مجلة الرسالة/العدد 155/ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 155/ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي
اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرجنة
في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر
لفيلسوف العرب أبى الوليد بن رشد
(تابع المنشور في العدد الماضي)
تلخيص وتحليل
للأستاذ خليل هنداوي
ومنه قول المتنبي:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
لو الفلك الدوار أبغضتَ سيرَه ... لعوّقه شيء عن الدوران
وهذا كثير موجود في أشعار العرب، ولا نجد في الكتاب العزيز منه شيئاً، إذ كان يتنزل من هذا الجنس من القول، أعني الشعر، منزلة الكلام السوفسطائي من البرهان؛ ولكن قد يوجد للمطبوع من الشعراء منه شيء محمود كقول المتنبي:
وأنى اهتدى هذا الرسولُ بأرضه ... وما سكنت مذ مر فيها القساطل
ومن أي ماء كان يسقي جياده؟ ... ولم تصف من مزج الدماء المناهل
وقوله:
لبسن الوشى لا مُتَجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
وضفَّرن الغدائر لا لحسن=ولكن خفن في الشعر الضلالا
وههنا موضع آخر مشهور من مواضع المحاكاة يستعمله العرب وهو إقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذا كانت فيها أحوال تدل على النطق، كقول الشاعر:
وأجهشت للتوباد لما رأيتهُ ... وكبر للرحمن حين رآني
فقلت له: أين الذين عهدتهم ... حواليك في أمن وخفض زمان
فقال: مضوا واستودعوني بلادهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدث ومن هذا الباب مخاطبتهم الديار والأطلال ومجاوبتها لهم كقول ذي الرمة:
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
وقول عنترة
أعياك رسم الدار لم يتكلم ... حتى تكلم كالأصم الأعجم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
وذكر أرسطو أن هوميروس كان يعتمد هذا النوع كثيراً
وإجادة القصص الشعري والبلوغ فيه إلى غاية التمام أن يكون متى بلغ الشاعر من وصف الشيء أو القضية الواقعة التي يصفها مبلغاً يرى السامعين له كأنه محسوس ومنظور إليه وهو كثير في شعر الفحول، لكن إنما يوجد هذا النحو من التخييل للعرب إما في أفعال غير عفيفة، وإما فيما القصد منه مطابقة التخييل فقط. مثال الأول قول أمرىء القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال
فقالت: سباك الله إنك فأضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي
فقلت: يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومثال الثاني قول ذي الرمة يصف النار:
وسقط كعين الديك عاودت صحبتي ... أباها، وهيأنا لموقعها وكرا
فقلت لها ارفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قته قدرا
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن ... عليها الصبا واجعل يديك لها سترا
والمتنبي أفضل من يوجد له هذا الصنف من التخييل، ولذلك يحكى عنه أنه كان لا يريد أن يصف الوقائع التي لم يشهدها مع سيف الدولة، على أن تعديد كل مواضع المحاكاة مما يطول، وإنما أشار أرسطو بذلك إلى كثرتها واختلاف الأمم فيها.
نقد المحاكاة
أراد بهذا الباب أن يبدي المعايب التي يجب على الأديب أن يجتنبها لأنها من عيوب الإنشاء. واستشهد على ذلك بهوميروس فقد كان يعمل صدراً يسيراً ثم يتخلص إلى ما يريد محاكاته من غير أن يأتي في ذلك بشيء لم يُعتد لكن ما قد اعتيد، فأن غير المُعتاد مُنكر. ولعله دل بذلك على مظهر من مظاهر البساطة التي يزداد بها الكلام روعة وتسلسلاً. فكلما كان الكلام بسيطاً ممتنعاً كان أذهب في البلاغة وأبعد في الروعة. ولعل ابن رشد أراد أن يجد مغمزاً في الشعراء الذين يحيدون عن غرضهم الموصوف إلى أغراض مختلفة ليست من الموضوع في شيء كالنسيب والغزل المتكلف البالي، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً. ثم يرى أن يكون التركيب على المشهور عندهم سهلاً عند النطق، وهو عند العرب الفصاحة. وأما أنواع المحاكاة غير المقبولة فعد أشهرها:
منها أن يحاكى بغير ممكن بل ممتنع، وهو الذهاب في أغراب الصورة حتى لا تطابق الواقع وغير الواقع، كقول ابن المعتز يصف القمر في تنقصه:
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وإن هذا لممتع.
