مجلة الرسالة/العدد 108/في الإصلاح العلمي:
مجلة الرسالة/العدد 108/في الإصلاح العلمي:
الأزهر بين الجامعية والمدرسية
بقلم محمد طه الحاجري
تسيطر على الدراسة العالية في مصر روحان، مازالتا تصطرعان وتنتضلان، كما يصطرع الحق والباطل، في عنف وقسوة حيناً، وفي هدوء وهينة حيناً آخر. إحداهما روح جامعية تقوم على تمثيل العلم في أصح صوره أدق معانيه، وتهذيب العقل في أوسع باحاته وأكمل مجاليه، وتربية الملكات العالية التي يقوم بها ذلك العالم الصغير، وتطلب الحقيقة في مختلف أشكالها، وبشتى وسائلها؛ والأخرى روح مدرسية تعتمد على قشور من العلم لا تغني عن العلم شيئاً، وتلقين لبعض الحقائق المقررة كأنها حقائق مطلقة، وإغفال لحرمة العقل والملكات والإنسانية لأن الأمر أهون من ذلك فيما يزعمون
والأولى روح مطلقة تأبى التقيد، بعيدة الأفق لا يكاد يحدها حد، إلا ما اقتضته طبيعة العلم واستلزمته أساليب التفكير الصحيح.
والأخرى لا حياة لها إلا في أثقال من القيود المرهقة، واسداد من الحدود الضيقة، توقف الفكر، وتبلد العقل، وتعطل المواهب، وتجعل من الرجل آلة طيعة، وكأننا منفعلاً لا فاعلاً.
ففرق ما بين الروح الجامعية والروح المدرسية، هو فرق ما بين الروح الفاعلة المختارة، والآلة المنفعلة المنقادة. تلك توجه العلم للعلم، وتطلب الحقيقة من أجل الحقيقة، وتقدر المسائل العلمية تقديراً ذاتياً، لا يخضع للهوى، ولا يتكيف بغاية معينة مرسومة، ليست من العلم ولا من الحق ولا من الحياة الفاضلة. وهذه جعلت العلم مركباً إلى العيش، ووسيلة إلى نوع من الحياة الدنيا، وآلة صماء لتهيئة غرض محدود وإصابة هدف معين، فوضعت له المناهج والرسوم، وثقل بالأصفاد والقيود، وأقيمت من حوله الاسداد والحدود، وحصن من أن تصل إليه شعاعة من أشعة الروح الجامعية النفاذة، فتثير فيه طبيعة الثورة على تلك اليد الثقيلة الباطشة
وتتنازع الروحان الهيمنة على العلم، ولكن الغلبة للروح الجامعية مهما أقيمت في وجهها الصعاب، واكتأدت سبيلها العقاب؛ ذلك أن قوتها من قوة العلم، والعلم قوي غلاب، لا يصده صاد ولا يغلبه غالب. والروح المدرسية روح مصطنعة، أوجدها الضعف، ودعمه الاستعمار، وقام من حولها دعاة الذلة والمسكنة يسندون ماوهي، ويرأبون ما تصدع، ويلونونها بألوان فاقعة تأخذ بأبصار الغفل السذج
هذا إلى أن الروح الجامعية روح عريقة في مصر تضرب إلى حدود بعيدة من تأريخنا العلمي، وتتمثل في ذلك التوثب الفكري المجيد الذي يبدو - في أروع مظهره - في ذلك التراث العلمي الذي خلفه أجدادنا من رجال الأزهر: جامعة العلم ومثابة العلماء مدة من القرون مديدة، جديرة أن تلبسنا ثوب الفخر، وتقوي في نفوسنا الاعتزاز بالروح الجامعية، وتبث فينا القوة على تعزيزها ودفع المعتدين عليها، دون أن تفرقنا في ذلك الأهواء المقيتة، وتوزعنا العصبيات الفارغة. بل كلنا أمام العلم والتاريخ جامعيون: نستمد من روحنا العلمية وتأريخنا الجامعي قوة على قوة وعزة فوق عزة، ونستمسك بجامعيتنا ونستعصم بها من عوامل الضعف أو التسفل، ومن منازعة أهواء الحياة، والتفريط في جانب العلم
