مجلة الرسالة/العدد 132/للتاريخ السياسي
مجلة الرسالة/العدد 132/للتاريخ السياسي
عشرة أيام بئيسة
مشروع لافال - هور والرأي العالم
دواعي هذه الخطة الوخيمة العواقب
للدكتور يوسف هيكل
شهد العالم خلال الثلث الثاني من شهر ديسمبر الماضي اضطراباً شديداً في السياسة الدولية، وقلقاً عظيماً في الدوائر السياسية، نجما عن الانقلاب الفجائي في سياسة بريطانيا الخارجية بموافقة وزير خارجيتها السير صمويل هور على سياسة مسيو لافال، رئيس الوزارة الفرنسية ووزير الخارجية، وتوقيعه المشروع الذي وضعه لافال لحل المشكلة الحبشية عن طريق سلمية. ويُعرف هذا المشروع بمشروع الصلح، أو خطة السلام، أو اقتراح لافال - هور، أو اتفاق باريس.
فحوى مشروع الصلح
في يوم الثلاثاء الموافق 10 ديسمبر أبرق السير هور بمشروع الصلح إلى سفيري بريطانيا في روما وفي أديس أبابا طالبا منهما أن يذهبا مع زميليهما الفرنسيين ليطلعا السنيور موسوليني والإمبراطور على ما تم الاتفاق عليه بين حكومة جلالته والحكومة الفرنسية. وفحوى البرقية أن الحكومتين اتفقتا على أن يطلبا من الإمبراطور قبول التغيرات التالية في الحدود الإيطالية الحبشية.
1 - التيكري - إعطاء إيطاليا التيكري الشرقية، وحدودها جنوباً نهر (خيطا)، وغربا خط يمتد من الشمال إلى الجنوب ماراً بين اكسوم (في الجانب الحبشي)، وعدوه (في الجانب الإيطالي).
2 - إعطاء إيطاليا مقاطعة (أجادن) وجعل الحدود خطا مبتدئا من نقطة (ثلا) في الحدود الحبشية والإيطالية والصومال البريطانية، وممتدا شمالاً شرقياً قاطعاً (كوراهي) في الشرق، و (وارانادب) في الغرب، وملاقياً حدود الصومال البريطانية حيث يقطعها خط الطول 45.
3 - إعطاء إيطاليا امتيازاً اقتصادياً خاصاً في جنوب الحبشة يضع موارد هذه الإقليم في قبضة إيطاليا ويسمح للإيطاليين بالإقامة فيه. وتكون الأراضي غير المملوكة ملكاً للشركات الإيطالية، على أن تبقى السيادة في هذا الإقليم للإمبراطور.
وحدود هذا الإقليم هي: الحدود الجديدة بين الحبشة والصومال الإيطالي شرقاً، وخط العرض 8 شمالا، وخط الطول 35 غرباً، والحدود بين الحبشة وكينا جنوباً.
4 - إعطاء الحبشة مرفأ (أساب) وممراً إليه على طول حدود الصومال الفرنسي.
وفي ذلك التاريخ أرسل وزير خارجية بريطانيا برقية إلى السفير الإنكليزي في أديس أبابا طالباً منه فيه أن يبذل كل نفوذ في إقناع الإمبراطور على قبول (المشروع) وألا يرفضه دون أن يتأمله جليا (!).
تطور الحوادث السياسية على المسارح الثلاثة
ذلك فحوى مشروع هور - لافال. وحين وقف الرأي العام الدولي عليه انثالت الاحتجاجات عليه إلى عصبة الأمم من جهات الدنيا الأربع، وأخذت الحوادث تتطور، واشتدت الأزمات السياسية، وعلى الأخص في باريس وجنيف ولندن.
على مسرح باريس
غادر السير هور لندن إلى باريس يوم السبت الموافق 7 ديسمبر. وفي منتصف الساعة الثامنة عشرة وصل (كي دورسي) ومعه المستر (كلرك) لمقابلة مسيو لافال. وفي الساعة التاسعة عشر والدقيقة 45 خرج من عنده. وعندها أنبأ لافال الصحافة أن الحكومتين على اتفاق، تعملان معاً للوصول إلى خطة تحل بموجبها المشكلة الحبشية عن طريق سلمية.
وقد تقابل الوزيران في اليوم التالي، ووصلا بعد المناقشة إلى اتفاق وقعاه عن حكومتيهما. وفي صباح الاثنين الموافق 9 ديسمبر تلقى مستر بلدوين رئيس الوزارة الإنكليزية كتاباً من السير هور، طالباً فيه موافقة الحكومة على اتفاق باريس، وقد رأى بلدوين أن من الواجب عليه تأييد زميله الغائب، فوافقت الحكومة على مشروع هور - لافال. وبهذه الموافقة تحملت حكومة بلدوين المسؤولية، وابتدأت إذ ذاك عشرة الأيام البئيسة. . .
