انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 132/تاريخ الأدب النسوي في فرنسا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 132/تاريخ الأدب النسوي في فرنسا

مجلة الرسالة - العدد 132
تاريخ الأدب النسوي في فرنسا
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1936



للأستاذ محمد بك كرد علي

بينما نرى تركيا تقرر مساواة المرأة بالرجل، وتعترف لها بحقوقها السياسية في المجتمع، غير ناظرة إلى ماضيها وحاضرها، ولا لاستعدادها المطبوع والمكسوب، ولا إلى قلة عدد المتعلمات من بنات جنسها في بلادها، يخيل إليها أن تجعل منهن أو أن ترتجل منهن عالمات مفكرات ناخبات منتخبات - بينا نرى هذا في الشرق وتركيا تضع تشريعاً جديداً تجري أحكامه في أمة تغرق كثرتها الغامرة في بحر لجي من الجهالة والأمية، نرى رجال الغرب على كثرة ما بلغته المرأة عندهم من درجات النشوء والرقي، يحاذرون أن تساوى الرجل عندهم في كل الحالات، ناظرين في ذلك إلى عدة اعتبارات نفسية وجسمية وعلمية وأدبية وتاريخية جرأة مستغربة من الترك في محاولة أمر لم تتم أسبابه، ولا بعضها، وتأن لا غرابة فيه من الغربيين ممن بنوا مدنيتهم على العقل، وساروا بسنة التطور الطبيعي في كل مظاهرهم، فأحدثوا هذه الحضارة القائمة على أساس راسخ من العمل والنظر، ولو نسج الغرب خيوط مدنيته بالخيال، تمليها العواطف، ولا يدعمها العقل المولد، ولا التجارب المسددة، لما شهدنا هذه المدينة تتفوق على غيرها، وتكسف شمس المدنيات القديمة التي كان من أعظم ما منيت به عصور جهالات كانت سود لياليها، ونظريات خيالية، فقد فيها التسلسل، ومات منها الإبداع.

حقا إن أهل البصيرة لا يفهمون سيراً لهذه المغامرة في جمهورية الترك، إلا إذا غالطوا حسهم. أليس من أعاجيب الدهر أن ينام الأتراك قروناً عن الأخذ بمذاهب الحضارة، ويهبوا اليوم دفعة واحدة يحاولون أن ينفذوا قوانين الجمهورية السويسرية في سكان آسيا الصغرى. ولا يختلف اثنان أن السويسريين أصحاب هذا القانون وصلوا إليه في عدة قرون، فاستووا أرقى شعب في الأرض، أو أول شعب يجيء في الصف الأول بين الأمم المتفوقة، والترك بلا جدال مهما غرت ظواهرهم، متأخرون في معظم مظاهرهم في سلم المدنية، على ما عرفناهم وعرفهم غيرنا من الباحثين من أهل الشرق والغرب.

وأعجب من هذا كله أن تحرم المرأة السويسرية الراقية من حق الانتخاب وترزقه المرأة التركية.

أمامي الآن (تاريخ الأدب النسوي في فرنسا) لجان لارتكان، قرأته مرتين فما بلغت حظ النفس في تلاوته، لما ضم من الفوائد الأثيرة، وليت العاملين والعاملات لإنهاض الشرق القريب يتدبرون بعض ما فيه. وطبقات البشر تكاد تكون واحدة إذا تساوى أهلها في شروط العيش والبيئة والثقافة. وإن ما يحاوله المقدمون علينا في سلم الحضارة والنشوء الإنساني حري بالمتأخرين عنهم في معظم مقومات الحياة أن يحتذوا مثاله، ويتأدبوا بأدبه، ويأخذوا من مضامينه عبرة وعظة. والمدنية مذ كانت ينقل فيها المتأخر أهخرأخر بتيسبيستبمنيستب بيسنبمتيسمنبتيسبمنيستبنسيتأخر عن المتقدم، ولا ضير في ذلك ولا غضاضة.