فلست أذهب مذهب القائلين بأن الروح الجامعية في مصر وليدة الجامعة الأولى والثانية، أو أنها جاءت إلينا من أوربا مع العائدين إليها من المصريين، أو مع الأساتذة الأجانب القادمين أو المستقدمين؛ فلنا جامعيتنا الأصيلة المنبعثة عن أقدم الجامعات، ولنا تقاليدنا العلمية الصحيحة التي تشبع في أنفسنا الرغبة العلمية وترضي فيها العزة القومية، وتبعث فيها المضاء والحمية، وتعصمنا من مهاوي الروح المدرسية التي يتكاتف ربائب الاستعمار وأبواقه وأنصاره والمخدعون فيه والعمون عنه على تثبيت أقدامها، ونشر سمومها، وتزيينها في أعين الغفل الواقفين عند الظواهر، المفتونين عن الحقائق، في أسماء سمومها ما أنزل الله بها من سلطان: من النظام والجمال ومراعاة الزمن ومسايرة الحياة ومطالب العيش، وما إلى ذلك من العبارات الخادعة
وتلك هي الخدعة التي نخشى أبلغ الخشية وأعظمها أعتلاجاً في القلب أن يقع الأزهر في حبلتها، وأن يتردى في مهواتها. ونرجو أن لا يكون اندفاعه في سبيل الإصلاح والتجدد مغشياً على بصره أن يتنبه إليها، وألا تكون مسايرته لروح العصر صارفة له عن روح العلم وصبغته التي صبغ عليها، وإلا ينسيه جديده الذي يشتد عدواً في طلبه وتحقيقه عن تقاليده العلمية الأولى التي تفخر بها مصر والشرق العربي بله الأزهر نفسه
وأنه لحقيق بالأزهر في وقاره ورزانته، وزمامه بيد الأستاذ المراغي في بصره وحكمته، ألا يمنعه طلب الجديد من التمسك بتقاليده، وألا تخدعه مطالب الحياة عن روحه الجامعية التي قام عليها بناؤه، وارتفع بها مجده؛ ولعله لا يني في تعفية ما خلفه العهد المشئوم من آثار لتلك الروح المدرسية المشئومة، كانت هي القاضية عليه، لو طال بها الزمن فيه، في غفلة من هؤلاء وإغماض من أولئك، لولا لطف الله بنا ورحمته عليه
إنما ينبغي أن يكون أساس الإصلاح الأزهر هو الأخذ بأساليب البحث الحديثة، ومجاراة الرقي العلمي في مجالاته العليا، ومسايرة الحركة العلمية فيما يتصل بنواحي دراسته، والاتصال بالحياة العصرية اتصالاً نبيلاً يعينه على تأدية رسالته، إذ يهيئ له وسائل الإصلاح الاجتماعي، ويعبد له سبل الدعوة إلى الحق والفضيلة والدين، مع الاحتفاظ بتلك الروح الجامعية التي تأبى أن تتعبد لما دون العلم من المطالب الدنيا، وتلك الصوفية العلمية التي تفرض على صاحبها الفناء في العلم، والاندماج في الدرس، والترفع عن الدنيات. وللأزهر من ديمه في ذلك شواهد باهرة وآيات ظاهرة: فليس في ذلك القول ما يسوغ لقائل أن يرميه بأنه خيال شاعر أو حلم نائم
لا! بل تأريخ العلم كله، وسير العلماء الغابرين والمعاصرين، شاهد بأن الروح العلمية الخالصة التي ترفع العلم فوق كل اعتبار، وتذهب به إلى منزلة من التقديس عالية، هي وحدها التي ينبغي أن تسود جامعات الدرس ومعاهد البحث، وهي وحدها التي تخلع على صاحبها ثوب المجد، وترفعه إلى منزلة الخلود
فليس (تعصير) الأزهر أن ينزل به إلى تلك الدركة الدنيا من الحياة حيث يضطرب الناس ويتعايشون، وأن يعد أهله لمرافق الحياة وقضاء ضرورات العيش ليس غير، ليصير أحدهم معلم صبيان، أو مأذون قرية، أو إمام مسجد، أو واعضاً في مدينة. وتصبح تلك الجامعة الكبرى ولا هم لها أن تخرج لها إلا تخريج أولئك وتزويدهم بما لابد منه لأمثالهم! ويا ضيعة التأريخ المجيد إذن، ويا هوان الاسم الكبير الضخم، ويل السخرية من تلك الصفة الجامعية التي وسموا بها تلك المدرسة!
