انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 103/ساعة في البقيع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 103/ساعة في البقيع

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935



للأستاذ علي الطنطاوي

خرجنا إليه في صفرة الطفل، وقد سكرت الريح، وسجى المساء. وكان اليوم روحاً، فما تجاوزنا أزقّة المدينة الضيّقة الملتوية وبدا لنا سور البقيع الهائل الذي أقاموه في وجه مدينة الموت كيلا تبتلع مدينة الحياة. . . حتى هبّت الرياح لواقح، فأنشأت سحاباً ما لبث أن أكفهر وتطخطخ وعمّ السماء، فأظلمت الأرض واسودّت، وعادت كئيبة تملأ النفس غمّاً. وكنّا قد بلغنا البقيع، فرأيته موحّشاً مظلماً رهيباً: (قاتم الأعماق خاوي المخترق) وشممت منه رائحة الموت، فتهيبت دخوله في هذه الأمسية، وأزمعت العودة، ولكن صاحبي أصرّ عليّ وشجّعني، ثم أخذ بيدي فإذا أنا وراء السور، وإذا ساح فسيحة، ممتدّة الجوانب، مظلمة الأرجاء، ساكنة سكون الموت، ليس فيها بناء ولا قبّة ولا تابوت، كأنما لم يسمح لبشر أن ينصّب في حرم الموت معالم الحياة، أو يدنس دار البقاء بشارات الفناء. . . فأغمضت عيني، وشددت على ذراع صاحبي، وجعلت أدنو منه لما أجد من الوحشة وأحس من الجزع، وما عاهدتني من قبل أعرف الخوف أو أدري ما الجزع، فسار بي يقودني حتى هبط بي غوراّ عميقاً، حال بيني وبين الفضاء، وحجب عنّي السور الذي كنت أراه فأنس برؤيته، وأذكر إنها لا تزال وراءه دنيا حافلة بالنور والجمال والحياة. . . فلم أعد أرى شيئاً، وأمحت من خيالي كل صورة، وطارت من رأسي كل فكرة، إلا فكرة الفناء، وصورة الموت، وأحسست وأنا أهبطه إني هابط إلى القبر! وخيّل إلى إن أشباح الموتى ترقص من حولي، وتدنو مني وتمسّني وتهم بعناقي، فتقف كل شعرة في جسمي، ويزداد قلبي خفقاناً، وتتخاذل ركبتاي حتى أهم بالسقوط، ويطن في أذني صوت رهيب مستطيل يلقى في روعي إنه نشيد الفناء. . . وكان كل ما يحف بي مخيفاً رائعاً، فالقبور، والظلام الشامل، والسكون العميق، والسماء التي لا تطرف فيها من النجم عين، والمكان الذي لا تبلغه نسمة من نسمات الحياة، وجلال الموت، كل أولئك كان يخيفني، ويصب في قلبي الوحشة والفزع. . . ثم صاحت بومة على سور المقبرة. . . فاستمسكت بصاحبي وقلت: عد ويحك!

قال: كيف أعود وقد بدأت الزيارة. . . هذا قبر عثمان! وكأن ذكر عثمان قد رجّع إ نفسي، فنظرت فلم أجد قبراً ولا شيئاً يشبه القبر، وإنما وجدت حجارة صغيرة قد صففت على وجه الأرض، وفرشت من حولها رمال حمراء ناعمة، كحوض أعدّ لزرع فيه الورود، فقلت: أتهزأ بي يا. . .

قال: لا والله. ولكنّي أقول الحق. هذا قبر عثمان

قلت: يا لسخرية القدر! أتحرثون موضع قبر عثمان أمير المؤمنين لتزرعوا فيه الورود؟

قال: أي ورود؟ كل القبور هكذا. . .

قلت: لعلّك أخطأت القبر. اذهب فاقرأ اسمه

قال: قد طمست الأسماء، فما عليه من أسم. ولكن ثق إنه هو. أعرفه من هذه الغضاة!، أشار إلى غضاة قريبة منه لا أدري كيف دخلت حرم الموت فأنست بها. وذكرني الغضى دنيا مليئة بالصور، مترعة بالحياة نفت عني بعض ما أنا فيه من الغربة والجزع، فقلت: وكيف تعرف غيره من القبور؟

قال: ما أعرف إلا قبور آل البيت، وقد كنت أعرف قبر مالك فاختلط على ونبيسته، ولكن يعرفه إذا شئت (العم حمد) خادم المقبرة، وبعض الشيوخ من أهل المدينة. . .

وانقطع الحديث فقد استشرى البرق وائتلق، ورعدت السماء، ثم هطلت بمطر بعاق قشرة وجه الأرض. وجعل فيها بركاً وأنهاراً، فلم نجد شيئاً يعصمنا من الماء نأوي إليه، إلا هذه الغضاة وما تكاد تعصمنا. . . والمطر في الحجاز أعجب شيء رأيته: فبيّنا الشمس طالعة، والأرض متسعرة، واليوم خدر عصب، وإذا السماء قد تلبّدت بالغيوم، ودوت بالرعد، والأمطار قد نزلت كأفواه القرب، واليوم قد عاد قرّاً بارداً، ثم لا تلبث حتى تنجلي السحب، وتصحو السماء، فتنظر فإذا الأرض قد بدّلت غير الأرض، وإذا السيول قد جرفت البيوت، وخرّبت الطرق، وطمّست المعالم، كما يطمس سطر سال عليه ماء. . . ولقد ضنناها سحابة صيف ولكنّها لم تنقشع، ولم تزدد الأمطار إلا شدّة وتهطّلاً، ولم يزدد الرعد إلا قعقعة وقصيفاً، حتى كأن الدنيا مجنونة، عاودتها نوبتها، فهي تصرخ وتقفز وتمزّق ثوبها بيدها، وتشق حنجرتها بصراخها. . . بيد إني لم أكن أحفل بالبرد ولا بالمطر، ولم أكن أذكر الخوف ولا الجزع، ولم أكن أفكر إلا في هؤلاء الأبطال الذين فتحوا الدنيا، وملكوا العالم، ثم ظنّوا عليها بقبر يعرف، أو اسم يقرأ، أفكر في هؤلاء العظماء. . .