ومنها تحريف المحاكاة عن موضعها كما يعرض للمصور أن يزيد في الصورة عضواً ليس فيها، أو يصوره في غير مكانه؛ وقريب منه قول بعض المحدثين يصف الفرس:
وعلى أذنيه أذن ثالث من سنان السمهري الأزرق ومنها محاكاة الناطقين بأشياء غير ناطقة، وذلك أن الصدق في هذه المحاكاة يكون قليلاً والكذب كثيراً، إلا أن يشبه من الناطق صفة مشتركة للناطق وغير الناطق كتشبيه العرب النساء بالظباء وببقر الوحش
ومنها أن يشبه الشيء بشبيه ضده أو بضد نفسه، كقول العرب (سقيمة الجفون) في الحسنة الغاضة النظر، فان هذا ضد الصفة الحسنة، وإنما آنس بذلك العادة ومنها أن يأتي بالأسماء التي تدل على المتضادين. ومنها أن يترك الشاعر المحاكاة الشعرية، وينتقل إلى الإقناع والأقوال التصديقية، وبخاصة متى كان القول هجيناً قليل الإقناع كقول امرئ القيس يعتذر عن جبنه:
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت ... مرابطها من بَرْبعيص ومسيرا
وقد يحسن هذا الصنف إذا كان حسن الإقناع أو صادقا كقول الآخر:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أُقتل، ولا ينكي عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
فهذا القول إنما حسن لصدقه، لأن التغيير الذي فيه يسير، ولذلك قال القائل: يا معشر العرب لقد حسنتم كل شيء حتى الفرار وأما أمثلة المحاكاة المبنية على التوبيخات فهي غير موجودة عندنا، إذ كان شعراؤنا لم تتميز لهم هذه الأشياء ولا شعروا بها. ولا أدرى ما يريد ابن رشد بهذه التوبيخات، فان كانت الاعتذاريات فللأدب العربي طائفة منها قد تكون قليلة، ولكنها رائعة لطيفة المأخذ. وكفي باعتذاريات النابغة دليلاً؛ ومن يجحد ما للمتنبي والبحتري من لطيف الاعتذار والتوبيخ، والعتاب؟ ثم ينتقل ابن رشد إلى بحث صناعة الأشعار القصصية، ويريد بها حوادث التاريخ فيقول: إن محاكاة هذا النوع من الوجود قليل في لسان العرب (وكأنه يعترف ضمنا بوجود أنواع منه) وهوميروس هو أبرز من عندهم. ومن جيد ما في هذا المعنى للعرب قول الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرق؟ ... تركوا منازلهم، وبعد أياد
أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكل ما يُلهى به ... يوماً يصير إلى بلىً ونفاد
وقد تدل هذه الأبيات الخالية من الروح القصصية على أن ابن رشد لم يتفهم جيداً ما أراد أرسطو بصناعة الأشعار القصصية. ذلك لأنه لم يتأت له أن يقف على هذه الصناعة ويعرف مناهجها. ولأن تكون هذه الأبيات إلى باب العبر أحق من إلحاقها بباب القصص. وما أكثر ما تتردد هذه النغمة في شعر العرب؟ وهى نغمة شاذة عن الألحان القصصية، لأن الشاعر فيها يستلهم عاطفته؛ والقصة لا يغني فيها استلهام العاطفة وحدها. وكأن ابن رشد أراد أن يستنفذ حكمه كمؤرخ فاستطرد وقال: وقد أثنى أرسطو على هوميروس. وكل ذلك خاص بهم وغير موجود مثالهُ عندنا. إما لأن ذلك الذي ذكرت غير مشترك للأكثر من الأمم، وإما لأنه عرض للعرب في هذه الأشياء أمر خارج عن الطبع وهو أبين!
(البقية في العدد القادم)
خليل هنداوي