انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 138/أجاممنون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 138/أجاممنون

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1936


3 - أجاممنون

للأستاذ دريني خشبة

تتمة

- (باريس! لقد خربت زيجتك وبيتك. . . أجل. . . أنت وأختك. . . أوه يا نهر سكمندر المصطخب! لقد جرع أبي منك جرعة، وعلى ضفافك شببت وترعرعت، فيا لشقوتي! أما ألان. . . فإن نبوءاتي تتواثب على شطئان كوكيتوس واشيرون. . .)

- (أو ضحى بحق أربابك عليك أيتها الفتاة! إن آلامك تثب في صدري فتخز أشواكها حبة قلبي. . .)

- (طراودة!! أهكذا سقطت إلى الأبد!! أهكذا تندلع النيران في أبراجك الشواهق! أهكذا ينبطح أبي الملك الشيخ مضرجاً بدمه؟. . . ويلاه. . . بعد لحظات أغرق في لجة من دمي مثلك يا أبي. . .)

- (عود إلى النغمة الملغوزة السالفة!! ما أحسب إلا أن ألهاً قاسياً يدريك بعنف في هذه الحمأة المسنونة!!)

- (نغمة ملغوزة!! لا! لن ألغز يا رفاق! سأجد لكم السر الهائل الذي خبأته الجريمة السنين الطوال في هذا القصر! هنا! تآمر الآثمون في الظلام. . . وكان الظمأ إلى الدم يشد عزائمهم جميعاً! كانوا يدلفون إلى كهفهم فيتغنون آلامهم ويستنزلون اللعنة على. . . خصمهم. . . وهو منهم، وهم مع ذاك منه. . . أخوهم. . . وهم أخوته وأقاربه. . . قتلوه. . . قتلوه وهو مستسلم للكرى الهادئ. . . أليس كذلك يا سادة؟ أهذه ثرثرة، أم أنا أهذي؟. . .)

- (بل أنت قد صورت ما حدث منذ أعوام وأعوام كأنك ترين إليه الآن. . .)

- (هذا من فضل أبوللو عليّ! لقد أمدني بروح من عنده)

- (ولمه؟ هل شغفه حبك مرة؟)

- (. . .؟. . . . . .؟. . . لا أقدر أن أقول؟. . .)

- (ما كان ضرك لو تلطفت معه. . . . . .!)

- (إيه. . . كم كان رقيقاً حينما كان يصارع فؤادي؟) - (وهل في وسعك أن تضعي حداً لمغامراته؟)

- (لقد وعدته. . . ولكنه خان ميثاقي!. . . أواه! وا أسفاه! تعالي! لقد ثارت الزوبعة من جديد! لا أطيق أن أكتم الحقيقة! انظروا يا رفاق! أول الشجو! ما هذه السمادير التي تغشى سماءكم؟ يا لأفلاذ الأكباد! يا للصغار! إنهم يذبحون بنفس الأيدي التي كان أجدر لو ترفقت بهم وحنت عليهم!. . . يا للهول!. . . أبوهم يمد يده البريئة فيأكل شرائح مشوية من أكبادهم وضلوعهم!. . . إن لهذا قد دبر انتقام دموي هائل. . . وهاهو ذا الأسد! الأسد الجبان النذل، الذي تقلب في سرير صاحب الجلالة - بحر اللذة والدنس!. . . إذ صاحبه نازح يغزو!. . . لا ضير أن يكون أحد أسيراً مرة، ولكن هذا الفاتح العظيم! غازي طروادة! سيد الأسطول اللجب! إنه لا يدري السر الهائل الذي تقبره زوجته. . . السفاحة. . . التي تتحوى كالأفعى، وتهسهِس في الظلام المنتشر حول نفسها، وتوسوس إلى شركائها بأفسق الجرائم. . . لقد فاقت في الحب كل مثل فما أدرى بم أشبهها؟ آه! إنها أشنع من سكيلا (هذه الهولة الرائعة، ذات الرؤوس الستة التي تنفث السم، وتغتال رواد البحار!. . .) الآن! الآن ينفذ سهم القضاء عن قوس غدرها. . . والآن! ستعترفون أنني ما ألغزت، وما قلت غير الحق!. . .