في الأيام التالية نشرت الصحف الباريسية مضمون الاتفاق بصورة غير رسمية، فانقسم الرأي العام الفرنسي إلى فريقين: فريق يعضد الحكومة ويدافع عن (المشروع) واجداً فيه خير حل للمعضلة الحبشية، وكثرة هذا الفريق من أحزاب اليمين والوسط؛ وفريق آخر ينقم على اقتراح لافال - هور، ويرى فيه الضربة القاضية لعصبة الأمم؛ وللبقية الباقية من الثقة في سياسة (السلام المشترك). والناقمون هم أحزاب اليسار من اشتراكيين وكومنيست. وأخذ كل فريق يدعم رأيه ببراهينه وحججه، ويدحض أقوال الآخرين على صفحات جرائده؛ ومما لا شك فيه أن حجج المدافعين عن سياسة لافال الخارجية كانت واهنة لا تقوم على أساس قانوني. أما نظريات الناقمين على (اتفاق باريس) فكانت مبنية على دعائم قانونية وسياسية متينة؛ وبخاصة ما كتبه الزعيم الاشتراكي مسيو بلوم في جريدته (الببولير)
أما موقف الحزب الراديكالي الاشتراكي فكان حرجاً لاسيما موقف زعيمه (هريو)
والحزب الراديكالي أقوى حزب في مجلس النواب وهو مشترك في حكومة لافال، ورئيسه (هريو) وزير دون وزارة، وقد فقد هذا الحزب شهرته في البلاد بعد فضيحة ستافسكي وتخليه عن مسيو دومرج. والحزب يعلم أنه لا يستطيع في ظروف مجلس النواب الحالية أن يؤلف وزارة ذات أكثرية. ورئيسه هريو لا يود أن يكون على رأس وزارة والانتخابات العامة على الأبواب. . . لهذه الأسباب يتحاشى مسيو هريو حدوث أزمة وزارية في البلاد. ويجد نفسه مضطرا إلى معاضدة مسيو لافال، على رغم مخالفته لسياسته الخارجية. وقد أفضى إلى حزبه بذلك قبل اجتماع مجلس النواب لمناقشة سياسة لافال الخارجية.
فانقسم الحزب أي فريقين؛ فريق معه، وفريق يرى من الضروري تغيير سياسة لافال وإسقاطه بعدم الموافقة على مشروعه لحل المشكلة الحبشية. وكان من بين هؤلاء مسيو (كت)
وفي صباح الثلاثاء الموافق 17 ديسمبر كان اجتماع مجلس النواب. وكان اجتماعاً صاخباً مضطرباً شديد الجدل. وكان أهم المتكلمين في تلك الجلسة ثلاثة: لافال وكت وبلوم.
نهض لافال وألقى خطابه في جأش رابط متزن؛ ودافع عن سياسته الخارجية ولاسيما (مشروع الصلح). وأقوى حججه أن سياسة العقوبات ليست الطريق الوحيدة لحل المشكلة الحبشية، وأن حصر إيطاليا اقتصادياً وعلى الأخص منع البترول عنها مما يقود أوربا إلى حرب لا تعرف نتائجها، وأن روح مبادئ عصبة الأمم توجب حل كل خلاف عن طريق سلمي إن أمكن، وأن الخطة التي وضعها لإيقاف الحرب في الحبشة تتمشى مع مبادئ عصبة الأمم (!). . .
ومسيو كت يرى غير ما يراه مسيو لافال: يرى في اتفاق باريس هدم مبادئ العصبة، إذ هي تقدم إلى المعتدي مكافأة على تعديه ومخالفته واجباته الدولية. ومسيو لافال بعمله هذا يقدم سابقة إلى عصبة الأمم لتحل بموجبها التعدي الذي سيحصل على شرقي أوربا الوسطى. وبذلك يكون لافال قد ساعد الهر هتلر وجرأه على أن يحذو حذو موسوليني!. وقد هاجم مسيو كت لافال وقال إن عمله هذا ليس إلا تقسيماً للحبشة وجعلها فريسة للمعتدي، وهذا العمل مخجل لفرنسا. . .
