مجلة الرسالة/العدد 15/النجوم
مجلة الرسالة/العدد 15/النجوم
للقصصي الفرنسي ألفونس دوديه
عندما كنت أرعى الماشية على جبل (اللبرون) كنت أقضي أسابيع طويلة لا أبصر في خلالها مخلوقاً حياً غير كلبي (لابري) وقطيعي في المرعى، وقسيس جبل (الأور) وبعض عمال (البيامون) مارين من هناك في سبيلهم، تلك الجماعة التي أخرستها الوحدة وشغلتهما عن تسقط أخبار قرى الساحل ومدنه. ولهذا كنت أشعر بالسعادة تمر بي كلما سمعت رنين أجراس بغلنا آتيا يحمل إليّ الزاد كل خمسة عشر يوماً، مرة مع أجيرنا ومرة مع عمتي. فكنت أتلقى منهما أخبار البلد من تعميد وزواج وغير ذلك، وأهتم خاصة بما آلت أليه أبنه سيدي الآنسة ستيفانيث، هذه الآنسة التي فاقت أترابها بجمالها الفاتن، وأستفهم بلباقة عما إذا كانت تكثر من حضور الحفلات العامة أو قضاء الليالي الراقصة، وهل تقدم إلى خطبتها أحد، كل ذلك كنت أقف عليه دون أن أترك لمحدثي سبيلاً يلحظ منه هذا الاهتمام البالغ. ومن يسألني الآن لماذا كانت تعنيني هذه الأمور أجبه بأني شاب في العشرين من عمري وأن الآنسة ستيفانيت أجمل فتاة رأيتها في حياتي.
وفي ذات مرة كنت أنتظر الزاد يوم الأحد فتأخر عن موعد وصوله، فحملت ذلك في الصباح على (حفلة القداس الكبير) وفي الظهر على أن الدابة لم تستطع متابعة سيرها لرداءة الطريق بعد هبوب العاصفة الشديدة، وفي الساعة الثالثة بعد الظهر تماماً، بينما الجو في صفاء أديمه، والجبل يرفل في حلته اللؤلؤية. وخرير المياه يشنف أذني. سمعت رنيناً مطرباً كأنه رنين الناقوس في عيد الفصح، فتحققت أن الدابة التي أنتظرها آتية، ولما تبينتها ملياً لم أر معها لا الأجير ولا العمة وإنما رأيت عليها. . أتعرف من!. . . آنستنا! نعم آنستنا ستيفانيت نفسها، فقد شاهدتها منتصبة على ظهر البغل بين السلال، موردة الوجنتين كأن نقاوة الهواء وطراوة الجو بعثتا في وجهها الحياة.
وقبل أن تطأ قدماها الأرض أخبرتني أن الأجير المسكين مريض لا يغادر فراشه، وأن عمتي (نوراد) غائبة منذ أيام عند أبنائها، ولما سألتها عن سبب إبطائها أجابت (إني ضللت الطريق) ولكن من يبصرها في أبهى زينتها، بشريطها الحريري المغطى بالزهر، وردائها اللماع الحواشي، يحكم بأنها كانت تلهو بالرقص لا بالتفتيش عن الطريق بين الأدغال.
آه ما ألطف هذه المخلوقة التي لم تملها عيناي وما أجملها! كنت بالأمس أشاهدها أحياناً في الشتاء وأنا عائد في المساء من الحظيرة إلى المزرعة لأتناول طعامي، فكانت تدخل غرفتها وهي في زينتها وكبريائها دون أن تكلم أحداً من الخدم. . . حينئذ علمت أني ما تأملتها من قبل في مثل هذا القرب. وبعد أليست الآن واقفة أمامي في هذه الخلوة التامة فلم لا أعانقها؟
ولما أفرغت (ستيفانيت) السلال أخذت تتأمل ما حولها باهتمام ثم نزعت ثوبها الفضفاض، الذي لا ترتديه ألا أيام الآحاد، خوفاً عليه من التلف، ودخلت المراح تريد أن تشاهد المكان الذي أنام فيه، وفراش القش المغطى بفروة الخروف، ومعطفي الضخم المعلق على الجدار، وهراوتي الغليظة، وبندقيتي العتيقة، فكان في هذه الأشياء مسلاة لها.
- إذن أنت تقضي أيامك في هذا المكان أيها الراعي المسكين؟ لا بد أن تكون قد مللت الحياة في هذه الوحشة وتلك العزلة! وإلا فقل لي ماذا تفعل، وفيم تفكر؟
فهممت بأن أجيبها: (أني أفكر فيك يا سيدتي) كما هو الواقع، ولكني كنت في حالة اضطراب شديد، فلم أجد كلمة واحدة أقولها لها. ولما توسمت وجهها لاحظت أنها شعرت بما يجول بخاطري، وكأني بها أرادت أن تزيد في حيرتي وتلعثمي لتتلذذ في قرارة نفسها، فقالت:
- وصديقتك العنزة الذهبية اللون، هل تزورك أحياناً؟ أنا لا اشك في إخلاص هذه الشيطانة التي لا يلذ لها الجري إلا على رؤوس الجبال. . .