- (الحق كل الحق يا فتاة. . . لقد رويت ما كان من وليمة ذيسيس، وما تم فيها من نهشه لحم أطفاله وهو لا يدري. . . يا للهول. . . ما نزال نقشعر كلما روعنا رجع تلك الذكريات. . .)

- (إذن سيموت مولاكم أجاممنون. . . وسترون بأعينكم!)

- (يا شقية! لا تهرفي بهذا الهراء!)

- (ولن أدعو أرباب الخلاص هذه المرة!)

- (وهل خلاص من الموت؟ ولكن عسى ألا يكون قريباً!)

- (أنتم ترجون، بينا غيركم يذبحون. . . أو يكادون!)

- (وأيما إنسان يا ترى يضطلع بهذا النكر؟)

- (أيما إنسان! إن السهم المراش يطوي ما بين المشرقين؟)

- (أجل، ونحن لا نستطيع أن نحدس من يجرؤ على هذه الفعلة!) - (أنا أقولها؛ وحسبي أنني استطعت أن أكلمكم بلسانكم الهيلاني كواحدة منكم!)

- (وهكذا استطاعت البيثونة من قبل. . .! وكان كلامها ملغوزا دائما كذلك!)

- (يا للشجي! يا للجمر المتقد! إنها تقدم! الغوث يا أبوللو! يالي من تاعسة! هذه اللبؤة الآدمية! إنها تضطجع مع الذئب بينا أسدها الهصور نازح عن الديار. . . وأنا! أنا التاعسة قد جئت لأضاعف أحقادها عليه؟ جئت لأجعل السكين مسنوناً أكثر! ها هي ذي تحدث ذئبها أني أنا أيضاً ينبغي أن أذبح جزاءً لي!. . . فيم إذن أبقي على مسوحي وعصاي! عصاي السحرية! لأمزق المسوح ولأحطم العصا! (وتمزق وتحطم) اذهبا إلى الفناء فأني لاحقة بكما! كونا قائديّ إليه! سأتبعكما، أتْعِسا حياةً ثانيةً غير حياتي!. . . انظروا انظروا! إن أبوللو ينزع عني المسوح بيديه! آه! أقبلت لترعاني في هذه الأجمة الوبيئة! لتسر قلبك بإهانتي ووخزاتي! بسخرية أهلي من قبل، ولعنات أعدائي ولعنات وطني اليوم! إنهم يزعمونني قديسة شحاذة! أو كاهنة أفاقية! يا للهول؟ ماذا خبأت لي أيها القدر؟ ويْ! الوَضم! السكين المشحوذ! الضربة اللازبة التي تتم بها التضحية!. . . يا سماء! إن الذي يأخذ بثأر الأبرياء ما يزال حياً!. . . ويحك يا قاتل أمه أين أنت؟ خذ بثأر أبيك أيها الجائل في الآفاق!. . . ويْ! فيما بكائي، وهاهو قاهر طروادة وقاتل بريام يلقى جزاءه وفاقاً! مرحباً يا موت! أنا لا أهاب الردى!

- ولكن!. . . الصلاة!. . . الصلاة يا أربابي! أضرع إليكم أن يكون جرحي بالغاً مميتاً فلا يعذبني طويلاً! لتتفق منه حياتي فلا يعترضها شيء. . .)

أيتها الفتاة التي تطعمها الهواجس، حسبك فقد بلغت المدى! وللآلهة أنت! كيف تتقدمين إلى حتفك بقدم ثابتة، ونفس رابطة، وأنت تعلمين الغيب كل شيء؟ لم لا تفرين؟)

- (وأين نفر من المنايا وقد جاء أجلنا؟)

- (كيف! إن لكل مهلة قيمتها!)

- (حم القضاء، قلت لكم يا رفاق! أية مهلة أذن؟ إن الهرب لا يجدي فتيلا!)