قلت يوماً لأحد علماء الترك المنورين: أما بلغك أن دمشق ستنار بعد قليل بالكهرباء، وتسير فيها الحوافل الكهربائية؟ فضحك وأجاب: إن حالكم بهذه الزينة الجديدة تقام بأيدي الغرباء، أشبه بإمبراطور كوريا لبس على رأسه تاجاً من ذهب، ولا سراويلات له تستر عورته. وكان الأولى يا صاح أن تكون للبلدة طرق معبدة، وترزق حظاً من التنظيم قبل الكهرباء. وأنا أقرر الآن أنه كان الأولى قبل أن تمنح المرأة الشرقية حق التشريع في مجالس النواب أن تتعلم وتتربى، حتى إذا استوفت حظها على النحو الذي وصلت إليه المرأة الغربية، ومتى تعلمت القروية كالبلدية كل ما يلزمها في صراع الحياة تتمتع بالحقوق السياسية كالمرأة الإنجليزية.

جملة معترضة ساقت إليها المناسبة. والآن نرجع إلى تحليل الكتاب الجديد فنقول: عالج المؤلف هذا الموضوع أعواماً طويلة في الصحف والمجلات وفي إسناد له ورسائل، وكتابه هذا زبدة تجاربه وعصارة علمه وعمله. بدأه بفصل في تاريخ المرأة في القديم. فقال إن الرجل بينما كان في العصور الخوالي صياداً محارباً عرافاً يسير في العالم على هواه، ويطفر طفراته في سبيل المعرفة كانت المرأة قابعة في دارها، خاضعة خانعة لا يتسع نظرها لأكثر من أعمال بيتها، وتلقين بنيها التربية الأولى. وكان النساء في يونان القديمة لا معرفة لهن بغير غزل الصوف يتعمدن القناعة لا يسألن أزواجهن غير هذا. ولذلك قال أفلاطون: إن القرد قرد مهما كان، والمرأة مهما كان عملها تظل امرأة أي غبية مجنونة. يريد الهزؤ بها، وقد بقى هذا الهزؤ بالنساء قروناً في الأرض حتى كانت النصرانية، ورأى رجال الكنيسة أن يحولوا دون زواج القائمين بأمر الدين فيها، فصوروا المرأة بصورة بشعة تزهيداً منهم فيها، حتى لتساءل أحدهم أن كان للنساء نفس.

وجاء القرن الثاني عشر، والنساء مأخوذات بعوامل كثيرة في نهضتهن، وليس لهن من الحرية ما يتسع لكثير من أسبابها، ولئن أخذ كثير من الأساودة أو الفرسان وخدام الملوك يرون من الشرف رعاية السيدات، ومعاملتهن بقواعد اللياقة والظرف، فان كثيرين من المحافظين في الغاليين (المغول) كانوا يبالغون في وصف النساء بما لا يليق، ويحرمونهن كل حرية. أما النساء فكن يصبرن على هذه المعاملة ويحاولن الخروج من حالتهن السيئة، وبقين بين عوامل الحرمة وعوامل الاحتقار مدداً متطاولة، ولا يعْدمنْ مع هذا أناساً من طبقات مختلفة يحمونهن وبفضلهم يتصدرن ويظهرن، وأما القاعدة العامة فالتشديد عليهن والمبالغة في الاحتفاظ بالتقاليد الموروثة. وقل فيهن من كن يستطعن أن يكتبن كتابة بسيطة، أو ينظمن ولو نظماً سخيفاً.

وأصبحت إيطاليا في القرن السادس عشر مصدر الآداب والفنون الأدبية؛ وسرى الفرنسيس على مثال الطليان، بأن جعلوا المرأة موضع إعجابهم، فأخذ بعض الكاتبين في فرنسا يضعون رسائل وكتباً في تاريخ المرأة، وكان أكثر ما وضع بإيعاز الملكات، فكان هذا القرن قرن رفعة المرأة، جسر فيه كستكليون في إيطاليا أن يقول. لولا النساء لتعذر كل شيء، ولولاهن لما كانت الشجاعة العسكرية ولا الفنون ولا الشعر ولا الموسيقى ولا الفلسفة بل ولا الدين، وما عرفنا المولى في الحقيقة إلا بهديهن.

