انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 103/مكتبتي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 103/مكتبتي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

مكتبتي شيء عظيم جدا ً - ولست أعني إنها كبيرة ضخمة، وإن في خزاناتي آلافاً مؤلفة من المطبوع والمخطوط، فما عندي مخطوط واحد، ولا ولوع لي بجمع هذا الضرب من الكتب، وما يمكن أن تبلغ كتبي الآلاف بعد أن احتجت أن أبيع منها مرات، وإني لمجنون بالكتب، ولكن جنوني بما فيها لا بأشكالها وألوانها على رفوفها. وقد اعتدت ألا أبالي أن يبقى الكتاب عندي بعد أن أقرأه أو أن يذهب، ولم أكن كذلك، ولكن المرء مما تعود. على أنه سيان أن أتحفظ بالكتاب وأن أبيعه كما اشتريته، أو أهبه، فما إلى الوصول إليه سبيل في هذه الخزانات، ولأهون عليّ أن أشتري منه نسخة أخرى من أن أهتدي إلى موضعه وأعرف أين اختبأ. ومتى كان هذا هكذا، فما حرصي على كتاب يحاورني ويهرب مني وأنا أدور بعيني على الرفوف؟؟ وليس أثقل عليّ، ولا أشقّ على نفسي من الإقامة في بيت واحد زمناً طويلاً، ولو وكل الأمر لاختياري لاتخذت كل يوم بيتاً، ولكن الكتب راضتني على السكون وردتني على مكروهي، فأنا الآن كالمقعد لا أكاد أتحول، إلا أن أحمل على انتقالي حملاً؛ ذلك إني كلما سكنت بيتاً أروح أتخير للكتب أوسع الحجرات وأكثرها شمساً وهواء، ثم أقول دعوا الصناديق والغرارات حتى افتحها وأخرج ما فيها وأرتبه بنفسي، فتترك شهوراً، تنقلب الحجرة في خلالها مزبلة، فيتبرم أهلي ويلحون عليّ على أن أفرغ الصناديق،

فأقول: (لا بأس. موافق)

فتسألني زوجتي: (ومتى تفعل؟)

فأعدها خيراً، فتلح عليّ، فأؤكد لها إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله

فتقول: (إن شاء الله معناها عندك إنك لن تفعل أبداً)

فأقول: (أستغفر الله يا امرأة! إن شاء الله يعني إن شاء الله، أليس كذلك؟)

فتقول: (ولكني أريد تنظيف الغرفة! ألا ترى هذا التراب؟)

فأقول: (صحيح! كثير) لأني أحب أن أقرأ بالحق وأكره المكابرة، فتهمل الثناء على ذلك وتقول: (وهذه الصراصير؟ والفئران؟ لا. لم يعد هذا بيتاً يسكن) فأقول: (ألا أقول لك وأريحك؟)

فتقبل عليّ مسرورة وتسألني: (ماذا؟)

فأقول: (أفرغي أنت الصناديق، ورصي الكتب على الرفوف - عليّ أي ترتيب - وارفعي التراب، واقتلي الصراصير، وطاردي الفيران - وعلى الجملة نظفي الغرفة - هيه؟ ما قولك؟)

فتوافق، وأعود من عملي فألقي المكان نظيفاً، فلا فيران ولا صراصير ولا تراب، ولا صناديق، ولكني أحتاج إلى أن أرجع إلى كتاب، فأفتح خزانة بعد أخرى وأنظر إلى ما تكدّس على رفوفها فأرتد يائساً وأصيح بزوجتي: (يا امرأة! أين وضعت ابن الرومي؟) مثلاً!

فتقول: (عندك بالطرد) فأسألها: (أواثقة أنت أنك لم تضعيه في المطبخ؟)

فتقول محتجّة: (المطبخ؟ كيف تقول هذا؟ أهذا جزاءي على تعبي؟)

فأقول: (معذرة، ولكني لا أراه هنا) فتقول: (ابحث عنه) فأبحث - أعني إني أروح أخرج من الخزانة صفاً بعد صف، وأضع ما أخرج على الأرض هنا وههنا، حتى تخور قواي، وينفذ صبري، ويهي جلدي، وأنظر إلى ما فرشت به الأرض فأجزع، وأغافلها - أعني زوجتي - وأتسلل خارجاً، وأرد الباب ورائي حتى لا ترى شيئاً وأعود في الليل، وفي ظنّي إنها نائمة، وفي عزمي أن أعيد الكتب إلى الرفوف، فأفتح الباب برفق، فإذا الكتب قد وثبت بقدرة ربك، وصفت نفسها على الرفوف، وتزاحمت، ودخل بعضها في بعض - خوفاً من الفئران ولا شك! فأتنفس الصعداء وأفرك كفّي، وأقول: (الحمد لله! يا ما أكرمك يا رب!)