- (إيه! رب قتلة شريفة تختم حياة مليئة!)

- (ويلي عليك يا أبي. . . وعلى أبنائك التاعسين!)

(وتتقدم إلى باب القصر. . ثم تقف مذعورة) - (ماذا يفزعك يا فتاة!؟

- (ويلاه!

- (ماذا؟

- (تلك الغرف السود تضج بزفير الجريمة! القتلى يسبحون في لجة من الدم!)

- (إنها دماء القرابين فلا تفزعي ولا تراعي!

- (بيت كأنه قبر! لولا هذه الدماء. . .! ولولا ذاك الصلول)

- (تزودي من الصلول فقد ورمت أنوفكم من عطور الشام وطيوبه!)

- (لأدخل إذن. . . ولأرو بالدمع حظي العاثر، وحظ الملك التاعس. . . أجاممنون! سئمت تكاليف الحياة يا رفاق! لابد أن تقتل امرأة بامرأة، ورجل برجل. . . وتلك أخرى نبوءاتي. . . سيقتص لي،، ولكل مقتول بريء!. . .)

(وتنطلق داخل القصر)

- 20 -

ويقف الخورس مشدوهين لما ألم بهذه الفتاة، ويتحدث بعضهم إلى بعض عما حشدت في حديثها من ألغاز، وبثت من طلاسم وأسرار. . . وتقطع حديثهم صرخة داوية داخل القصر!. . .

- (آه! أهكذا أذبح في قصري!؟)

وتزداد دهشة الخورس، وتزداد ثقتهم بنبوءات كاسندرا. . . فالصوت صوت أجاممنون لا غيره!. . . ويهمون أن يدخلوا. . . ولكنهم يتريثون. . . ويعود الملك إلى صراخه:

- (آه. آه! أهكذا وبهذه اليد أضرب حتى أموت!؟

ويعود الخورس إلى لغطهم فبعضهم يشير بالدخول ليكونوا شهداء مقتل الملك - ويتقاعس بعضهم كأن الأمر لا يهمه. . . . . . ثم يشير رئيسهم أن يتريثوا حتى تنكشف جلية الأمر. . .

وإنهم ليهمون أن يقتربوا من باب القصر حتى تنفضح الملكة بينما تلف جثمان القتيل في الوشى الذي أعد لاستقبال الملك الظافر. . . قاهر طروادة!

ولا تستحي أن تعترف بما اقترفت، بل تصرح أنها دبرت الأمر وأخذت له أهبته، وأنها فرحة به مسرورة له. . .

- (يا للجرأة أيتها الملكة الآثمة!. . .)

- (آثمة أو غير آثمة. . . تمدحون أو تقذعون. . . سواء لدي! إنها جثة ملككم أجاممنون، هذه الجثة المدرجة في لفائفها أمامكم. . . وأنا مزهوة بأن قتلته. . .!)

- (أيتها المرأة! أي سوء أختلط بدمك، وإثم خامر قلبك، فتقتلين رجلك وأمير المملكة. . . ابشري بلعنة الجماهير وغضب الآلهة!. . . اليوم يفلت من يديك زمام الأمور. . .)

- (لعنة الجماهير، وغضب المملكة. . . وزمام الأمور! مضحك! سرعان ما تحكمون على ما لا تعلمون! وأين كنتم يا سادة؟ وأين كانت جماهيركم وآلهتكم يوم ذبح أجاممنون الحش طفلته؟. . . أين كنتم يوم أهوى على عنقها بالسكين كما يهوى على رقبة شاه! إفجينا! ابنتي! قطعة قلبي وكبدي!؟ ذبحها أبوها الوحش! لماذا؟ لتهدأ العاصفة، وتسير السفين باسم الشر مجراها ومرساها!! ماذا تقولون إذن؟ وأين كنتم يا سادة؟ ولم يفلت من يديه زمام أموركم يومئذ؟ لم لم يقصّ عن عرشكم، وتنزل عليه لعناتكم، ويحل عليه غضب آلهتكم؟ آه! ولكنكم تخلطون المين بالحق. . . ودأبكم أن تسارعوا إلى الحكم دون روية ولا تبصرة!)