وبدأ النساء يستعملن قرائحهن، فنشأ بينهن بعض القصصيات وواصفات الحكايات والشاعرات، وقل فيهن من كان لها قريحة يعتد لها. ولم يكن الماهرات منهن أكثر من هواة ينتفن وينتشن من الآداب. وأنشأت مدينة ليون لقربها من إيطاليا، وكانت تدعى (فلورنسة فرنسا) تتذوق الآداب والفنون، وظهرت فيها المطبعة قبل أن تؤسس في باريز، وجعل فرنسوا الأول من مدينة ليون مضم جيوشه خلال حرب إيطاليا فنشأت فيها حركة فكرية ندر وقوع مثلها في مدن الولايات، فكانت منازلها مواطن الظرف واللطف والنساء يصطنعن فيها كل ما يعجب به الرجال. ومنهن من كانت تجيب على ما يوجه إليها من كلمات المديح بأبيات من الشعر، وتجرأ على نقد ذوق الباريزيات، فأصبحن بذلك ملكات الذوق والأناقة والجمال، وفتح كثير من نبيلاتهن قاعاتهن لإنشاء قصائد كان ناظموها يجوزون لأنفسهم تمجيد جسم الحبيبة والتغزل بكل ما فيه، فلقي الأشراف من الأزواج عنتاً من هذا التمجيد، ولطالما احمرت الوجوه بما يقال، وكان يومئذ للحياء سلطان على النفوس.

ففي القرن السادس عشر إذا أحرز النساء مقاماً محموداً في المجتمع بفضل الشعراء والنبلاء، وبقى عليهن أن يطالبن بحقهن في التعليم وحقهن في النبوغ. واشتد الجدال فيما إذا كان للمرأة الحق في التعليم لتكون عالمة. ومن النبلاء من قضى للأميرات والنبيلات بتلقف مبادئ العلم ليستطعن إدارة أرضهن ويحكمن رجالهن، ويدرن شؤونهن، واقتصر الأمر على هذه الطبقة فقط. وبذلك أرجعوا البنات الطامحات من سائر الطبقات إلى عمل المغازل، ونشأ من ذلك حوار طويل دعوه خصام الألف باء، والنساء مع هذا لم يداخلهن اليأس. ولم يقعدهن عن المضي في سبيلهن عائق. وما طلع القرن التاسع عشر حتى دخل النساء في طور العمل بالمطالبة بحقوقهن في التربية، ولم يكن لنساء الشعب معرفة بشيء: أما العقائل فكن يجلبن لبناتهن معلمين أو يبعثن بهن إلى الأديار، وكانت بعض الراهبات تعلم الناس منذ القرن السادس عشر مسائل بسيطة لا يستطيع بها المتعلمات تصحيح الاملاء، ولا حذق شيء من صرف اللغة ونحوها. وقام في ذهن بعضهم إن الواجب إدخال تعديل على هذه الحالة. وقال العالم مالبرانش، بعد أن درس دماغ الرجل ودماغ المرأة: إن الواجب تعليم النساء تعليماً صحيحاً. وارتأت مدام دي سيفينيه، فيما كتبت به إلى ابنتها من الرسائل أن تلقن أولادها قليلاً من العلم تلقيناً حسناً، وأن يلقن الفتيات الأدب خاصة.

وقل أن جسرت امرأة في القرن الذي نشأت فيه مدام دي سيفنيه ومدام دي لافاييت أن توقع كتابتها أو تأليفها، مخافة أن تستهدف للسخرية. وما كان حول لويز الرابع عشر الملك العظيم سوى كاتبات يصرفن أوقات فراغهن في الكتابة، وما اقتدرت واحدة أن تكتب رواية تمثيلية؛ وكان تأليف هذه الروايات وقفاً على الرجال. وعانى النساء فن الرسائل والشعر في قلة. ودعي هذا القرن قرن المجتمعات والمحادثات. ومن هذا القرن خلف الكاتبات رسائل تجلت فيها مواهبهن في الكتابة. ذلك لأن الرسائل غير محدودة الحدود ولا تربكها القواعد، ولا تستلزم أكثر من ذهن وقاد، وتفكر ذاتي، وإرادة في الإعجاب، وحاجة يأمن معها المراسل صاحبه، وهي صفات تفرد بها النساء. وما برز في هذا الباب أكثر من مدام دي سيفنيه، ولا كتب لامرأة أن دانتها في هذا الباب. كانت تعشق المجد؛ ولا نعلم لو رأت من زوجها عطفاً - وكان زير نساء فسيقاً - هل كانت تبرز هذا التبريز؟ ومع هذا كانت تهوى من ترى ذات اليمين وذات الشمال، على مثال أعظم كبريات السيدات في عصرها. وهكذا يقال فيمن أحرز شهرة مثلها، وإن كن أقل منها مكانة. كانت دي سيفنيه أما عاشقة مولهة، وكاتبة متفردة بهذرها، وهذرها عبارة عن شعور قوي فيها تحاول بثه ولا تحتاج في ذلك إلى تأمل كثير. ورسائلها ملأى بالجذل والسرور والتنويع والبديهة، وهي مرآة عصر القرن العظيم. والنساء في هذا الجنس من الكتابة يبرزن ويتفوقن.