ولكن ستيفانيت بوجهها الضحوك، ورأسها المنحني، وإسراعها في العودة إسراعا كاد يجعل في زيارتها إغماضة عين، كانت أشبه بهذه الشيطانة المذكورة.
- أستودعك الله أيها الراعي.
- سلاماً يا سيدتي.
ولم أتم جوابي حتى كانت في طريقها وليس معها غير سلالها الفارغة. ولما اختفت عن ناظري في المنحدر خلت أن الحجارة المتناثرة من حوافر الدابة كانت تقع على قلبي واحدة بعد واحدة.
ومع أنها أصبحت بعيدة عني فقد ظل صوت الحجارة المتناثرة يدوي في أذني. وبقيت حتى أزف المساء كأنني في غفوة لا أتحرك من مكاني خوفا من أن يتبدد هذا الحلم اللذيذ.
ولم أصح الا على صوت يناديني من السفح. وكان الليل بدأ يرخي سدوله والقطيع أخذ يزاحم بعضه بعضاً ليدخل الحضيرة. وبينما أنا أفتش عن مكان الصوت ظهرت أمامي فجأة الآنسة ستيفانيت، ولكن بغير الهيئة التي قابلتني بها في المرة الأولى. قابلتني وهي ترتجف من البرد والخوف، وأثوابها مبللة، فعلمت حينئذ أن فيضان نهر (السورغ) في الوادي بعد تلك العاصفة الشديدة أخذ عليها الطريق، فخافت على نفسها إن هي اجتازته. والأغرب من ذلك أنها ساعة ودعتني ما كان يجب عليها أن تفكر في الرجوع إلى المزرعة، وما كان بإمكاني ان اترك القطيع وحده لأرافقها في طريقها الوعر.
ويظهر أن فكرة الإقامة هذه الليلة في الجبل كانت تزعجها ولا سيما عندما كانت تفكر في قلق أهلها عليها. فكنت أهديء من روعها واطمئن بالها بما أستطيع اليه سبيلا. واذكر أني قلت لها أن ليالي يوليو قصيرة، وان السماء يصفو أديمها بعد حين.
وأشعلت النار بسرعة وأخذت أدفئ قدميها وأجفف أثوابها. ثم قدمت اليها شيئا من الجبن والحليب. ولكنها لم تكن لتفكر في الدفء ولا في الأكل تلك الساعة، واسترسلت في النحيب حتى كدت أبكي لبكائها.
ولما أرخى الليل سدوله تماما ولم يبق على قمة الجبل غير شعاع حائل من الشمس، والا قطفة من نور في حواشي الأفق؛ أمسكت بيد الآنسة وأدخلتها المراح لتستريح، فتمددت على فروة ناعمة الصوف كنت قد فرشتها على القش الطري، ثم خرجت من عندها لأجلس لدى الباب متمنيا لها ليلة سعيدة. . .
ويشهد الله أني لم تخامرني فكرة سيئة قط، بالرغم من نار الحب المتأججة في دمي. ولكني كنت فخوراً جداً لأن في زاوية من المراح تنام في حراستي ابنة سيدي كأنها نعجة أثمن من تلك النعاج التي ترمقها بنظرات الاهتمام وأشد منها بياضا.
والحق يقال إنني لم أرَ السماء من قبل بمثل هذا الصفاء الذي رأيتها به في تلك الليلة. ولا النجوم بمثل هذا النور الساطع الذي كانت ترسله. .
وفجأة فتح باب المراح: وظهرت منه ستيفانيت. فالغنم كانت تزعجها بأصواتها فتمنع عنها لذة النوم. لذلك أحبت ان تأتي قرب النار. ولما لاحظت منها ذلك وضعت معطفي على كتفيها وأرّثت النار ثم أدنيتها مني. وبقينا مدة جالسين جنبا إلى جنب لا نجد حديثا نفتحه ولا حادثا نشرحه.
ويعلم الذين قضوا بضع ليال في الفلوات أن عالما خفيا يهب من سباته ساعة ينام الإنسان في هذا الانعزال التام والسكون العميق، في هذه الساعة تستيقظ الطبيعة، فالينابيع تغني بصوتها العذب، وترسل المياه الراكدة بريق لألائها السماوي. وتأخذ الأشباح تروح وتجيء، وترتفع في الهواء أنغام خفية وأصوات كالحفيف، وكأن الأغصان أخذت تمتد والأعشاب تنمو. فالنهار يعطي الحياة للمخلوقات الحية، أما الليل فيعطيها للأشياء الميتة. وهذا مما يرعب الإنسان إذا لم يكن له به سابق عهد أو عادة. . ولهذا كانت الآنسة ترتجف أبداً من الخوف، وتلتصق بي كلما سمعت صوتا كأنها طفلة صغيرة.