- (حماسة وقحة وتبجح أثيم! ويل لك حين تؤدين الدين من دمك، إذن تفيقي!)

- (أقسم بأيتيه وأيرينيس، آلهة القوة والمجد!)

- (تقسمين على فسقك وغرامك الدنيء الدنس؟. . .)

- (أجل! على غرامي وحبي. . . حبي لهذا البطل المظلوم إيجستوس الذي دبر لي كل شيء وأعانني على كل شيء. . . وشاركني في هذا الدم! أنا لأن ملككم قتل أبنتي، وذهب إلى طروادة ليغازل خريسيز ويرشف الرضاب الحلو من فم بريسيز، ثم يعود ظافراً وفي ركابه هذه القينة الفاجرة التي جلست بجانبه تسكره بخمر حديثها. . . . . . وهو، إيجستوس (لأن له أخوة ذبحوا وأكل أبوهم من لحومهم وشرائح من أكبادهم. . . ثم قتل بعد ذلك!. . . ومن قتله؟ أخوه؟. . . يا للهول!. . . هو الذي ذبح الأطفال الأبرياء! وأطعم أخاه لحومهم وقلوبهم. . .!)

- (المرأة! دائماً المرأة! يا أخت هيلين!! كم أرواح مطهرة فاضت لأن أختك أثمت، وتردت في حمأة الفسق! الفاجرة التي فرت مع عاشقها من خدر زوجها! ثم أنت؟ أنت أختها؟ ومن البذرة السيئة نبتت مثلها؟)

- (عليكم أنفسكم مالكم ولهيلين!

- (. . . آه أيها الغراب الناعب! رنقي على جثة زوجك، وانعقي. . . هات أغنيتك المنكرة، ورتلي أنشودة جريمتك في جناز رجلك!. . .)

- (حاشاي أن أكون صنعت ما صنعت وأنا بعد زوجته أو هو بعد رجلي! بل صنع هذا وليمة أتريوس! أتريوس أبو أجاممنون! الوحش الذي أطعم أخاه لحم أبنائه! هو الذي ترك لابنه الملك هذا الإرث العظيم. . . قتل. . . فليقتلْ! وليقتل من بعد أبناؤه. . . فيا للقصاص!؟)

- 21 -

وتستطيع الملكة بذلاقتها وقوة برهانها أن تخدع الخورس وأن تقنعهم - إلا قليلاً! فقد قتل الملك ابنته حين قيل له إن السماء تطلب دماً، وهذا منتهى الظلم، وقد قتل أبوه أبناء أخيه وأطعمه لحومهم. . . وهو بذلك ورث أبناءه العذاب. . . والقتل. . . والدم. . .!

وما يكاد الخورس تهدأ ثورتهم. . . حتى يحضر أيجستوس حبيب الملكة. . . وشريكها. . . ومدبر الأمر معها. . . والذي ذبحت اخوته وأطعمت لحومهم أباه المسكين!. . . يحضر والبشر يقطر في وجهه. . . وللنصر المؤزر سورة في قلبه. . . فما يكاد يذكر الماضي المؤلم الذي حل بلاؤه باخوته، وهذه الخاتمة التي حلت بابن أتريوس المسكين (أجاممنون) حتى يثور ثائر الخورس، ويهتف رئيسهم:

- (أكان هذا النذل يتقلب في أحضانك أيتها الملكة على فراش الملك؟. . . أكنتما في نشوة الفسق، وسكرة الغرام، ترسمان للملك هذه القتلة المدبرة،)

ويهم إيجستوس أن يفتك بالخورس وبرئيسهم قبلهم، لولا تدخل الملكة، وأنها ترجو أن تضع حداً للمجزرة!. . .

فيتوعدهم إيجستوس حين يصبح الأمر له، وحين يحمل رأسه المجرم عرش آرجوس. . . . . . ولكن. . . هيهات!

دريني خشبة