أما مدام لافاييت فالناس على أنه كان لها مؤازرون من الرجال يصقلون ما تنسخ قريحتها، أو يضعون لها الخطط التي تسير عليها. وأصبح من المألوف أن يكتب الرجال ما ينشر من الآثار باسم النساء؛ وكان موليير وبوالو يهزأن بالنساء الكاتبات المؤلفات، ولطالما سلقاهن بألسنة حداد. وكان جمهور النساء في ذاك العصر على غاية الجهل، ما خلا بعض العلية والطبقات المختارة؛ ويختلف عدد الأميات بين سبعين وأربعة وتسعين في المائة بحسب الأقاليم، ومنهن من لا يحسن توقيع أسمائهن؛ وأخذ بعضهن يحضرون بعض دروس الرجال ويتعلمن شيئاً من الرياضيات، وظل أناس من أرباب المكانة ينعون على النساء ذكاءهن ويمنعونهن من كل ثقافة. ورأى جمهور من الكاتبين أنه لا يليق الهزؤ بالنساء إلى هذا الحد، وأنشئوا يعتبرونهن ويودون من الناس إجلالهن، يقدمون النساء على الرجال في الموائد والحفلات؛ وإذا أحرز النساء هذا المقام الاجتماعي في القرن الثامن عشر: فذلك بفضل ظهورهن في الأندية الخاصة؛ وكان البلاط الملكي في مقدمة هذا المجالس، وكانت كل امرأة تحررت في الولايات أو العاصمة من بعض القيود تقيم لها ردهة استقبال، يكون فيها دار ندوة للسياسة ومثابة للأدب. وكثرت هذه الأندية حتى حار الكتاب في أيها يختارون. ومنها قاعات بعض نساء أعضاء المجامع العلمية. وعلى هذا أصبح النساء يقدن بأيديهن المملكتين ويحكمن المجتمع، يملين عليه قواعد الحشمة، ويأخذن بزمام الآداب، ويحكن الأحابيل لا ليجعلن من يحمونهن من الرجال في جملة أعضاء المجمع العلمي، حيث كانت لهن الكلمة المسموعة، بل ليسمح لهن بنشر آراء شديدة اللهجة. ولم يكتفين بهذا، بل كن يطمحن إلى المجد الأدبي فينشرن في الصحف والمجلات، ويقرأن ما يكتبن على من يختلف إلى مجالسهن. وغدا الولوع بالآداب من إمارات الظرف في النساء. وكثر عديد النساء اللائى تعلقن من الأدب بسبب، وبلغ عددهن ثلاثمائة مؤلفة في الولايات والعاصمة، وما فيهن واحدة تسهل المقابلة بينها وبين العقيلتين: سفينيه ولافاييت. وصح بهذا أن يقال إن القرن الثامن عشر أمسى في تاريخ فرنسا قرن نهضة المرأة. وما سبق لهن في العصور الخالية أن يتملق لهن الناس ويستمع لكلامهن ويتمتعن بحرياتهن.

كل هذا وجوزيف دي مستر يقول في كتاب له إلى إحدى بناته: إن فولتير ادعى أن النساء قادرات على أن يعملن كل ما يعمله الرجال، وما هذا إلا للتقرب من قلوب بعض الغواني الجميلات، ولم يأت النساء بأثر يذكر في ضروب الآداب، فالنساء لم يؤلفن (الإلياذة) ولا (الانياد) ولا (القدس المنقذة) ولا (فيدر) ولا (أتالي) ولا (وودكون) ولا (الميزانتروب) ولا (تارتوف) ولا (زهرة دي ميديسيس) ولا (أبولون دي بلفيدر) ولا (البرسة) ولا (كتاب الأصول) ولا (خطاب التاريخ العام) ولا (تليماك)، ولم يخترعن الجبر ولا المجاهر ولا المناظر، ولا مضخة النار ولا صناعة الجوارب الخ، وما قامت امرأة عالمة جديرة أن تعد بين العلماء. فالمرأة ليست في حال تستطيع أن تفوق فيها الرجال إلا بأنوثتها، وليست سوى قردة إذا أرادت مساواة الرجل.

محمد كرد علي

(البقية في العدد القادم)