انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 15/بلياس ومليزاند

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 15/بلياس ومليزاند

مجلة الرسالة - العدد 15
بلياس ومليزاند
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1933



للفيلسوف البلجيكي موريس ماترلنك

ترجمة الدكتور حسن صادق

اركل - من القادم؟

جنفييف - انه بلياس وفي عينيه أثر البكاء.

اركل - هذا أنت يا بلياس؟ اقترب مني حتى أراك في النور.

بلياس - تسلمت يا جدي رسالة من صديقي مارسيللوس في الوقت الذي تسلمت فيه كتاب أخي. . . إن هذا الصديق العزيز علي يعاني ألم الاحتضار. وهو يستقدمني إليه ليراني قبل أن يفارق العاجلة. ويقول في رسالته إنه يعرف بالدقة اللحظة التي سيموت فيها، وأني أستطيع الوصول إليه قبل حلول تلك اللحظة إذا شئت. إني ذاهب إليه في الحال.

اركل - يجب عليك أن تنتظر قليلا، على الرغم من ذلك أننا لا ندري ماذا تعده لنا عودة أخيك. ثم هل نسيت أن أباك ملقى على فراشه في الغرفة التي فوقنا، وقد شفه الداء وبراه السقم؟ أليس من الجائز أن يكون أشد مرضا من صديقك؟ ومن أولى برعايتك وعطفك، الوالد أم الصديق؟ (يخرج)

جنفييف - لا تنس أن تشعل المصباح الليلة يا بلياس (يخرجان متفرقين).

المنظر الثالث

(أمام القصر. تدخل جنفييف ومليزاند)

مليزاند - ما هذا السكون المعتم الذي يخيم على الرياض؟ انه يدخل على النفس الرهبة والاكتئاب! وما هذه الغابات الكثيفة الجاثمة حول القصر؟!

جنفييف - لما وطئت هذا المكان أثار هذا المنظر العجب في نفسي وأخذ منها مأخذا شديدا. انه رائع مخوف يغرق كل من رآه في التأمل العميق. توجد أمكنة لا يرى الإنسان فيها نور الشمس ولا ضوء القمر، فإذا ما طال مقامه بها ألفها واطمأن إليها. . . قضيت في هذا القصر الموحش أربعين عاما أو تزيد قليلا. . . لو نظرت إلى الناحية الاخرى لرأيت نورا ينبعث من ماء البحر.

مليزاند - أسمع حركة قريبة منا.

جنفييف - نعم. أحد الناس يسير نحونا. . . آه! انه بلياس. .

ما يزال التعب باديا في أسارير وجهه وفي خطواته المتثاقلة. . . لقد انتظركما طويلا.

مليزاند - إنه لم يرنا.

جنفييف - أعتقد أنه رآنا، ولكنه لا يعرف ما يجب عليه عمله، بلياس، بلياس، أهذا أنت؟

بلياس - نعم. إني آت من شاطئ البحر.

جنفييف - ونحن أيضا كنا نبحث عن مكان ينعم بشيء من النور، ولكننا لم نجد مكانا أقل ظلمة من هنا. كنا نرجو أن نجد البحر منيرا فألفيناه قاتماً مكفهرا. . .

بلياس - ستهب الليلة عاصفة كما هبت من قبلها عواصف في الليالي القليلة الماضية. . . ومع ذلك أرى الجو هادئا في هذا المساء، والسماء مصحية والبحر ساكنا لا تعروه رعدة ولا تعلوه موجة، قد يركب البحر الليلة إنسان وهو مطمئن الخاطر مثلوج الفؤاد، حتى إذا بعد عن الشاطئ، دهمته العاصفة، وحطمت السفينة، وابتلعه اليم في جوفه. . .

مليزاند - أرى شيئا يخرج من المرفأ.

بلياس - لا بد ان يكون هذا الشيء سفينة كبيرة. . . الأنوار عالية، وسنرى السفينة بعد قليل حينما تبلغ الموضع الذي فيه أشعة الضوء.

جنفييف - قد يحجبها عن عيوننا الضباب الراقد على سطح البحر فلا نراها.

بلياس - كأني بالضباب يعلو في دءوب وبطء. . .

مليزاند - نعم. . . أرى الآن على البعد نورا ضئيلا لم أره قبل ذلك.

بلياس - هذا هو ضوء منارة. .، توجد منارة أخرى لم نرها بعد.

مليزاند - بلغت السفينة الحيز المضيء. . . إنها الآن بعيدة عن الشاطئ.

بلياس - إنها تبتعد مسرعة وقد نشرت كل شراعها.

مليزاند - وهي التي جازت بي إلى المرفأ. . . إن لها شراعا كبيرا أعرفه حق المعرفة.

بلياس - سيباغتها الليلة هياج البحر!

مليزاند - ولماذا أقلعت في هذا المساء؟. . . اختفت عن الأبصار أو كادت. قد تحل بها كارثة في وحشة الظلام!

بلياس - الليل يبسط على الكون ظلمته في سرعة غريبة (سكوت) جنفييف - حان الوقت لدخول القصر. بلياس، دل مليزاند على الطريق. إني ذاهبة لأرى (اينيولد) الصغير وامكث بجانبه بعض لحظات (تخرج)

بلياس - لم أعد أرى شيئا على سطح البحر.

مليزاند - أرى أنوارا أخرى. . .

بلياس - إنها المنائر الأخرى. . . أتسمعين صوتا يأتينا من البحر؟ إنه زفيف الرياح وقد مسحت عن عينيها فتور الكرى. . . هاتي يدك. . . الطريق من هنا.

مليزاند - انظر. . . انظر. . . في يدي أزهار كثيرة!

بلياس - اعتمدي على ذراعي. . . ان الطريق كثيرة الالتواء شديدة الانحدار، والظلام حالك متكاثف. . . في نيتي الرحيل غدا.

مليزاند - أوه! لماذا تنوي الرحيل؟ (يخرجان)

الفصل الثاني

المنظر الأول

(عين ماء في الحديقة. يدخل بلياس ومليزاند)

بلياس - تجهلين دون ريب هذا المكان الذي قدتك إليه. . . إني افزع إليه في كثير من الأوقات فرارا من شدة القيظ. . . الحر خانق اليوم، حتى تحت ظل الشجر!

مليزاند - أوه! الماء صاف!

بلياس - وهو بارد منعش كعهدي به أيام الشتاء. . . هذه عين ماء عتيقة أهملت منذ زمن بعيد، وأظنها كانت تأتي بالمعجزات. . . كانت تشفي الأعمى ولذلك ما يزال الناس يطلقون عليها (عين العمى)

مليزاند - ولم تعد تنتج هذا الأثر؟

بلياس - من يوم أن ضعف بصر الملك وشارف العمى لم يعد يتردد على العين أحد.

مليزاند - ما أثقل الوحدة على صدر الإنسان في هذا المكان! إني لا أسمع فيه حسا ولا ركزا!

بلياس - السكون التام الغريب يألف هذا المكان في كل حين ويستطيب صحبته في كل آن. . . انظري إلى الماء، انه في سبات عميق. . . اجلسي إذا شئت على هذا المرمر الذي يحيط بالعين. . . فوق رأسك شجرة الزيزفون لا تخترقها أشعة الشمس.

مليزاند - سأرقد على المرمر. . . إن شوقاً ملحاً يدفعني إلى رؤية القاع.

بلياس - لم ير قط. . . قد تبلغ العين في عمقها البحر.

مليزاند - قد يرى الإنسان قاعها إذا وضح فيه شيء يلمع.

بلياس - لا تنحني هكذا!

مليزاند - أرغب في لمس الماء.