وقد لاحظ لافال أن الجو مكفهر وأن النقاش إن دام ربما أدى إلى سحب الثقة منه؛ فطلب تأجيل النقاش على سياسته الخارجية إلى يوم الجمعة الموافق 27 منه. ولافال ماهر في أصول المرافعات البرلمانية؛ يعرف كيف يتخلص من المآزق الحرجة، فإنه بطلبه هذا قد حول المناقشة من مهاجمة سياسته إلى البحث فيما إذا كان من الصواب تأجيل المناقشة كما يطلب أو المضي فيها؛ وكان على رأس القائلين بوجوب المضي في المناقشة مسيو بلوم الزعيم الاشتراكي. وبرغم فصاحته وقوة حجته وافق المجلس على تأخير المناقشة بأكثرية 52 صوتاً. ومما تجدر ملاحظته أن الكثرة التي كانت في جانب الحكومة هبطت إلى ما يقرب من مائة نائب بانضمام كثير من الراديكاليين إلى فريق المعارضة.
ومجمل القول أن مسيو هريو الزعيم الراديكالي لم يشترك في المناقشة، ولم يبد حركة ما تدل على أنه يؤيد فريقا على آخر. . .
وفي اليوم التالي ذهب لافال إلى جنيف. . .
على مسرح جنيف
في يوم الأربعاء الموافق 18 ديسمبر كان اجتماع مجلس عصبة الأمم: فقام مستر أيدن ولم يدافع عن مشروع لافال - هور - بل قال إن الحكومتين وضعتا هذا المشروع وللمجلس أن يرفضه أو يقبله؛ والحكومة البريطانية ليست مرتبطة به. . .
ثم نهض مسيو لافال وقال إن عمله هو وزميله السير هور كان بموجب السلطة التي أعطيت للحكومتين لايجاد حل سلمي للمعضلة الحبشية. . . وللمجلس أن يقول الكلمة الأخيرة في الاقتراح. . .
وقبل فض الاجتماع العام قام سكرتير المجلس وألقى تصريح حكومة الحبشة وهو مؤلف من (5000) كلمة ومبني على نقط قانونية ترمي إلى أن اقتراح باريس مخالف كل المخالفة لمبدأ العصبة
وقد قابل الأعضاء المشروع بمعارضة شديدة. . . وجاء في المناقشة أن السلطة التي خولت إلى بريطانيا وفرنسا لإيجاد حل سلمي قد انتهت، وكل عمل من هذا القبيل يعود إلى مجلس العصبة أو إلى هيأتها العامة - وكان هذا رداً على ادعاء لافال - وفي اليوم التالي قرر المجلس بأسلوب - دبلوماسي دولي - رفض المشروع.
على مسرح لندن
أخذت الصحف الإنكليزية تنقل أخبار اتفاق باريس ومحتوياته عن الجرائد الفرنسية، وأخذت الجرائد التي كانت تناصر الحكومة وعلى رأسها التيمس تعارضها وتظهر سخطها على المشروع، وأخذت جرائد المعارضة تهاجم الحكومة مهاجمة عنيفة وتصفها بأوصاف قاسية منها الجبن وخيانة الشعب وعصبة الأمم والحبشة. . .
وفي اجتماع مجلس النواب الذي عقد في العاشر من ديسمبر دافع مستر بلدوين عن خطة باريس وقال: لو كانت أستطيع أن أميط اللثام عن المشاكل التي تعترضنا، لما كان هناك رجل من أي هيئة ومن أي حزب يعارضنا. . .
ومع ذلك اخذ يزداد عدد الثائرين من حزب الحكومة، مظهرين سخطهم على سياسة الحكومة الجديدة؛ وأخذ آخرون يبدون قلقهم من موقف الحكومة الشاذ. فحدث من جراء ذك انشقاق عظيم في حزب الحكومة. وانقسم أعضاء الوزارة إلى قسمين: قسم مع بلدوين وقسم غير راض عن (اتفاق باريس) ومن بينهن مستر إيدن الوزير لدى عصبة الأمم إذ ذاك، وقد صرح بذلك في جنيف في الثالث عشر من ديسمبر.
ومن الرجالات البارزين الذين عارضوا المشروع في حزب الحكومة السير أوستن شمبريلن: فقد اجتمعت لجنة الشؤون الخارجية التي يرأسها هو في 17 منه لدرس (اتفاق باريس) وإبداء رأيها فيه. وصرح السير أوستن أنه غير راض عن (الاتفاق) ولا يقبله مهما كان تشبث الحكومة به. . . فتبعه أعضاء اللجنة. . . وكان ذلك صدمة عنيفة لمستر بلدوين.
