماعية. وعلى هذا القياس فان درجة الشاعر تعظم في نظرهم بمقدار ما يكون لأشعاره من الإصلاح ومن بليغ الأثر في توجيه دفة الهيئة نحو هذا الإصلاح وتحويل الرأي العام إلى قبوله لا بمقدار ما تثيره من الشعور وتجلبه من عوامل اللذة الروحية المجردة. ويكره شلي من الشاعر خاصة أن يلجأ إلى بحوث عالجها الشعراء من قبله، إذ لا يرى إلى ذلك من ضرورة مطلقة لا سيما والطبيعة دائمة التحول والاستمرار
(البقية في العدد القادم)
خليل جمعة الطوال