كم يمتلئ صدري أسى وحسرة حتى ليكاد قلبي أن يتفطر حين أشعر بذلك المصير الذي أخشى أن يهوى إليه الأزهر في سبيله إلى الإصلاح، ومسراه نحو التجديد، لولا أمل يغمر قلبي في حكمة الأستاذ الأكبر وبصيرته، وروحه الجامعية التي تتجلى في أحاديثه وخطبه، وفي أنه يترسم الأستاذ الإمام (قدس الله سره) في خطواته الإصلاحية، ومراميه العلمية
إن الضعف النفسي هو الثغرة التي تنفذ منها الروح المدرسية إلى الأزهر. فما اكثر ما تضيق النفوس بالكمال، وتنوء بتكاليف المثل الأعلى. ولكن الأمر في الإصلاح العلمي يجب ألا ينزل على حكم الضعف، فأن العلم يتطلب بطبيعته القوة المتحكمة، والعزيمة المصممة، كما يجب أن يسمو المصلح فوق الأهواء فلا يداهن فيها، وفوق شهوات النفوس فلا يتألف عليها أو يتملقها
أنا لا أقول إن (العلم زبال) كما كان يقال في الأزهر، فقد تطورت الحياة الاجتماعية تطوراً لا يسيغ ذلك القول؛ ولا أقول إن العالم يجب أن يعيش في صومعة يتابع فيها دراسته، ويوالي فيها تأملاته؛ أو يقنع بالدون من العيش في مقابل طموحه العلمي، فهذا ما لا سبيل إليه مطلقاً؛ ولكني أقول يجب ألا يكون العيش غاية العلم، فأنه متى صار أداة لمرافق الحياة وجب أن يتكيف بما تقتضيه، لا بما يقتضيه البحث العلمي والحقيقة المنشودة. وأي مسخ للعلم وتحويل له عن سبيله أشنع من هذا؟ وأني أعيذ بالأزهر - وله من ماضيه المجيد معاذ ومستعصم - أن يحقر تأريخه، وينكر ماضيه، ويكون صاحب هذه الجناية. ثم لعله مع هذا لا يوفق في تهيئة الترف والرفاهية والحياة الكريمة لرجاله، ويالها من عثرة!
وما أحقه إذن بقول الله جل شأنه: خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين
على أن الحياة لا تضن على الرجل الكريم الذي يبذل نفسه في سبيل العلم بما يضمن له راحة البال، وهدوء الضمير، وكرامة النفس، ومتاع العيش. ومن فوق ذلك كله ما يستشعره من سعادة لا تعد لها سعادة في كل لحظة من لحظات حياته العلمية الموفقة
ولقد أحس بأن الناس بدأوا يمجون ذلك الصنف من المعاهد التي تهيمن على الروح المدرسية. وبدأت الحياة تلفظ هؤلاء الذين أنطبعوا بطابع تلك الروح، فصاروا بالآلات التي تملأ لتفرغ أشبه منهم بالأحياء الذين حيويتهم دائبة على الخلق والإبداع. ولئن لم يتجل هذا المظهر اليوم تجلياً قاطعاً يمتلخ الشبهة، فأن الحياة صائرة إليه، ما من ذلك بد؛ وبين أيدينا مقدماته جلية
فليعرف الأزهر ذلك وليتدبره تدبر الحكيم البصير، ولا يصرفنه المتاع العاجل عن العاقبة القريبة، وعن حسن تفهم الأمور على وجهها الصحيح، وعن النظر في منطق الحياة الذي لا يختلف؛ ولا تغرنه الحياة الدنيا عن الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
محمد طه الحاجري
بكلية الآداب