أما الصحافة فقد أخذ يشتد نقدها للحكومة، طالبة منها بلهجة عنيفة التخلي عن (المشروع) والعودة إلى السياسة السابقة، سياسة جنيف والسلام المشترك:
أمام ثورة الرأي العام العالمي على اقتراح هور - لافال، وأمام رفض الإمبراطور (المشروع) وتردد موسوليني في قبوله؛ وأمام هجمات الحزب المعارض العنيفة وأمام انقسام حزبه عليه؛ أمام امتعاض الرأي الإنكليزي من تخليه عن العصبة وسياسة السلام المشترك، وأمام ثبات العصبة ورفضها (الاقتراح)؛ أمام كل هذه الصعوبات رأى مستر بلدوين أنه لا يستطيع أن يسير خطوة إلى الأمام بسياسته الجديدة؛ فقرر أن يكون على رأس القائلين بعدم قبول الاقتراح!. فدعا السير صمويل هور من سويسرا. وجمع أعضاء وزارته في 18 ديسمبر وقرر التخلي عن هور ورفض اتفاق (باريس).
وفي هذا التاريخ قدم السير هور استقالته فقبلها مستر بلدوين
وفي يوم الجمعة الموافق 19 ديسمبر كان موعد اجتماع مجلس اللوردات ومجلس النواب لمناقشة اقتراح هور - لافال، وكان الجميع متفقين على التخلي عن (اتفاق باريس).
كان اجتماع مجلس النواب غير عادي: فقد حضره البرنس أوف ويلز وحضره السفراء. . . وبعد إلقاء الأسئلة والإجابة عليها قام السير صمويل هور مبيناً الأسباب التي قادته إلى توقيع الاقتراح، ومما قاله إنه كان أمام عينيه هدفان:
(اتقاء حرب أوروبية والحيلولة دون نشوب حرب منفردة بين إيطاليا وبريطانيا).
(إن منع البترول عن إيطاليا ربما يؤدي إلى هزيمة إيطاليا وخسرانها الحرب الحبشية، وعندما تجد نفسها في هذا الوضع الذليل تقوم بمهاجمتنا، وعندئذ تنشب الحرب بينها وبيننا دون أن ينهض لمساعدتنا أحد، إذ لم تقدم دولة ما إلى الآن باخرة واحدة ولا جندي واحد في سبيل الأمن المشترك؛ والرأي الفرنسي ضد الحرب ولا يريد أن يتورط في مشاكل جديدة. . . (لهذا اضطررت وأنا في باريس إلى أخذ قرار عاجل لأن مسألة البترول لا يمكن تأجيلها إلى تاريخ آخر.
ثم أخذ يدافع عن مواد الاتفاق بحجج واهية. . .
أما مستر أتلي رئيس حزب العمال فقد طلب رفض (اتفاق باريس)، وأثبت أن مسؤولية الحكومة لا تزول باستقالة السير هور. ثم أخذ يسائل الحكومة:
ما فائدة الابتداء في العقوبات إذا كان أمرها سيهمل عند مجابهة أي خطر؟!. لماذا صرح في شهر أكتوبر بأن العمل المشترك مفيد وفي شهر ديسمبر أنه غير مفيد؟! إذا كان يوجد الآن خطر عظيم فخير من الوقوف بجانب المتعدي أن يقال بأن العصبة قد فشلت. . .
ثم ألقى مستر بلدوين كلمة طويلة شديدة، صرح فيها بأن اتفاق باريس قد قضى عليه تماماً، وطلب من حزب الحكومة معاضدته، وأعلن بأن الحكومة عائدة إلى العمل المشترك ضمن مبادئ جنيف. . .
وقال اللورد هارتنكتن إن (عشرة الأيام البئيسة) قد انتهت.
وقد ختم النقاش في كلا المجلسين بقبول وجهة النظر القائلة بأن الحكومة قد ارتكبت غلطة فادحة في توقيعها (مشروع الصلح). وأنها بعملها هذا تقضي على النية الخالصة والأمل القوي في نظام السلام المشترك.
وقد جاء خطاب السير نفيل شمبرلين الذي ألقاه في برمنجهام مساء 20 ديسمبر مؤيداً لتصريح الحكومة، ومما قاله:
(. . . هذه الاقتراحات قد ماتت إلى غير بعث؛ وإنني أعتقد الآن بأن كل سعي للوصل إلى حل سلمي فاشل).
(فيجب أن نعود إلى سياسة العقوبات. . .)
وإن تعيين مستر إيدن وزيراً للخارجية لدليل ساطع على أن الحكومة عائدة إلى السياسة التي تحدث عنها السير شمبرلين على أن الحكومة البريطانية لا تود العمل منفردة، ولذلك أخذت تفاوض أعضاء عصبة الأمم الذين على البحر الأبيض المتوسط، ولقد أجاب حتى الآن كل من تركيا واليونان ويوجوسلافيا بأنهم على استعداد لمساعدة بريطانيا وللعمل على مبدأ عصبة الأمم. . .
(البقية في العدد القادم)
يوسف هيكل دكتور في الحقوق من (حكومة فرنسا)