وإذا بزوجتي تقول: (وأخرتها معاك! ألا يمكن أن تعيد كتاباً إلى موضعه بعد إخراجه؟ ألا بدء أن ينشف ريقي كل يوم بسبب هذه الكتب؟ شيء غريب والله! كيف ومتى يمكن أن أفرغ للبيت إذا كانت هذه الغرفة همّاً لا ينقضي؟ وأحب مرة أخرى أن أقرأ في كتاب، فأدخل الغرفة، فتدخل ورائي تجري، وتتناول ذراعي وتشدني فأستغرب وأسالها (ماذا؟)

فتقول بحدة (ماذا أنت؟) فيزيد عجبي وقول: (ماذا أنا؟ ألا تعرفين ماذا أنا؟ سيدك يا ستي!)

فتقول وهي تجاهد أن تعبّس، والضحك يغالبها: (دع المزاح الآن! ماذا تريد أن تصنع؟) فأقول: (شيء جميل! وكيف يعنيك هذا يا امرأة؟)

فتقول: (يعنيني مصير الغرفة - هذا ما يعنيني يا سيدي - ولست أنوي أن أدعك تقلبها مزبلة فقد ورمت كفاي من العمل فيها)

فأقول: (وماذا تصنع هذه العجوز؟ تأكل وتشرب فقط وتقبض أجرها آخر الشهر؛ وهذه الفتاة الخفيفة لماذا لا أراها تعمل شيئاً غير اللعب مع الأولاد؟ وتلك الثالثة. . . أهو بيت أم دكّان مخدم؟ أريد أن أعرف هذا أولاً)

فتقول: (لا تحاور. إن الكتب لا يمسّها غيري، فإني أخاف عليها التمزيق. .) فأشكرها،

فتقول: (العفو! ولكني أخاف منك على الغرفة فاصنع معروفاً وارجع عنها)

فأسألها: (ولكن كيف أرجع وأنا أريد كتاباً؟)

فتقول: (لا تتعبني. . . من فضلك. . . أرجوك) فأشعر لها برقّة وأقول: (يا امرأة! هل استطعت قط أن أرفض لك رجاء!؟) وأتبعها، وأنصرف عن الكتب والقراءة، وأعزي نفسي بأني كنت سأنصرف لا محال عن ذلك مرغماً، فما أطمع أن أجد كتاباً أطلبه من هنا صار المعقول إني إذا اشتهيت أن أقرأ كتاباً أو أرد أن أراجعه، أن أشتريه، وقد أشتريه، وأضعه على المكتب إلى المساء، فتراه زوجتي فتفتح خزانة وتدسه في صف، وأعرف ما صنعت به، فأشتري نسخة أخرى، ومن أجل هذا أيضاً صار عندي من بعض الكتب ثلاث نسخ أو أكثر.

وقال لي أخي مرة: (يحسن أن ترتب هذه الكتب)

قلت: (يا أخي، كيف أصنع؟)

قال: (أجيئك ببطاقات، تكتب فيها أسماء الكتب مرتبة على حروف المعجم، فإذا طلبت كتاباً، راجعت البطاقات، فسهل عليك إخراجه)

قلت: (رأي سديد - هات البطاقات) فجاءني ببضع مئات منها، ودفع بها إليّ، فنظرت إليها وشكرته ثم قلت له: (أما البطاقات فجاءت، وأما الكتابة فيها فأحسبها تقتضي أن أخرج الكتب واحداً واحداً، وأقيّد أسماؤها، ثم. . .)

فصاحت زوجتي: (لا لا لا لا! أرجو. . . أرجو ألا تفعل. . .)

فالتفت إليها وقلت: (يا امرأة! كيف ترضين عن هذه الفوضى؟ بل لا بد من الترتيب) فقالت: (أنا واثقة أن الكتب لن ترتّب. وكل ما يحصل هو أن تخرجها وتكوّمها على الأرض وتتركها، فيغطّيها التراب، وتجتمع عليها الصراصير، فأعود إلى نفض التراب وطرد الصراصير. . . لا يا سيّدي! لن أسمح بهذا أبداً!) فنظرت إلى أخي وقلت: (أتسمع؟ إنها لا تسمح! فما رأيك؟)

قال: (الحق معها. ولو كنت أنا مكانها. . .) فلم أدعه يتم الجملة وصحت به: (أعوذ بالله!) فشكرني، وقال (إنما أعني. . .) فعدت إلى مقاطعته وقلت: (دع ما تعنيه، من فضلك، وحسبك إنك نغصت على حياتي!) فدهش وقال: (كيف؟)

قلت: (سأرى وجهك بعد الآن كلما نظرت إلى امرأتي. . . أعوذ بالله. . . يا ساتر يا رب. لطفك اللهم!) وقد حرصت على البطاقات، لأقيّد فيها أسماء الكتب مرتّبة على حروف المعجم، فما من هذا مفر، ولكن العقدة إن زوجتي تؤثّر الترتيب الحالي، وقد بلغ من رضاها عنه وخوفها عليه أن يضطرب أو يفسد، إنها أخفت مفاتيح الخزانات لا أدري أين؟ بارك الله فيها - أعني لا الخزانات.

إبراهيم عبد القادر المازني