كم انحنت تحت أقدامهم هام الجلاميد الصم حتى وطئوها، كم استكانت لهم هذه الرمال الهائلة حتى قطعوها، كم دانت لهم البادية المهلكة حتى جابوها، ليخرجوا منها فاتحين إلى أرض الرياض والعيون، فيبلغوها رسالة الصحراء، وينشروا فيها دين الصحراء! لقد انتصروا على البادية المهلكة، والشمس المحرقة، والجوع القاتل، والعطش المميت، والعدو الجبار، والجيش الجرار، ثم انتصر عليهم البقيع، فإذا هم مستقرّون في أحشاءه، وإذا هم قد ناموا فيها إلى الأبد، فلن يذهبوا إلى الحرم ليقيموا الصلاة، ولن يمتطوا ظهور جيادهم ليمشوا إلى الجهاد، ولن يحملوا الراية الإسلامية لينصبوها إلى أقصى العالم، ولن تستقبلهم زوجاتهم وأولادهم وإذا عادوا ظافرين، بل هم لا يرون طلعة الشمس ولا يبصرون صفحة القمر، ولا يسيرون على وجه الأرض. . . انتصرت أيّها البقيع؛ فما وفّيت ولا أنصفت. . . جاءك الأبطال الذين فتحوا الدنيا، ونشروا راية العدل على الأرض، وأضاءوا طريق الهدى للناس، ليستريحوا في إرجائك، ويناموا في حماك، فحرمتهم قبراً يعرف لهم، وحجراً تكتب عليه أسماؤهم ما نريد منك أن تنقش على قبورهم آيات التبجيل والثناء. فإن لهم من أسماؤهم الكبيرة، غنيّة عن كل تبجيل وثناء لكنّا نريد ألا تنسى هذه الأسماء

سيموت الشيوخ الذين يعرفون هذه القبور، أف يرضيك أيها البقيع أن يأتي الجيل الجديد، فيفتّش عن هذه القبور فلا يجدها، فيقول: هاتوا المعول، هاتوا الأحجار. . . أبنوا هنا ملعباً! لا نجد في هذه المدينة خيراً من هذه الساحة، إنها لا تترك أرض سدى! ثم بينما هم يتقاذفون الكرة، إذا بهم يخطئون فيتقاذفون واحدة من هذه الجماجم. . . أنسيت أيها البقيع إن كل مسلم يحس إنه يملك في هؤلاء الأبطال ملكاً، وإن هذا الرفات ليس من حقّك وحدك، ولكنه حق لكل مسلم ولد أو يولد إلى يوم القيامة. . . وإنك إن طمست هذه الأسماء، حتى يجهلها المسلمون، أسأت إلى كل المسلمين؟

أنسيت أن أضيافك عظماء البشر، أف تستحق العظمة هذا الإهمال الشائن، وهذا النسيان المخزي، أم ذنبهم إنهم لم يكونوا فرنجة ولا إنكليز؟! أف يكون البانتيون لأبنائه أوفى منك لأبنائك أيّها البقيع؟ إنه لم ينقص من مجدهم إنها لم تشيّد لهم القبور، ولم تنقش أسماؤهم على صفائح الحجر، وحسبهم إنهم شيّدوا مجداً وبنوا أمة وكتبوا تاريخاً، فإذا نسى التأريخ أبطاله ومنشئيه، فقدماً نسى التاريخ الأبطال! وهل ذكر التاريخ أولئك الجنود الذين سقوا الأرض بدمائهم حتى أنبتت مجد نابليون فأقتطفه؟. . هل ذكر أولئك القصاص الذين أهدوا إلى شكسبير قصصهم الرائعة فرواها؟ هل ذكر أولئك الملاحين الذين غامروا بأرواحهم حتى أوصلوا كولومب إلى الساحل الجديد وأمسكوا بيده حتى نزل إليه؟. . ماذا كان نابليون وشكسبير وكولومب لولا أولئك الأبطال المجهولون الذين نسيهم التاريخ؟ لا بأس أيها البقيع فإن البطل الحق هو الذي لا يعرفه أحد!

وازداد الرعد قرقرة وهزيماً، وعقّ البرق وتكلّح، وأغدقت السماء وجادت، وعصفت الريح وأعجّت وجنت الدنيا جنونها، فنظرت فإذا السيل قد جرف قبر عثمان فلم يبق له من اثر. .!

فقلت: أطبقي يا سماء، وتشقّقي يا أرض، وتصدّعي يا جبال. . . إن من ملكوا العالم لا يجدون القبور. . .

علي الطنطاوي