وفي ذات مرة تعالت جلبة محزنة من المستنقع في الوادي وارتفعت إلينا تموجاتها مع الأثير. ثم رأينا شهابا جميلا يهوي فوق رأسينا من عل ويتجه نحو ذلك المستنقع كأن الضجة التي كرهنا سماعها تحمل معها بارقة خير. فسألتني ستيفانيت:
- ماذا جرى؟
- نفس دخلت الجنة يا سيدتي.
فرسمنا الصليب على صدرنا ثلاثا وبقيت هي تنظر إلى السماء بنفس مطمئنة، ثم قالت:
- أصحيح ما يقال عنكم معشر الرعاة أنكم سحرة؟
- لا يا سيدتي، إنما نحن اقرب هنا إلى النجوم من سكان السهل، ولذلك فنحن أكثر منهم علما بما يجري فيها.
ثم وضعت يدها على فؤادها وقالت:
- ما أكثر هذه النجوم وما أجملها! أنا في حياتي ما رأيت هذا المنظر. . . . هل تعرف أسماءها أيها الراعي؟
نعم أيتها الآنية. . . . انظري! فوق رأسينا تماما ترين (طريق سان جاك) (المجرة) الممتدة من فرنسا إلى إسبانيا، تلك الطريق التي اختطها (سان جاك دي غاليس) ليري الفاتح العظيم (شارلمان) سبيله عندما كان يحارب (العرب) وعلى مسافة منها ترين محفة الأرواح (بنات نعش الكبرى) بأقطابها الأربعة الساطعة. وعلى مقربة منها (الحيوانات الثلاثة). والنجم الصغير المقابل للثالثة هو (السائق)؛ وانظري من حولها هذه النجوم الهاوية، إنها النفوس التي لم يقبلها الخالق في جنته. . . . وتحتها بقليل ترين (المشط) أو (الملوك الثلاثة) (الجوزاء) التي نستعين بها على معرفة الوقت. فيكفي أن القي عليها نظرة واحدة لأتأكد أن نصف الليل قد انقضى. وعلى مسافة منها للجنوب يلمع (جان دي ميلان) سراج الكواكب كلها (الشعري اليمانية) واليك الحكاية التي يرويها الرعاة عنها:
في ذات ليلة دعيت الشعري اليمانية و (الملوك الثلاثة) والثريا إلى حفلة زواج إحدى صديقاتها النجوم. فتقدمت الثريا رفيقتيها وانطلقت حتى استقرت في أعالي طبقات الجو كما ترينها؛ ولحق بها (الملوك الثلاثة) بطريق أدنى؛ أما الكسول (جان دي ميلان) فقد أخره نومه عن اللحاق بها، فاغتاظ ورماها بعصاه ليقفها في مكانها. ولهذا يطلقون أحيانا اسم (جان دي ميلان) على (الملوك الثلاثة).
ولكن اجمل النجوم وأكبرها قدرا (نجمة الراعي) التي تنير لنا الطريق في الفجر عندما نخرج بالماشية إلى المرعى، وفي المساء عندما نعود بها إلى الحظيرة. ونسميها أيضا (ماغلون) وهي الجميلة التي تمشي دائما إثر (بير دي بروفانس) (زحل) لتتزوج به كل سبع سنوات مرة واحدة.
- ماذا تقول! وهل من زواج عند النجوم؟
- نعم أيتها الآنسة.
ولما أخذت اشرح لها محور هذا الزواج أحسست بشيء ناعم يثقل على كتفي في لطف ورقة؛ فنظرت فإذا برأسها الناعس متكئا علي، وإذا بشرائطه الحريرية وتخاريمه اللطيفة وشعره المجعد يحتك بي إلى أن بدأت الكواكب تصفر في سمائها، وأخذ ضوء الفجر ينبثق في الأفق البعيد ليمحو أثرها. أما أنا فكنت أتأمل الفتاة النائمة بشيء من الحزن الخفيف. لا أفكر في هدأة الليل وصفائه إلا بكل ما هو جميل وشريف. وعلى جوانبنا تتابع النجوم سيرها ببطء وسكوت كأنها قطيع من الغنم. وبين الفينة والفينة كنت أشعر أن ألطف وأجمل نجمة كانت قد أظلت الطريق فهبطت إلى كتفي فنامت عليه بهدوء. . . .
كيفون (لبنان). محمد كزما